fbpx

في عدوى “الكفاح المسلح” الفلسطيني لبنانياً وعراقياً وسورياً

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

نقلت تجربة “الكفاح المسلح” الفلسطيني عدواها إلى الحياة السياسية العربية، وإلى الوعي والضمير العربيين، ربما بما لا يقل عما حازته “الناصرية”، أيام ازدهارها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يجوز طلب كشف حساب “الكفاح المسلح” الفلسطيني، الذي انطلق في منتصف الستينات، وطبع الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة بطابعه، لأن أي تجربة سياسية هي تجربة بشرية، أي ليست منزلة من السماء، ولا مقدسة، لذا بديهي أنها يجب أن تخضع للمساءلة والمحاسبة والنقد، بما لها وما عليها. يجوز ذلك، أيضاً، لأن تجربة الفلسطينيين تعرضت إلى تحولات كبيرة، ووصلت إلى طريق مسدود، على رغم التضحيات الكبيرة التي بذلوها طوال 55 عاماً، وأخيراً يجوز ذلك خصوصاً بسبب التأثير أو العدوى التي نقلتها أو نشرتها تلك التجربة المسلحة في محيطها. 

طبعاً ليس الغرض محاكمة تلك التجربة، والحركة الوطنية التي حملتها، بمفعول رجعي، إذ كانت ألهبت خيال كثر، في حينه، من المثقفين والأدباء والفنانين والمفكرين والسياسيين في العالم العربي (ربما باستثناء السوريين المتميزين الياس مرقص وياسين الحافظ اللذين لم يقصرا في نقدها في عزّ صعودها)، ولا الغرض من ذلك إدانتها، أو التبرؤ منها، وفق عقلية اليوم، أو بناء على ما آلت إليه الأمور، فلا أحد يشترط النجاح على الحركات أو التجارب السياسية، مهما كان نوعها، وإنما يصحّ الاشتراط على مقاصدها، وغاياتها، النبيلة والعادلة، لذا فإن الغرض من المحاسبة هو إعمال البحث في تلك التجربة وإجراء مراجعة نقدية لمساراتها وتحولاتها ومشكلاتها وتأثيراتها لاستنباط الدروس والعبر منها. 

وفي الواقع فإن تجربة “الكفاح المسلح” الفلسطيني، والحركة الوطنية الفلسطينية عموماً، نقلت عدواها إلى الحياة السياسية العربية، وإلى الوعي والضمير العربيين، ربما بما لا يقل عما حازته “الناصرية”، أيام ازدهارها، وبأكثر مما حازته الأحزاب الإسلامية أو الشيوعية، في الفترة من أواخر الستينات إلى أوائل الثمانينات، بخاصة في بلدان المشرق العربي، إذ لعبت دوراً كبيراً في تشكّل الإدراكات أو الأساطير السياسية المتعلقة بالصراع ضد إسرائيل. 

ولعل فكرة الكفاح المسلح، أو التصارع بواسطة السلاح، كانت العدوى الفلسطينية الأكثر تأثيراً في المشرق العربي، لا سيما لبنان والعراق وسوريا، على نحو ما شهدنا، بعد أفول التجربة الفلسطينية المسلحة، إثر الخروج من لبنان (1982). ومشكلة كل تلك التجارب (بما فيها الفلسطينية)، أنها تمخّضت عن خسائر باهظة في الأرواح والعمران والنسيج الوطني، وأنها انتهت إلى سلطة في إقليمها، بغض النظر عن شعاراتها، أو ادعاءاتها. هذا حصل مع “فتح”، كسلطة في الأراضي المحتلة (بعد اتفاق أوسلو 1993)، وبعدها مع “حماس” (كسلطة في غزة منذ 2007)، والتي وصلت أخيراً، بثمن باهظ (حصار 12 عاماً وحروب إسرائيلية مدمرة على غزة) إلى حيث وصلت “فتح” قبلها بعقدين. 

هذا حصل، أيضا، في الكوارث التي نجمت عن قيام جماعات ميلشياوية مسلحة، في لبنان والعراق وسوريا، بغض النظر عن اختلاف مراميها أو ادعاءاتها السياسية وطابعها الطائفي – المذهبي، فتلك المشاريع، تمخّضت عن كوارث في إقليمها، وعن نوع من سلطة متسيّدة على مجتمعها بواسطة الغلبة بالسلاح.

“كفاح” حزب الله…

هذا ينطبق على “حزب الله” في لبنان، الذي ظهر، بخاصة بعد الحراكات الشعبية الأخيرة، كأحد أهم حراس نظام الفساد والطائفية في لبنان، والذي بني كحزب لطائفة معينة، ويتبع لدولة معينة (إيران) وليس كحزب وطني لبناني، عدا عن انصرافه عن المقاومة منذ عام (2000)، باستثناء لحظة خطف الجنديين الإسرائيليين (2006) التي كانت لتوظيفات خاصة تتمثل بتأكيد الحزب هيبته في لبنان، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري من لبنان (2005). ولعل ولوج “حزب الله” في الصراع السوري، ومشاركته في قتل السوريين هو أكبر تعبير عن ابتذال فكرة الكفاح المسلح، لا سيما أن كل ذلك تم باسم فلسطين وبمبرر الدفاع عن محور المقاومة والممانعة. وللعلم فإن مقاومة “حزب الله” التي استمرت 18 عاماً (بين 1982 و2000) تمت بوتائر محسوبة من قبله، وفي المناطق اللبنانية التي احتلتها إسرائيل، وعلى القشرة الحدودية، ونجم عنها مصرع حوالى 850 إسرائيلياً، بمعدل 48 إسرائيلياً في العام، وهو يقارب عدد القتلى الإسرائيليين إبان الانتفاضة الشعبية الأولى (1987 و1993)، في حين أن متوسط عددهم في الانتفاضة الثانية، التي طغت عليها العمليات المسلحة، بلغ 260 إسرائيلياً، وذلك من شعب تحت السيطرة الإسرائيلية المطلقة.

وفي العراق حصل مثل ذلك، مع ميليشيات عصائب الحق وفيلق بدر وكتائب أبو الفضل العباس و”زينبيون” و”فاطميون”، وعشرات الفصائل المسلحة الأخرى (لم تجد مركزاً لها كما “حزب الله” في لبنان)، والمشكلة أن هذه القوى أيضاً، التي غلب عليها الطابع الطائفي – المذهبي، تكشفت عن جماعات الغرض منها تكريس هيمنة إيران في العراق، وتبديد ثروات العراق، وتقويض بني الدولة والمجتمع فيه، وهو ما عبرت عنه في استشراسها في الدفاع عن نظام الفساد والطائفية في العراق، أخيراً، والذي ضيع 17 سنة من أعمار العراقيين، بعد التخلص من نظام صدام، وكل ذلك، أيضاً، باسم الدفاع عن محور المقاومة والممانعة.

الحالة السورية

الحالة السورية تأثرت أيضاً بالعدوى الفلسطينية، ساهم في ذلك استخدام النظام اقصى العنف في مواجهته المتظاهرين السلميين في الأشهر الثمانية الأولى من الثورة على نظام بشار الأسد (مطلع عام 2011)، كما ساهم في ذلك حرمان السوريين من وجود أحزاب قوية، وافتقادهم تجارب كفاحية سابقة. ووفقاً لذلك كان الطريق مفتوحاً للتلاعبات الخارجية لجر السوريين إلى مربع التصارع بالسلاح، أي إلى المربع الأقوى للنظام، والذي يبرر له المزيد من البطش، ما مكنه من تحويل الصراع السياسي على شكل النظام إلى مقتلة رهيبة ودمار مهول، وإلى نوع من صراع طائفي مرير، ما نجم عنه تشريد الملايين، ومصرع مئات الآلاف. هكذا فإن عدوى الكفاح المسلح الفلسطيني، بشكلها المرضي، شملت تجربة المعارضة السورية أيضاً، التي توهمت أنها يمكن أن تسقط نظام الأسد بالبنادق وبعض الهاونات والأسلحة المتوسطة، وبالتدخل الخارجي، من دون مبالاة بترسانة السلاح التي يمتلكها النظام، وضمنها القوى الجوية، والصواريخ والبراميل المتفجرة، إضافة إلى الميلشيات الإيرانية والقوى الجوية الروسية، حتى أنها لم تتدارك ذلك لا في العام الثاني ولا الثالث ولا الرابع ولا الخامس، وإلى الآن، وعلى رغم أنها تخسر المنطقة تلو الأخرى، وهي في كل منطقة كانت تدعي قبل ان تسقط، بأنها قاب قوسين أو أدنى من إسقاط النظام.

لعل فكرة الكفاح المسلح، أو التصارع بواسطة السلاح، كانت العدوى الفلسطينية الأكثر تأثيراً في المشرق العربي.

طبعا من السذاجة الاعتقاد أن البديل كان يكمن في الكفاح الشعبي السلمي، لأن هذا الطريق لن يسقط النظام أيضاً، لكن الفكرة هنا أن العمل المسلح تم تجريبه وتمخض عن كارثة، ولم يسقط النظام، في حين أن الكفاح السلمي كان يمكن أن يجنب السوريين تلك الكارثة، وأن يبقي أغلبيتهم في بيوتهم ومدنهم، ربما باعتبار ما حصل في الأشهر الأولى من الثورة مجرد مرحلة، أو “بروفا”، في مراحل تفكيك، النظام أو إسقاطه مستقبلاً.   

والحقيقة، أن سيادة فكرة أن الكفاح المسلح ستحرر فلسطين لم تخطر على بال حركة “فتح”، التي أطلقت الرصاصة الأولى، لأنها كانت تعتقد بأن مهمتها تتحدد فقط في تحريك الجبهات العربية، و”التوريط الواعي” للأنظمة، وأن الفلسطينيين طليعة القتال ضد إسرائيل، وأن الجيوش العربية هي التي ستحسم المعركة (وذلك في أدبيات فتح الأولى). بيد أن توظيفات الأنظمة في ما بعد، وضمن ذلك محاولتها التغطية على هزيمة حزيران (1967)، وشرعنة وجودها، وتبرير طريقة إدارتها للسلطة والموارد، حفزتها على النفخ في الظاهرة الفلسطينية المسلحة. بالنتيجة وبدل أن تجر الحركة الوطنية الفلسطينية (عن سذاجة سياسية وقتها) الأنظمة، وتورّطها، في الصراع ضد إسرائيل، إذا بها هي تتورط باعتبار أن الكفاح المسلح خاصتها هو المسؤول عن تحرير فلسطين، وأن الأنظمة مجرد داعم لما يقوم به الفلسطينيون، وبقية القصة معروفة، وهذا هو التأثير الداخلي للعدوى.

مركزية فلسطين

العدوى الفلسطينية الثانية للواقع العربي تمثلت بتكريس فكرة أن فلسطين هي قضية مركزية للأمة العربية، علما أن ثمة قضايا كثيرة للأمة العربية وقضية فلسطين هي واحدة من هذه القضايا، وضمن ذلك ثمة قضية مركزية لكل مواطن في كل بلد عربي، في دول، هي على الأغلب، لم تتمثل كدول مؤسسات وقانون ومواطنين، بقدر ما تمثلت كسلطات تغولت على الدولة وعلى المواطنين. هذا مع التحفظ على فكرة وجود أمة باعتبارها امرا غير متعين في الواقع، مع دول متنافرة ومتناحرة، وليس ثمة دولة ـ أمة، أو دولة مواطنين. وفي هكذا وضع فإذا كان المواطن في هذا البلد أو ذاك غير قادر على مجرد المطالبة بالحد الأدنى من حقوقه فكيف سيتمكن من التعبير عن وقوفه مع قضية فلسطين باستثناء العواطف والبيانات والمهرجانات، وهي في الأغلب تحصل برعاية الأنظمة التي تحرم مواطنيها الحقوق والحريات؟ المهم أن تلك الفكرة ساهمت، من حيث أدركت الحركة الوطنية الفلسطينية أو لا، في التغطية على سياسات الأنظمة، وتعزيز شرعيتها، إزاء مواطنيها.

هذا ينطبق على “حزب الله” في لبنان، الذي ظهر، بخاصة بعد الحراكات الشعبية الأخيرة، كأحد أهم حراس نظام الفساد والطائفية في لبنان.

أخيراً، ما يفترض لفت الانتباه إليه، أو إدراكه، في هذا العرض المكثف، أن معظم الإنجازات التي حققتها الحركة الوطنية الفلسطينية، بالكفاح المسلح، تمت أواسط السبعينات، وضمنها استنهاض شعب فلسطين من النكبة، وتوحيده، وجلب الاعتراف الدولي والعربي بمنظمة التحرير (باستثناء الانتفاضة الأولى)، لكن معظم من يكررون الحديث عن تلك الإنجازات يتحدثون كأنها تحققت للتو، أو قبل أعوام محدودة، في حين أنها تحققت قبل 45 عاماً. أيضاً هؤلاء ينسون أن تلك الإنجازات تآكلت، وتبددت، بسبب ما حصل بعدها، فحال الشعب الفلسطيني من الناحية العملية، في تفكك، وثمة اختلاف أولويات، ومنظمة التحرير في غاية التهميش، أما مكانة القضية الفلسطينية فتراجعت على الصعيدين العربي والدولي.

طبعاً، ثمة أسباب أخرى لكل تلك الحصائل الكارثية، ضمنها أسباب عربية ودولية، لكن ثمة مسؤولية كبيرة تقع على عاتق انتهاج التصارع بالسلاح، كشكل وحيد للكفاح، وعلى كيفية تمثل التجربة المسلحة، وطريقة إدارتها، لأنها عملياً أدت إلى استنزاف مجتمعاتنا بدل أن تستنزف العدو، ولأنها، في التجارب المتعيّنة، أدت إلى عسكرة البنى والأفكار والعلاقات، وضمن ذلك حسم الخلافات الداخلية والبينية بواسطة الغلبة بالسلاح، وبواسطة الميليشيات والأجهزة الأمنية، ناهيك بوضع ذاتها في مواجهة المجتمع، في سبيل تكريس دورها كسلطة، هذا حصل في الضفة وغزة، كما حصل في لبنان والعراق وسوريا.