fbpx

من بيروت مع تحياتي 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

دموع الغضب هي مرايا الروح لكنهم لا يرون، لأنهم أصيبوا بالعماء، وسيذهبون إلى الحفرة التي حفروها لوطن صغير حوّلوه إلى مزبلة، والآن يريدون تحويل بنوكه إلى مقابر.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كنت أجلس وحدي في سيارة التاكسي – سرفيس، أتحايل على عجقة السير الخانقة بقراءة «الفيسبوك» في هاتفي المحمول، عندما سمعت جزءاً من حديث كان يجريه السائق على هاتفه.

سمعت الرجل يقول: «لا لا، انتظريني، بعد ساعة سأعود إلى البيت ومعي علبة حليب، أرجوك اصبري قليلاً، أحتاج إلى بعض الوقت وسيكون معي ثمن علبة حليب الأطفال. إذا بكى ضعي ماء في المصاصة كي يلتهي قليلاً».

أقفل الرجل الهاتف ورأيت أثر الدموع على أهدابه.

«شو القصة»؟ سألته.

«لا شيء»، قال.

«كم عمر الطفل»؟ سألته.

«شهران»، قال.

«ابنتك»؟

«لا ابني الأول».

روى السائق، وهو شاب في الثلاثين، أنه طُرد من عمله منذ شهرين، وأن زوجته أيضاً طُردت من عملها، فقرر أن يشتغل على السيارة، لكن «كما تعلم، الشغل واقف، والأسعار ارتفعت بشكل جنوني، والله يساعدنا».

«كم ثمن علبة الحليب»؟

«ثلاثون ألف ليرة».

وبدلاً من أن يسمح لي بأن أتابع أسئلتي، بادرني بسؤال غريب، «هل تؤمن بالمنامات»؟ قال.

«المنامات»؟

«نعم! فأنا أؤمن بالمنامات، فالأحلام التي نراها في الليل هي رسائل»، وقال إنه منذ بداية الانهيار، صار يلجأ إلى النوم في انتظار المنام.

قال إنه عاد بالأمس إلى بيته، وكان رأسه يؤلمه من تنشّق الغاز المسيل للدموع الذي تساقط على المتظاهرين والمعتصمين الذين كانوا يحاولون قطع طريق النواب إلى ساحة النجمة من أجل تعطيل جلسة الثقة في الحكومة.

«هذا من أثر الركلات التي تلقيتها على رأسي. لماذا يلبطوننا ببوطاتهم على رؤوسنا بعد أن نقع أرضاً؟»

«كنت في الاعتصام»؟ سألته.

«طبعاً، هل تريدني أن أموت من دون أن أصرخ».

«وأنا أيضاً كنت في المظاهرة»، قلت.

«أنت؟، لا يا أستاذ، رجل في عمرك يجب أن لا يعرّض نفسه للخطر».

عاد السائق إلى سؤاله عن المنامات، لكنه لم ينتظر جوابي، وبادرني برواية منامه بعد يوم الغاز الطويل الذي عاشته بيروت، وهي تنتظر بياناً وزارياً إنشائياً ومملاً. جاء هذا البيان ليثبت أن حكومة الخبراء والاختصاصيين والبروفيسورات تحتاج إلى خبراء واختصاصيين وبروفيسورات أجانب من صندوق النقد الدولي، كي تفك أحجية الانهيار وتقترح حلولاً لا هدف لها سوى حماية اللصوص وطبقة الواحد في المئة والسياسيين وأصحاب المصارف التي نهبت كل شيء.

قال الرجل إنه رأى مناماً غريباً: «رأيت نفسي جالساً في قاعة كبيرة، أظن أنها قاعة مجلس النواب، لكنني لست متأكداً، وكنت أحمل في يدي ساطوراً، وأمامي وقف رجال السلطة كلهم، لم أستطع التمييز بينهم، ففي المنام كانوا كلهم متشابهين. وكان هناك صوت يناديهم بأسمائهم، ويطلب منهم الاعتراف بالمبالغ التي نهبوها. كان الواحد منهم يتقدم من المنصة حيث كنت أقف، وكنت أطلب من المتهم أن يمد يديه إلى طاولة خشبية أمامي، وما أن أرى اليدين حتى أبادر إلى قطعهما بضربة واحدة. وكان الدم. يقولون يا أستاذ إن الدم في المنام يعني أن هناك مكروهاً سيحصل، أحسست وأنا أقطع الأيدي بأنني أحلم، لكنني قررت أن لا أستيقظ من الحلم، واجتاحتني شهوة عارمة إلى الدم، فبدأت بقطع الرؤوس، وكنت كالسكران. وفجأة، استيقظت على صوت بكاء الطفل، نهضت من السرير وأنا أرتجف ولا أدري ماذا عليّ أن أفعل، لكن الله ستر، نهضت زوجتي من السرير، ركضت مذعورة، أخذت الطفل من يدي، وطلبت مني أن أعود إلى النوم».

«ما تفسيرك يا أستاذ لهذا المنام»؟ سألني.

«هذا من أثر قنابل الغاز المسيّل للدموع»، أجبت.

«أنت غلطان»، قال، «هذا من أثر الركلات التي تلقيتها على رأسي. لماذا يلبطوننا ببوطاتهم على رؤوسنا بعد أن نقع أرضاً؟».

قلت له إنهم لا يدرون ماذا يفعلون، لكنني كنت على خطأ، فالقائد الطلابي محمد بزيع جرّوه أرضاً إلى خلف إحدى آلياتهم العسكرية قرب مبنى الاسكوا، قبل أن ينهالوا عليه ضرباً وركلاً، وبعد ذلك أخذوه إلى التحقيق في ثكنة الحلو، ليطلقوا سراحه بعد يومين بسبب الضغط الشعبي. أما الكاتب الاقتصادي محمد زبيب، فقد انتظروه كي ينهي لقاءه بالطلاب في أحد مقاهي شارع الحمراء، ليحدثهم عن الأوليغارشية التي تفترس لبنان. لحقوا به ليلاً إلى الموقف حيث ركن سيارته وانهالوا عليه ضرباً، وتركوه مصاباً ومرمياً على الأرض. لكن محمد زبيب أجابهم في اليوم التالي بأن رسالتهم لم ولن تصل، وأن الشعب سينتصر.

قلت للسائق ما قلته لأنه أُسقط في يدي، لم أعد قادراً على إيجاد الكلمات المناسبة لوصف هذا العهر القمعي الذي يصاحب حفلة النهب المنظّم.

«طوّل بالك»، قلت له، «فنحن في مسار ثوري طويل يحتاج إلى الصبر».

«الصبر مرّ»، أجابني.

وقال إنه يؤمن بالمنامات، «منامي صحيح يا أستاذ، وسنحققه بأيدينا».

وعندما وصلت قرب بيتي، مددت له يدي بورقة نقدية، وهممت بالنزول.

«ما هذا»؟ سألني.

«مساهمتي في ثمن علبة الحليب».

خذها يا أستاذ أرجوك، لا، مش هيك، أنا سآخذ حقي بيدي».

ورأيت الغضب.

دموع الغضب هي مرايا الروح.

لكنهم لا يرون، لأنهم أصيبوا بالعماء، وسيذهبون إلى الحفرة التي حفروها لوطن صغير حوّلوه إلى مزبلة، والآن يريدون تحويل بنوكه إلى مقابر.

غادرني السائق الشاب إلى منامه، وتركني حائراً في انتظار مناماتي…

هذا المقال كان نشره الكاتب خوري على صفحته على فايسبوك و”درج” يعيد نشره