fbpx

صفقة القرن: سيكون على العالم أن يعتذر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم أقل لرائدة يومها كم فهمت صفعتها الأولى.لم أقل لها يومها ولا بعد ذلك كم أحببتها لأنها صالحتني مع قضية عادلة كنت اتخذت قراراً ضمنياً بتجاهلها بعدما كانت مناصرتها قدراً أكثر مما كانت خياراً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

صفعت رائدة الطاولة بكل ما أوتي كفها من قوة. “سينتهي كل شيء، وستبقى فلسطين هي القضية المركزية”. كان هذا عام 2011، قبل الحرب العالمية على الشعب السوري، وكان النقاش حول ما اعتبرته أنا في حينه تقصير الفلسطينيين على مستوى دعم الثورة السلمية للشعب السوري وتفهم رائدة هذا الفتور، على رغم انحيازها الشخصي للمتظاهرين في سوريا، بسبب ما اعتبرته هي أولوية القضية المركزية. 

صداقتنا كانت لا تزال في بدايتها وصفعتها هذه وضعت يومها حداً للنقاش لأبقى في حيرتي من موقفها الى أن جاء يوم شاهدتها تؤدي عملها المسرحي “ألاقي اذيك فين يا علي“.

“أكره فلسطين لأنها اخذت مني أبي…”، هكذا وقفت ابنة علي طه على المسرح، وهكذا أدخلتنا إلى تفاصيل حكايتها وهكذا أفهمتنا ما هي فلسطين بالنسبة إلى من خسر لأجلها أعز من يملك وهو مستعد لخسارة المزيد. 

لم أقل لرائدة يومها كم فهمت صفعتها الأولى بعد مشاهدتها على المسرح وكم احترمت غضبها والتزامها وجرحها وصدقها وقوتها وضعفها وشجاعتها وخوفها في ذلك اليوم. 

لم أقل لها يومها ولا بعد ذلك كم أحببتها لأنها صالحتني مع قضية عادلة كنت اتخذت قراراً ضمنياً بتجاهلها بعدما كانت مناصرتها قدراً أكثر مما كانت خياراً. 

لا يعني هذا إطلاقاً أنني ولو ليوم من الأيام توقفت عن الدفاع عن أحقية القضية الفلسطينية ولا عن اعتبار إسرائيل عدواً. كل ما في الأمر أنني في مرحلة ما اخترت أن أستعيد حقي باختيار القضايا التي أقاتل من أجلها واحدد لنفسي خطوط التزامي هذه القضايا. 

القضية التي باسمها حكمت الأنظمة الديكتاتورية المنطقة والتي بحجة الدفاع عنها رفع “حزب الله” شعار المقاومة ومعركة الدفاع عن سلاحه خارج إطار الدولة لم تعد تقنعني والابتعاد منها كان لا بد منه، إلى أن أتت رائدة وأعادتها إلى منتصف القلب، إنما من مكان جديد مختلف تماماً. 

كانت هذه البداية لعلاقة جديدة مع فلسطين فتحت مجالاً لعلاقات وصداقات تتحمل الاختلاف، بعيداً من الشروط الشمولية لـ”الممانعة” التي تمنع أي تفكير أو نقاش، وهي دائمة التأهب لرمي التهم الجاهزة والتخوين السهل، مرة من باب التطبيع ومرة من باب التخاذل ومرة أخرى من باب العمالة…

صفقة القرن وإفلاس “الممانعة”

وأنا اقرأ بنود صفقة القرن، فكرت كثيراً بأصدقاء فلسطينيين وعرب وحتى أجانب جعلوا فلسطين قضية حياتهم المركزية، إن لم تكن الحصرية. بسبب هؤلاء وعلى رغم كل ما تحمله من غطرسة وجهل وإهانة لم تؤلمني صفقة القرن. 

“يذهب كل شيء وتبقى فلسطين القضية المركزية” كلمات رائدة لا تترك مخيلتي، وأجدها أقوى من أي شيء. 

ما الذي تستطيعه صفقة مثل هذه في وجه إصرار كهذا؟ 

اعتبار الصفقة التي أوكلت مهمة الإشراف على صوغها إلى جاريد كوشنر مؤامرة كبرى إهانة لمبدأ المؤامرة. الرجل لا تفوق تفاهته إلا غطرسته

وقفت طويلاً امام ابتسامة رجل مسن يقول وهو يحتسي قهوته بهدوء “لهم صفقاتهم ولنا أرضنا فليفعلوا ما أرادوا… لن نرحل”.  

الورقة التي اضطر صهر الرئيس أن يقرأ 25 كتاباً لينجزها، شياطينها في عنوانها وليست في التفاصيل، هي ليست أوراق هرتزل ولا وعد بلفور ولا سايكس بيكو ولا حتى أوسلو…

هي بالكاد تتجاوز كونها حملة انتخابية مشتركة بين مسؤولين كلاهما على أبواب انتخابات يخوضها الأول تحت التهديد بالعزل بتهمة الخيانة والثاني بالسجن بتهمة الفساد.

الإنجاز الحقيقي للصفقة إذا كان لا بد من إنجاز، هو الإعلان عن الإفلاس التام لكل من صادر التكلم باسمها. 

سفراء الإمارات وعمان والبحرين الذين صفقوا لاتفاق لم يقبل به فلسطيني واحد، لا يفوقهم إذعاناً، الا الذين غابوا عن الصورة واستمروا في نفاقهم ليعطوا ترامب فرصة إضافية لإهانتهم عبر سخريته من “ملوك ورؤساء” اتصلوا به وأبلغوه أن لا مشكلة لديهم بالصفقة. 

التعرية لم تقتصر على دول الخليج لتشمل صقور “الممانعة” كلهم ومن دون استثناء. 

في إيران، ازدهار في طباعة الأعلام الأميركية والإسرائيلية لا حرقها تزامناً مع التهافت الديبلوماسي لإعادة إحياء مفاوضات تطيل عمر نظام الملالي. 

الرئيس التركي رجب الطيب اردوغان، هو الآخر لم يفوت فرصة المزايدة الكلامية على العرب، مركزاً بالنقد على المملكة السعودية لـ”صمتها” إزاء الصفقة التي “تدمر فلسطين بشكل كامل”. رد السعودية على لسان أحد أمرائها لم يكشف سراً عبر تذكير أردوغان بعدم التزامه قطع العلاقات في حال نقلت السفارة الأميركية إلى القدس… 

فلسطين مرة أخرى 

إذ أنهيت قراءتي بنود الصفقة رحت أتابع ردود الفعل من فلسطين  أقنعتني نورا عريقات بحضورها ومعرفتها وثقتها وفوق كل شيء إنسانيتها.

وقفت طويلاً امام ابتسامة رجل مسن يقول وهو يحتسي قهوته بهدوء “لهم صفقاتهم ولنا أرضنا فليفعلوا ما أرادوا… لن نرحل”.  

ابتسامة الرجل أعادتني إلى تغريدات قرأتها على حساب “تويتر” التابع للجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية AIPAC. على رغم انحيازها الكامل للدولة الصهيونية، استقبلت اللجنة الصفقة بواقعية معتبرة أنها “إطار عمل” لاستئناف المفاوضات على قاعدة حل الدولتين مع ضرورة استئناف النقاش بين الطرفين للتوصل إلى “سلام عادل”.

اللجنة التي على مدى 60 عاماً، لعبت دوراً أساسياً لتثبيت إسرائيل حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة بغض النظر عما إذا كانت الإدارة جمهورية أو ديموقراطية، لم تأخذ هذه المسافة من صفقة ترامب حباً بالفلسطينيين ولا احتراماً لحقوقهم، ولكن لإدراكها أن صفقة يعلن عنها في غياب شريك أساسي، ليست فقط غير قابلة للأخذ على محمل الجد، بل قد تكون مضرة بالمصالح الإسرائيلية إذ تعيد فتح النقاش حول شرعية الاحتلال. 

على صفحة اللجنة، لا وجود لمدنيين فلسطينيين، فقط معلومات عن استمرار “إرهاب حماس” مصدر أغلبها موقع الجيش الإسرائيلي.

الحرب الجديدة 

إلى جانب أبعاده السياسية، يعكس موقف اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة واقعية كبرى تجاه ما يحصل على مستوى معركة الرأي العام العالمي عموماً والأميركي خصوصاً. 

وهي معركة لطالما اعتبرتها إسرائيل أولوية ولطالما نجحت في خوضها.   

في تحقيق نشرته “ميدل إيست أي” في آذار/ مارس الماضي، تحت عنوان “الوجوه الجديدة للمقاومة اليهودية-الأميركية لإسرائيل”، يتحدث ازاد عيسى عن ظاهرة انتقال كثر ممن كانوا يعتبرون أنفسهم صهاينة ليبرالييون إلى موقع المعادين للصهيونية وعن مسافة كبيرة قطعت بين زمن كان مجرد لفظ اسم “منظمة التحرير” كفيلاً بطرد أي شخص وعزله عن أي مجموعة داعمة لإسرائيل، وآخر فيه جيل يملك وسائل إعلامه الخاصة، ويطرح أسئلة حول جدوى تقديم مساعدات بقيمة 38 مليار دولار لحماية 6 ملايين يهودي عندما يكون ثمن ذلك حصار غزة واحتلال الضفة وقمع الفلسطينيين.

صوفي أدلهارت واحدة ممن قرروا الانضمام إلى “جمعية أصوات يهودية للسلام” JVP، الداعية صراحة “إلى إنهاء القمع والتعصب والاحتلال الإسرائيلي”. حصل هذا بعد زيارتها إسرائيل واختبارها ما يحصل هناك.

السعادة كوسيلة لتثبيت الهوية اليهودية وكسب المعركة على القلوب 

أفكر بصوفي وبكم هو سهل فهم ما حصل معها، فمن الطبيعي أن ينحاز أي شخص للفلسطينيين بعد معرفته قصتهم. وهنا تماماً المشكلة! 

قصة الفلسطينيين تكفلت إسرائيل بنشرها بعد تجريدها من تفاصيلها. بينما كان العرب يحتفلون بانتصارات وهمية ويصرخون “الموت لأميركا”، كان الإسرائيليون يعيدون كتابة التاريخ. مأساة الهولوكوست المحقة، ثمنها كان احتلال أرض لها تاريخها وحضارتها وثقافتها وشعبها.

في كتابه “حرب المئة عام على فلسطين” والذي نشر جزء منه منذ فترة قصيرة في The Intercept، بعد تراجع The Wall Street Journal، عن النشر في اللحظة الأخيرة، يعود الكاتب والمؤرخ رشيد الخالدي إلى أوراق أحد أجداده، يوسف ضياء الدين باشا الخالدي، من بينها مراسلات مع ثيودور هرتزل الصحافي النمساوي الذي أسس الصهيونية. في الرسالة الأولى يكتب يوسف ضياء بصفته رئيس بلدية القدس، ما حرفيته أن الصهيونية من حيث المبدأ “جميلة، وطبيعية وعادلة” مضيفاً أن لا أحد يستطيع أن ينفي حق اليهود بأن يكونوا في فلسطين… لكنه يتابع بالقول ان للأرض في فلسطين أهلها الأصليين ومن “الجنون الصافي” مجرد التفكير بإقامة دولة يهودية على أرض الآخرين”. رد هرتزل جاء سريعاً ومؤسساً ومتجاهلاً حقيقة أن للأرض أهلاً لن يقبلوا ان ينتزعوا منها.   

هذا هو التاريخ الذي أرادت إسرائيل تغييره. 

لم يكن في الأمر مؤامرة، فالمؤامرات تستوجب حداً من السرية، ما فعلته إسرائيل كان وفقاً لخطة واضحة تحصل على الملأ. 

صوفي ادلهارت هي واحدة من أكثر من 650 ألف شاب وشابة من اليهود، تتراوح أعمارهم بين 18 و23 سنة، زاروا إسرائيل منذ عام 1990، من بينهم 48 ألفاً، عام 2017 وحده ضمن برنامج Birthright في رحلة صممت لتكون “تجربة عاطفية ساحقة”.

البرنامج المدعوم من عدد كبير من المنظمات من بينها الموساد وAIPAC جاء رداً على إحصاءات ظهرت عام 1990 تشير إلى أن 52 في المئة من اليهود الأميركيين يتزوجون من خارج ديانتهم: كان في الأمر خطر وجودي وكان لا بد من التحرك. 

هكذا تمت “الاستعانة بالسعادة” بهدف تثبيت قومية يهودية عبر الـMifgash وهي اللقاءات التي تسمح ببدء علاقات تستمر على مدى الحياة.

عراب المنظمة يوسي بلين، ربيب شيمون بيريس روج المشروع الذي موله رجلا أعمال علمانيان في سعي إلى التخفيف من الهوية الدينية اليهودية لمصلحة الهوية القومية الإسرائيلية عبر تزويج اليهود. 

لم يكن على المشاركين تعلم العبرية ولا النص القديم ولا حتى التاريخ اليهودي، عليهم فقط أن يكون أحد أجدادهم يهودياً وأن تكون لديهم رغبة بالتعرف إلى إسرائيل عبر رحلات مجانية تستمر أسبوعين تتخللها رحلات على ظهر الجمال ونوم في الخيم البدوية وحمامات شمس على شواطئ تل أبيب. 

الضيوف من “الدياسبورا” اليهودية والمرشدون السياحيون جنود في جيش الدفاع الإسرائيلي، يشوهون قصة الفلسطينيين ويصادرون صوتهم: “إن ذهبتهم إلى مناطقهم سيرمى الأسيد على وجوهكم. العرب يريدون قتلكم”. 

في تحقيق كتبته في The Nation، عام 2011 وفي سياق حديثها عن تجربتها الخاصة تقول كيرا فيلدمان إن “البرنامج الذي بدأ بمهمة الحفاظ على الهوية صار مع الوقت آلة تحويل أيديولوجي مهمتها إنتاج أطفال إسرائيليين يحمون الدولة الإسرائيلية”.

“من كانوا معي لم يكونوا أشراراً، ولكن كان في الرحلة ما قتل أي مشاعر ممكنة، كان من الصعب تخيل مآسي الآخرين ونحن نتمتع بأجمل لحظات حياتنا… تعابير مثل العنصرية أو التمييز لم تكن واردة… غنينا وشربنا نخب الحياة، ونحن نقف على أقل من 5 أميال من أكبر سجن مفتوح في العالم”.

حكاية هذا السجن الذي أقفل على من لم يهجر ومن لم يقتل هي تلك التي صادرتها إسرائيل والتي استثمرت مليارات لتعميهما.  

من مثل صوفي ادلهارت وكيرا فيلدمان اختار عدم الاكتفاء بالرواية الإسرائيلية أقلية يقالبها أكثر من 17 ألفاً من خريجي المشروع يعيشون في إسرائيل.

في صفقة القرن فرصة

أفكر في براغماتية AIPAC وفعالية Birthright ولا يسعني إلا أن أفكر إلى أي حد باستطاعة مشاريع من هذا النوع تمرير اتفاقية مثل صفقة القرن، في زمن مثل زمننا. 

ما نتج عن العولمة من شعبوية سمح لشخص مثل ترامب أن يكون قائداً للعالم الحر، يقابله تمكين سمح لشابة مثل غريتا غوتنبرع أن تكون المؤثرة الأولى عالمياً على الصعيد البيئي. 

قيادة الرأي العام، لم تعد حكراً على أحد وإذا كان بإمكان صبية لم تتجاوز عمر المراهقة أن تغير النقاش الدائر حول الموضوع البيئي فمن المؤكد أن هناك الكثير الكثير الذي يمكن إنجازه على مستوى القضية الفلسطينية، مقاطعة وضغطاً طبعاً إنما أيضاً مناقشة وكتابة وشعراً ومسرحاً. 

صفعة القرن بهذا المعنى وبسبب انحيازها الكامل ضد كل معايير العدالة تصبح فرصة: إسرائيل دولة ابرتهايد والوقوف في وجهها مسؤولية إنسانية، عدم الالتزام بها سيؤدي إلى محرقة جديدة سيكون على العالم كله الاعتذار عنها. 

لهذا تماماً سوف ينتهي كل شيء وتبقى فلسطين القضية المركزية.