fbpx

“قصتي المكتومة ودوائر الأيدي التي أنهكتني”…

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كانت الهواجس راكدة في داخلي لكن حادثة فتاة المنصورة قضت على محاولاتي للإنكار. أتابع الفيديوات وأنا أقبض على يدي بقوة، فكل واحد من هؤلاء له عندي صفعة قوية رداً على ما فعلوه مع فتاة المنصورة وما فُعل بي وبلارا لوغان وفتاة التحرير وفتاة العتبة والفتيات الأخريات المجهولات.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“تروما التجمعات، الدايرة، الكماشة”، ليس هذه الكلمات محمّلة بالخوف والخيبة وحسب، بل أيضاً بتاريخ من العنف ضد النساء، تاريخ هامشي غير مَرويّ، مُسيج بالكتمان، يُروى في الهوامش، إما في عيادات الطب النفسي أثناء العلاج الشفهي لتأهيل الناجيات من العنف، أو بشكل متناثر في منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، في قوالب تصطادها بسهولة أحكام الآخرين. وقد تصنّف حكايات الوجع تلك ضمن الروايات السينتماليتية أو العاطفية المشكوك في صدقيتها.

أكتب هنا في محاولة للبوح بروايتي عن التحرش الجماعي وروايات أخريات فضلن جميعهن الحديث بأسماء مستعارة، للنجاة من الوصم والأحكام والملامة.

حكايتي…

تعرضتُ للتحرش أثناء تغطيتي تظاهرات محافظة بني سويف ضد الإخوان للمطالبة برحيل الرئيس السابق محمد مرسي عام 2013، بعد دعوات “تمرد” للإطاحة به وبجماعته.

 قبل ذلك كنتُ أمارس عملي كصحافية ميدانية في القاهرة، ولدي هذا الهامش الواسع للتحرك بحرية في الميادين الرئيسية في العاصمة، أسهرُ على الرصيف مع أوراق وكاميرا وأقلام وحاسوب صغير، أرسلُ الأخبار واللقطات العاجلة بمكالمات تلفونية، وأكتبُ تقارير الرصد بتأنٍ عبر الإيميل. لم أعرف الخوف أو النوم في أيام ثورتنا الأولى في 2011. ربما كان هذا الهامش متخيلاً، كي أظل متمسكة كغيري بالحالة الطوباوية التي نتخيل فيها ثورتنا الطاهرة، وهذه الحالة الطوباوية لن تسمح لي بأن أتذكر طوال الوقت لارا لوغان مراسلة قناة “سي بي أس” الأميركية التي تعرضت لتحرش واعتداء جماعي، وعُريت تماماً في ميدان التحرير عام 2011. قبل ذلك لم أفكّر بلارا كثيراً، كنتُ كثيراً أمرّر بعض الشفقة على حكايتها ثم أنساها لأنشغل بالحدث الأكبر، الثورة… كان ذلك قبل أن أصبح أنا لارا لوغان…

حين انتشرت دعوات التظاهر ضد الإخوان في 30 حزيران/ يونيو 2013 كنت أناقش مع زملاء صحافيين، خطة المناطق والمحافظات التي علينا وضعها في صدارة التغطيات، وقلت إن محافظة بني سويف تستحق منا اهتماماً فهي بلد المرشد، وفيها عدد كبير من القيادات، والجماعة هناك متجذرة شعبياً، والتظاهر ضد الاخوان هناك سيلهب الأحداث، وربما تقع اشتباكات. وكان لزملائي رأي مخالف، وهو أن هذه المحافظة هادئة، ويكاد لا يخرج لها صوت، ومع إصراري، كان الرد بالموافقة: “طيب روحي وورينا ونحن نراهن أنك ستتصلين بنفس أداء محمد هنيدي قائلة (أحدثكم من أهدأ منطقة في العالم)”.

سقطتُ في كومة كبيرة من الفزع، ولا أدري كيف تحمّل قلبي هذه الدفقات القوية من الرعب، ولم تتوقف دقاته، كل ما أتذكره أن الأرض صارت لينة تماماً كقطعة عجين جاهزة لابتلاعي، وغرقت بعدها في موجة مياة جارفة وباردة.

حزمت حقيبتي وقطعتين من الملابس السود المحتشمة ومعدات العمل، ووصلت إلى بني سويف، وأقمتُ في شقة صديق تركها لي وذهب ليعيش مع والدته، حتى أنتهي من مهمتي. بدأت التظاهرات. مسيرات متوسطة العدد، أغلبها يؤيد مرسي، مقابل تظاهرات أخرى معارضة له. المعارضون كانت تحميهم الشرطة وتقف في صفوفهم، والإخوان بدأوا يتوافدون بالأسلحة البيض، وبدأت حرب الشوارع. قنابل غاز وكر وفر ورصاصات تطلق في الهواء، حتى سقط أول قتيل في صفوف الجماعة، ليزداد الوضع اشتعالاً. كنت وقتها أرسل الأخبار كل دقيقة. وواقعة سقوط أول قتيل حولت زاوية الاهتمام إلى المحافظة المعزولة، وبدت مسألة الرهان مع زملائي سخيفة أمام توافد آلاف الناس، وأطفال يُدهَسون في الكر والفر، ومستشفيات ميدانية وخيم. أصبح ميدان “المديرية” نموذجاً حرفياً مصغراً عن ميدان التحرير، وازدادت مكالمات الاتصال من برنامج الإعلاميين المعروفين يسري فودة وليليان داوود للحصول على متابعة لما يحدث في هذه المحافظة، التي انتفضت فجأة. كنت في ذروة التركيز، أحاول أن أتابع المشهد، من دون أن أنهار، بسبب كثرة الأحداث والجري بين المستشفى الميداني والجوامع وصفوف التظاهرات وتقارير الطب الشرعي عن الوفيات وتصريحات الأمن وغيرها، كان هاتفي لا يتوقف عن الرنين، قنوات من كل جهة ترغب في مداخلة، لذا كان الوضع يستوجب أن أتابع على مدار الساعة حتى في ساعات الليل المتأخرة، ولم أكن أمانع…

فتاة وحيدة 

أمضيتُ نهاراً يعج بالأحداث، ودقت الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل، فكرت أن أنهي بنفسي مهمة عمل هذا اليوم، لولا أنباء عن اقتحام مبنى المحافظة. سارعت ناحية التجمع أمام المبنى، لم أدرك وقتها أنني الفتاة الوحيدة وسط موجات من الرجال، الذين تصعب معرفة انتمائهم، فمبنى المحافظة قد يرغب في السيطرة عليه الاخوان ومعارضوهم. مضيت بثبات وسط صفوفهم، وأدركت أن هناك طرفاً ثالثاً غير الإخوان والمتظاهرين. كان عناصر تابعون لقوات الأمن بزي مدني يتابعون كل تفصيل يحدث، محاولة منع تفاقم الوضع.

أنهيتُ التغطية وحصلت على أرقام هواتف بعض الموجودين في قلب الحدث كي أتابع المستجدات معهم، لكن ما أن أدرت ظهري ومضيت في أحد الشوارع الجانبية حتى سمعت أصوات صفير عال، وكأن هناك عناصر يأمرون بعض الأفراد بالتجمع. لم أستوعب ما يحدث، حتى أدركت أن هناك نصف دائرة تتشكل وتتجه نحوي، وبمجرد وصولها ستكتمل وتحاصرني، نفس الدائرة المفزعة نفسها التي حاصرت لارا لوغان. لثوان تخيلت أن ما يحدث هلوسة داخل كابوس بسبب التعب… لكنني حقاً لم أكن بمزاج يسمح بالمزاح. تمنيت الموت قبل أن تكتمل الدائرة، وسقط قلبي بين قدمي حين اكتملت.

سقطتُ في كومة كبيرة من الفزع، ولا أدري كيف تحمّل قلبي هذه الدفقات القوية من الرعب، ولم تتوقف دقاته، كل ما أتذكره أن الأرض صارت لينة تماماً كقطعة عجين جاهزة لابتلاعي، وغرقت بعدها في موجة مياة جارفة وباردة. لا أتذكر أي لمسات أو أيادٍ مدت على جسدي، حرفياً ربما ابتكر  جسدي نوعاً من الميكانيزم الدفاعي الحصري كي لا أشعر بأي ملمس على جلدي، كل ما أتذكره هي عبارات من قبيل، “هي مش لابسة حمالة صدر؟ هي مش لابسة أندر؟”. أذكر أنني كنت أردد بصوت عالٍ “أنا لابسة أنا لابسة”. بعدها وجدت نفسي على دراجة نارية تنطلق بي من داخل هذا التجمع، كنتُ بكامل ثيابي، وكان هذا مطمئناً بشكل كبير، عدت إلى الشقة وأنا أرتجف وأعاتب نفسي لأنني لم أخبرهم أنني ابنة محافظة بني سويف في الأصل، وأنهم أهلي وعشيرتي…

كان اليوم التالي جنازة قتيل الإخوان، انطلقت صباحاً محمَّلة بكابوس ثقيل، حتى فكرة استيعابه ترتكتها تتأجّل. قمت بالتغطيات المطلوبة، فيما قصتي المكتومة تعتصر في قلبي.

فتاة المنصورة

كانت تلك الهواجس راكدة في داخلي لكن حادثة التحرش الجماعي التي عرفت بحادثة فتاة المنصورة التي حصلت في مطلع العام الحالي قضت على محاولاتي للتجاسر والنسيان والإنكار. كنت أتابع الفيديوات وأنا أقبض على يدي بقوة، فكل واحد من هؤلاء الذين تجمهروا للتحرّش بها، له عندي صفعة قوية آمل أن تكون مدوّية، رداً على ما فعلوه مع فتاة المنصورة وما فُعل بي وبلارا لوغان وفتاة التحرير وفتاة العتبة والفتيات الأخريات المجهولات.

في فيديو فتاة المنصورة كان إيقاع مشيتها قبل إحكام الدائرة عليها، إيقاعاً واثقاً وثابتاً، عكس إيقاع صديقتها الخائف والمهتز، وللمفارقة أن صديقتها أنقذها خوفها، فنجحت في الإفلات من هذه الدائرة، بينما فتاة المنصورة التي ظلت قدماها ثابتتين تحاول الحفاظ على مساحتها في المجال العمومي في خطوات جسورة ومتحدية، كانت الأولى بتضييق الخناق، لأن جسدها الأنثوي بكل ثقته وحريته في الارتداء أو التعري، هدم السلطة والبنية الطبقية والسيادة، وهدم الثقافة الأبوية والنظام السياسي المبني على سيادة الذكر، كانت تهدم تاريخاً راسخاً، فكان لا بد من إلحاق العار بها ومحوها.

مريم والعباءة

مريم مسعد (اسم مستعار) تعرضت لتحرش جماعي في منطقة سكنها، تقول: “بعباءتين سوداوين لامعتين نزلت أنا وأختي لنشترى مستلزمات من السوبر ماركت، الذي بجواره مقهى شعبي. فجأة جاء شاب من المقهى ووقف خلفي ووضع إصبعه على مؤخرتي، فصرخت وتجمع كل “الصيع” اللي ع القهوة كانوا يدعون أنهم آتون ليلقنوا المتحرش درساً في الأخلاق لكن أياديهم أيضاً دهستني. لم يراعوا أنني ابنة منطقتهم، بالعكس أحسست أن ما يمارس عليّ هو نوع من العقاب الجماعي، اضطررت أنا وأختي إلى الهروب نحو البيت، وسمع أبي بما حدث وقلنا أنهم شباب ضايقونا، ولم نسرف في سرد التفاصيل حتى لا يتشاجر والدي مع صيع الحتة وتحدث جريمة”.

تضيف مريم: “من وقتها وأنا أكره لبس العباءات وكلما أتخطى عتبة منزلي نحو الشارع يرتج جسدي، وكلما ألمح شاباً في الشارع الذي أسكن فيه أفكر إن كان لمس مؤخرتي في يوم العباءة الأسود”.

الجسد بين الأجنبي والمحلي

قد يكون لقصة مريم وعباءتها تفسير لدى الكاتبة نورا أمين، التي ذكرت في كتابها “تهجير المؤنث” أن الجسد الأنثوي الأجنبي في المجال العمومي في مصر، يصبح أكثر خطراً من الجسد المحلي، لأنه لا يلتزم بالضرورة بالسلوكيات العامة للأنثى المحلية. إنه الجسد الذي قد يتحدى الذكر والأنثى معاً في الثقافة المحلية. لهذا السبب يتعاظم الدافع وراء ترويض ذلك الجسد، وأحياناً ما يمر ذلك الترويض عبر الإسقاط الخفي، أو الاعتداء الجنسي الجماعي”.

في ذكرى ثورة يناير 2013 كانت هناك حادثة أخرى مع هند التي عريت هي وصديقتها داخل كماشة داخل إحدى تظاهرات ميدان التحرير. كانت هند تروي واقعة التحرش الجماعي بها داخل ميدان التحرير، وهي بكامل ثباتها الانفعالي، وكأنها تحكي قصة عن امرأة أخرى تعرضت للتحرش الجماعي، وكأنها في حالة النكران المعروفة التي تلجأ إليها المعنفات جنسياً للهروب من ثقل التجربة وحدّتها، بخاصة إذا لم يحصلن على دعم نفسي على المدى الطويل.

قصة هند وحديثها عن الحادث والجسد المنتهك وكأنه جسد آخر غير جسدها، أبلغ تأكيد أن التحرش الجماعي لا يرتبط بالجسد فقط، بل يتجاوزه بكثير، فحينما يتم اختراق الجسد تخترق أيضاً الخصوصية و”الجدار بين ما هو حميمي وغريب”.

تقول نورا أمين في كتابها إن المترتبات النفسية للتحرش الجنسي، مركبة للغاية ولا تخضع لأي استنتاجات تبسيطية وينتهي بنا الأمر إلى اكتشاف أن نصف المصريات يعشن في صدمة ممتدة، إن لم تكن فجيعة. لقد أنتج الاعتداء الجنسي تجاه النساء والبنات أثراً ممتداً من الصدمة الجماعية إلى الدرجة التي لم تعد معها غالبية النساء تعرف الصدمة أو تميزها على أنها صدمة. تتصور كثيرات أن ذلك الإحساس بالفزع والقلق المستمر والتوتر ما هو إلا جزء من الحالة “العادية” لجميع النساء أصلاً، وبالتدريج يقعن في مزاج سلبي من كراهية الذات والإنكار.