fbpx

مقاطعو الانتخابات العراقية … والماضون إليها

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم يشهد الواقع السياسي العراقي حالاً من عدم الاكتراث بالانتخابات وتجاهلها، كما تشهده الحملات الدعائية الحالية، قبل أيام معدودة عن موعد الاقتراع المقرر الأحد المقبل. كان الرأي السائد منذ انطلاقة الحملات التي تميزت بشيء من الغرائبية مثل نشر صور الأزواج بدل صور المرشحات المتزوجات، أن الأيام الأخيرة ستكون كفيلة بتشغيل الماكينة الإعلامية وتسخين الأجواء الانتخابية. لكن أظهر الأسبوع الأخير أن الأحزاب السياسية ورؤوسها الموزعة بين الطوائف والمذاهب والقبائل والقوميات، لم تعد قادرة على التأثير حتى في البيئات الاجتماعية الأقرب إلى خطابها السياسي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم يشهد الواقع السياسي العراقي حالاً من عدم الاكتراث بالانتخابات وتجاهلها، كما تشهده الحملات الدعائية الحالية، قبل أيام معدودة عن موعد الاقتراع المقرر الأحد المقبل. كان الرأي السائد منذ انطلاقة الحملات التي تميزت بشيء من الغرائبية مثل نشر صور الأزواج بدل صور المرشحات المتزوجات، أن الأيام الأخيرة ستكون كفيلة بتشغيل الماكينة الإعلامية وتسخين الأجواء الانتخابية. لكن أظهر الأسبوع الأخير أن الأحزاب السياسية ورؤوسها الموزعة بين الطوائف والمذاهب والقبائل والقوميات، لم تعد قادرة على التأثير حتى في البيئات الاجتماعية الأقرب إلى خطابها السياسي، ذاك أن اليأس من تردي أوضاع الخدمات الأساسية، أصاب عمق نفسية المواطن فتراجع الاهتمام بما يحصل في أروقة الحكومة التي تبايع نفسها كل أربع سنوات عبر تصويت عام.

في شارع سالم بمدينة السليمانية وهو القلب النابض في المدنية حيث المقاهي والمطاعم والأرصفة المفتوحة للباعة المتجولين، هناك نشاطات تتلخص في الأغاني الحماسية وتوزيع بطاقات عائدة للمرشحين والكيانات السياسية. كانت الملاحظة الأولى التي بدرت إلى ذهني هي خلو هذه المنصات الانتخابية واقتصار أفرادها على الكوادر الحزبية، بينما كانت تشكل في ما مضى بؤراً ساخنة بين أنصار الأحزاب المتصارعة في الانتخابات السابقة. لم يختلف المشهد في أربيل عما رأيته في السليمانية، وقال لي زملاء صحافيون إن تجاهل المنصات الانتخابية هو المَعلم الأبرز لهذه الدورة الجديدة من الانتخابات. أخبرني سائق “تاكسي” فيما كان يقلني إلى مركز للنقل المحلي في السليمانية بأنه لن يذهب إلى صناديق الاقتراع، وقال: “لم أعد أثق بوعود السياسيين، شبعنا من كلامهم ويكفي”. يتحدر هذا السائق من مدينة حلبجة وفقد ذويه أثناء قصف المدينة بالأسلحة الكيماوية عام 1988 من قبل نظام البعث، لكنه يائس من “العراق الجديد”، وفيه إقليم كُردستان.

لا يختلف الأمر في بغداد والمدن العراقية الأخرى، إذ لا يبدو فيها الإقبال على الانتخابات بارداً وحسب، بل يشير الواقع اليومي إلى أن الناس فقدوا الأمل بالتغيير من خلال صناديق الاقتراع. وهناك دعوات كثيرة في الأوساط الشعبية إلى المقاطعة وعدم الذهاب إلى مراكز الاقتراع، ذاك أن الانتخابات، برأي كثيرين في الأوساط العامة، لن تغير شيئاً وتبقى الحال كما هي، منذ عام 2003. في المقابل، لا يجرؤ المرشحون، من بينهم “الرؤوس الكبيرة”، على السجال في الشأن العام ومواجهة أسئلة الناس المتعلقة بالخدمات ناهيك بالتردد في التردد إلى أماكن عامة، ذاك أن مدى سخط المواطنين من الأوضاع الخدمية السيئة في مجالات الكهرباء والمياه وتبليط الشوارع وأوضاع المدارس… إلخ، وصل إلى مستوى متدنٍّ وفاضح لا يمكن تصوره حتى في الدول الفقيرة.

لقد صار بإمكان المواطن توظيف معرفته الشخصية بأحوال البلاد المزرية في السجالات العامة ولم يعد يثق بالنخب السياسية و”صفّ الكلام. ويتسلّح الناس بالمعلومات حول الفساد وسرقة المال العام من خلال وسائل الإعلام الخارجية من جانب، وشبكات التواصل الاجتماعي من جانب آخر، وقد حولهم واقع البلاد السيئ إلى سياسيين من دون الأحزاب والمرشحين. ويعود سبب هذا العزوف أو عدم الاكتراث بالانتخابات بالدرجة الرئيسية إلى انتشار فساد لم يشهد العراق مثله في تاريخه حيث تقدر قيمة المال العام المهرب إلى خارج البلاد خلال السنوات التي تلت حكم صدام حسين بأكثر من 500 مليار دولار. وخُصص أكثر من نصف هذه الأموال إلى مشاريع في مجال الخدمات العامة والبنى التحية التي لم تكتمل وبقيت في طي الفساد.

لماذا عدم الاكتراث، وما الحل؟

ينقسم المقاطعون أو الداعون إلى مقاطعة الانتخابات إلى فئتين: الأولى ذات مستوى أعلى من الوعي وتنوي نزع الشرعية عن الاقتراع من خلال عدم المشاركة. ترى هذه الفئة أن الانتخابات ليست سوى استمرار النخبة الحالية في الحكم ومبايعة نفسها بالاقتراع الشرعي، ولا تخلو هذه المحاولة من تسييس في ظل حشود حزبية بإمكانها إيصال نسبة المشاركة في التصويت إلى المستوى القانوني في جميع الأحوال، أما الثانية فهي الفئات الاجتماعية اليائسة من التغيير، والتي أشرنا إلى أسباب يأسها في سياق هذا المقال.

يرى معلقون في عموم العراق وإقليم كُردستان، وفي ضفة التيارات المدنية والمستقلة تحديداً، أن مقاطعة الانتخابات لا تخدم سوى النخبة الحاكمة، ذاك أن محاولات نزع الشرعية عنها من خلال عدم المشاركة ليست سوى وهم، فيما تعمل الأطراف كلها على كسب أصوات المنطقة الرمادية التي يقف فيها المترددون واليائسون من إمكان التغيير. وكتب آسوس في صحيفة “آوينة” المستقلة التي تصدر باللغة الكُردية في السليمانية، أن نقده الدائم للسلطة وسوء استخدامها والأوضاع السياسية القائمة على الفساد، لا يدفعه إلى مقاطعة الانتخابات، ذاك أن عدم الاقتراع لا يخدم سوى الفاسدين. ويكتب هَردي قائلاً: يكفي أن نسأل أنفسنا، ألا تقع مسؤولية كل تلك السنوات من الحكم والقرارات السياسية والاقتصادية والأمنية التي أوصلتنا إلى هذا الخراب على عاتق الأحزاب الحاكمة، تالياً إن وضع جميع الأحزاب في مستوى واحد من المسؤولية والعزوف عن المشاركة في الانتخابات لن يخدم سوى أحزاب السلطة. وفي السياق ذاته، يصف الكاتب العراقي ضياء حميو موقف “مقاطعون” باللاموقف قائلاً: إذا فاز الفاسدون السابقون، سيقولون: “توقعناه، ولهذا قاطعنا”، أما إذا فاز المدنيون، فإنهم رابحون ويبقون مدنيين في هواهم. سينامون مطمئنين، أما العراق الذي قاطعوا مدنييه، فهو وحده الباكي، وقد أسلموه إلى الوجوه القبيحة ذاتها.

قصارى القول، يمكن فهم دوافع المؤمنين بالتغيير الناعم، وأسباب المقاطعين واليائسين من التغيير من خلال لوحة إعلانية تعود لتحالف الفتح يتوسطها شعار “إنه زمن العراق” وإلى جانبه صورة لرئيس التحالف هادي العامري. تعلو هذه اللوحة الإعلانية عمارة قديمة متآكلة، تتكوم أكياس النفايات أمامها وترسم واجهتها الرئيسية التي تختصر سيرة الحكومات العراقية المتعاقبة منذ الاحتلال الثاني للعراق.