fbpx

أردوغان وسياسة ابتزاز الأوروبيين باللاجئين الأفارقة وافتعال مواجهة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هدف أردوغان الاستراتيجي الحقيقي ليس مواجهة روسيا، بل تطويق أوروبا وابتزازها. وكعادة أردوغان ها هو يستعمل أسلوب الابتزاز والتهديد بخاصة في ما يتعلق بمسألة الهجرة والإرهاب كورقة ضغط على دول أوروبا لمساندته في تحقيق أطماعه الإقليمية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

الولايات المتحدة منهكة بما يسمى “الحروب التي لا نهاية لها” في الشرق الأوسط والتي شنتها منذ 11 أيلول/ سبتمبر 2011، وأنفقت عليها ما يعادل 15 في المئة من ناتجها الإجمالي أو أكثر من 6. 4 تريليون دولار، بحسب تقرير أعدته جامعة براون في ولاية ماسوشوستس ونشره موقع “بزنس أنسايدر”. 

سعت واشنطن خلال السنوات الأخيرة إلى انتزاع نفسها من هذه المنطقة معتبرة أن التكلفة باهظة للغاية، وتشتت انتباهها عن التركيز على الصين باعتبارها التحدي الاستراتيجي الأكثر أهمية للقوة الأميركية. بداية الخروج من المنطقة كانت مع أوباما عام 2009 بسحبه القوات الأميركية من العراق، وتواصلت في عهد الرئيس ترامب بتقليص وجود بلاده العسكري في سوريا وتوجهه إلى سحب القوات من أفغانستان. هذه الخطوات أدت إلى زعزعة استقرار الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا وتوسعه في دول عدة في العالم. ليس هذا فقط، بل رأينا انفجار نزاع محتدم بين دولها جذب تدخلاً خارجياً مباشراً من روسيا وتركيا وإيران. هذا فيما زادت التعقيدات والانهيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في جميع أنحاء المنطقة كما حصل في العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا والجزائر وأفغانستان وحتى السودان، وذلك بسبب سوء الإدارة وانعدام الفرص الاقتصادية والفساد الشامل وسيطرة الميليشيات المسلحة على الدولة ومؤسساتها. 

الإطاحة بنظام القذافي وانسحاب الأطلسي، حصلا من دون إرغام قطر على جمع السلاح الذي وزعته على القبائل التي تحول أبناؤها إلى ميليشيات مسلحة في غالبيتها إسلامية الهوى. وكان رئيس الحكومة الليبية آنذاك محمود جبريل طلب من الناتو كما ذكر شخصياً في حوار مع قناة “فرنسا 24” بالعربية، جمع هذا السلاح وهو ما لم يحصل، ما جعل ليبيا ساحة قتال للمصالح المتعارضة داخلياً، واجتذب التدخلات الخارجية. ليبيا الآن دولة ممزقة وفاشلة، وتسيطر عليها ميليشيات متنافسة، وتديرها حكومتان، ومجلسان منتخبان في البرلمان، ومصرفان مركزيان، وعشرات الميليشيات. 

ليبيا ربما تكون أحد الأمثلة الصارخة على حالة الانهيار الشامل في الشرق الأوسط التي تهدد الأمن الأوروبي، كونها الدول الأقرب إلى حدودها الجنوبية. فالمنافسة المفتوحة الآن على أعلى أشكالها بين قطر وتركيا من جهة، وبين مصر والإمارات المتحدة والسعودية من جهة أخرى، وبين روسيا وتركيا، وأيضاً بين فرنسا وإيطاليا. الأولى تدعم الجنرال حفتر وتسلحه، والثانية تدعم وتسلح السراج وحكومة الاسلاميين بطرابلس، وبالتحديد حركة الاخوان المسلمين وميليشياتها المسلحة وتنظيم “القاعدة” (الجماعة الليبية المقاتلة) بزعامة عبد الحكيم بلحاح المقيم الان في تركيا. 

روسيا دخلت على خط النزاع مستفيدة من الغياب الأوروبي والأميركي. الاتحاد الأوروبي ظل طيلة السنوات الماضية يدعم حكومة طرابلس ويصمت على سقوطها بيد الميليشيات الإسلامية، مقابل تعهداتها بوقف موجات اللاجئين، حتى أن تحقيقاً استقصائياً قامت به وكالة “أسوشييتد برس”، كشف أن بروكسيل منحت حكومة السراج 400 مليون يورو لتمويل برامج مواجهة الهجرة غير الشرعية، تبين في النهاية أنها ذهبت إلى جيوب الميليشيات المسلحة المرتبطة بحكومة السراج التي تدير هي، لا غيرها، شبكات تهريب البشر من أفريقيا إلى أوروبا!

ليبيا ربما تكون أحد الأمثلة الصارخة على حالة الانهيار الشامل في الشرق الأوسط التي تهدد الأمن الأوروبي، كونها الدول الأقرب إلى حدودها الجنوبية.

ليس هذا غريباً الآن مع تعمق التدخل العسكري التركي لحماية نظام الإسلاميين في طرابلس تحت ضربات الجنرال حفتر ودخول روسيا على خط النزاع بارسال مرتزقة (فاغنر) التي تقاتل في سوريا وأفريقيا الوسطى. مرتزقة (فاغنر) الذين يعدون بالآلاف يدعمون الجنرال حفتر الذي يصر على تسليم جميع الميليشيات أسلحتها لوقف الحرب، والدخول في مفاوضات سلام مع طرابلس. الأوضاع خرجت عن السيطرة بعد فشل مؤتمر موسكو وبرلين لجمع الطرفين المتحاربين، ما يشير إلى أن إعادة ضبط عقارب الساعة إلى الوراء أصبحت مستحيلة. 

أردوغان وجهاديو سوريا 

خرج قرار أردوغان بالانغماس عسكرياً في الأزمة الليبية إلى العلن بعدما كان شبه سري خلال السنوات المنصرمة، وذلك بعد قيام جهاز “ميت” بإرساله المرتزقة من مقاتلي “داعش” و”القاعدة” (4000 مقاتل) من إدلب في سوريا التي وثّقها “المرصد السوري لحقوق الانسان”، وكشفها أيضاً الرئيس الفرنسي ماكرون، إضافة إلى تزويد ميليشيات طرابلس بطائرات الدرون المتطورة والدبابات والمدرعات والمضادات الجوية وإقامة قاعدة عسكرية تركية في العاصمة الليبية. كل جهادي سوري يستلم من أنقرة راتباً شهرياً قدره 2000 دولار، وهؤلاء المقاتلون هم من فصائل إسلامية متعددة، أشرف على تجنيدهم احمد كرمو الشهابي الذي قال متباهياً: “إننا مستعدون للذهاب إلى الجهاد في أي مكان، لن نتوقف… أرواحنا وأطفالنا فداء للخلافة العثمانية”. وتحدث تقرير أصدره “المرصد السوري لحقوق الإنسان” عن قائد ميليشياوي آخر يقوم بنقل المرتزقة السوريين إلى ليبيا وبالتعاون مع جهاز الاستخبارات التركي وهو المهدي الحاراتي، الذي يرتبط بعلاقات وطيدة مع ميليشيات طرابلس الإسلامية. والحارتي من أصل ليبي ويحمل الجنسية الايرلندية منذ 20 سنة، وسبق أن قاتل في كوسوفو والعراق وأفغانستان. وقاد ميليشيات تحمل اسم “لواء الأمة”، وهي إسلامية متشددة تضم جهاديين ليبيين وسوريين مقرها إدلب. وتربط الحاراتي بأردوغان علاقة سرية بدأت عام 2010 عندما شارك في السفينة التركية التي أبحرت لفك الحصار عن غزة وتعرضت لهجوم إسرائيلي. وكان منزل الحارتي في مقاطعة راثكيلي، في بأيرلندا تعرض للسرقة في تموز/ يوليو 2011، وأعلنت زوجته سرقة مجوهرات قيمتها 200 ألف يورو. وقاد الحاراتي المجلس العسكري لطرابلس الذي شكله الإرهابي القاعدي عبد الحكيم بلحاح بعد سقوط القذافي، ثم انتخب رئيساً لبلدية طرابلس العاصمة عام 2014. 

زج أردوغان في القتال الجاري في ليبيا مرتزقة شركة “سادات” التركية الأمنية الخاصة التابعة مباشرة لمكتب الرئيس أردوغان. تأسست هذه الميليشيات عام 2012 بمبادرة من العميد التركي المتقاعد (عدنان تانري فردي) وتضم في صفوفها حوالى 7 آلاف من المقاتليين الإسلاميين من جنود حركة الإخوان المسلمين. وبحسب إليزابيث تسوركوف، الباحثة في معهد أبحاث السياسة الخارجية في مدينة فيلادلفيا في ولاية بنسلفانيا الأميركية، والتي تتابع عن كثب الجماعات المسلحة السورية، فإن الوعود المادية أو منح الجنسية التركية أو تسهيل السفر إلى أوروبا تظل الدوافع الرئيسية للمقاتلين السوريين الذين تم إرسالهم إلى ليبيا. 

التدخل التركي في ليبيا يدخل بحسب المراقبين في إطار خطة جيوسياسية تم إعدادها بعناية على نار هادئة منذ الصيف الماضي لأسباب كثيرة منها، أن أردوغان يواجه مع حزبه “العدالة والتنمية” هزائم عدة على صعيد سياساته في الداخل وعلى الساحة الإقليمية والدولية. الهزيمة الأولى تتمثل في انهيار وتفتت المنظمات والمجموعات الإسلامية التي أراد من خلالها تمرير مشروعه في سوريا. فعلى مدى 9 أعوام فتحت أنقرة حدودها وبإشراف من جهاز المخابرات “ميت” أمام عشرات آلاف المقاتلين الإسلاميين والجهاديين المتطوعين للقتال في سوريا والعراق، في صفوف “داعش” و”القاعدة” وغيرهما من الجماعات الجهادية، محاولاً تحويل هؤلاء إلى حصان طروادة بوظيفتين: تصفية الخصوم الأكراد، واستغلال المخاوف والهواجس الأوروبية من خطر الإرهاب والجماعات الجهادية على الأمن الأوروبي. جهد أردوغان من أجل تكريس المخاوف الأوروبية وتعميقها، لكي يبتز الاتحاد الأوروبي ودوله للحصول على المليارات من اليورو والتنازلات السياسية. الآن يسعى أردوغان بعد فشله الذريع، للتخلص من الفرانكنشتاين الذي خلقه بتحوله نحو جبهات وبؤر نزاعات أهلية مسلحة في أفريقيا وفي المقدمة ليبيا. من أهداف أردوغان الأخرى من نقل الميليشيات الإسلامية من سوريا الى ليبيا هو استنساخ نموذج إدلب، في هذه الدولة الأفريقية لمنع تقدم قوات حفتر في الأماكن المأهولة بالسكان في طرابلس ومصراته وتعزيز وجوده العسكري ونفوذه في أفريقيا ومنطقة الساحل. 

توسيع النفوذ التركي في أفريقيا

سعى أردوغان خلال السنوات الاخيرة إلى تعزيز نفوذ تركيا في أفريقيا والساحل الأفريقي، من خلال إقامة القواعد العسكرية التي كانت أكبرها في الصومال التي افتتحها عام 2017، وبالتحديد في العاصمة مقاديشو، وألحقها بقاعدة أخرى في جزيرة سواكن، في السودان باتفاق مع الرئيس المخلوع حسن البشير، بهدف استخدامها للتدخل في اليمن ومن هناك للتأثير في السعودية والإمارات المتحدة. وهو يسعى الآن إلى شراء قاعدة ماداما الفرنسية في النيجر، التي تريد فرنسا إغلاقها، إضافة إلى القاعدة العسكرية التي أقامها في ليبيا. 

يرى محللون أن تركيز أردوغان على ليبيا والساحل الأفريقي هدفه تكرار ابتزاز الاتحاد الأوروبي الذي كان مارسه خلال الأزمة السورية، وذلك من خلال إغراقها في موجات اللاجئين الأفارقة هذه المرة. ويرى مراقبون أن “الابتزاز سيكون أقوى وأقسى إذا ما نجح أردوغان في السيطرة على البوابة الليبية، من خلال الحفاظ على حكومة السراج التي ساندها الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة طيلة السنوات المنصرمة في أكبر خطأ استراتيجي ستكون أوروبا ضحيته الأولى. 

الاتحاد الأوروبي ظل طيلة السنوات الماضية يدعم حكومة طرابلس ويصمت على سقوطها بيد الميليشيات الإسلامية، مقابل تعهداتها بوقف موجات اللاجئين.

اردوغان يعي أن مشروعه على البر الشرقي للبحر المتوسط قد فشل، إذ أنهكته روسيا بوتين التي حاول مغازلتها خلال الأعوام الأخيرة، ولكنه يكتشف الآن أنه يواجهها في ليبيا وفي سوريا أيضاً، بعد اتهامه الأخير لموسكو بأنها انتهكت تفاهمات استانة وسوجي بمعاوداتها قصف ادلب. وسارع إلى توجيه رسالة تحذيرية إلى بوتين والأسد في الوقت نفسه، عبر إرسال قوات وأسلحة متطورة وفتاكة بينها 1300 دبابة ومدرعة وآلية عسكرية إلى سوريا خلال الأيام الأخيرة، بعدما قصفت طائرات النظام السوري والروسي إدلب ونقاط المراقبة التركية فيها وقتلت وجرحت عدداً من الجنود الأتراك وتسببت في تهجير 700 ألف مدني. 

بعد تشدد الاتحاد الأوروبي معه، قرر أردوغان القفز إلى البحر المتوسط لخلق صراع مباشر مع اليونان وقبرص العضوين في الاتحاد، وذلك من خلال إبرامه اتفاقية مع حكومة طرابلس ورئيس حكومتها السراج لرسم الحدود البحرية الليبية – التركية، وفتح ممر بحري يربط بين البلدين المتباعدين، في محاولة منه للسيطرة على مكامن الغاز الطبيعي في المتوسط ما ينذر بمواجهة شاملة تهدد المنطقة ككل. لا بد من الإشارة إلى أن هناك دولاً أخرى تطل على المتوسط هي إسرائيل ومصر وإيطاليا، ربما ستبادر جميعها إلى تشكيل حلف مضاد لتركيا. إلا أن أطماع أردوغان لا تقتصر على الغاز والنفط فقط، بل هو يطمح إلى إقامة منطقة نفوذ تركية في شمال أفريقيا وفق النموذج القبرصي، وتشكيل منطقة لا سلام ولا حرب، أي لا أفق لحل شامل في المستقبل المنظور. ما يعني أيضاً منطقة معزولة عن واقعها الجغرافي وتعتمد كلياً على تركياً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وفقاً للباحث في معهد واشنطن سونر كاجبتاي مؤلف كتاب “أمبروطورية أردوغان: تركيا وسياسة الشرق الأوسط”. 

يتضح مما تقدم أن هدف أردوغان الاستراتيجي الحقيقي ليس مواجهة روسيا، إذ فشل في هذه المهمة كما بدا جلياً في التطورات الأخيرة في سوريا وليبيا، بل تطويق أوروبا وابتزازها. وكعادة أردوغان ها هو يستعمل أسلوب الابتزاز والتهديد مع الأوروبيين، بخاصة في ما يتعلق بمسألة الهجرة والإرهاب كورقة ضغط على دول أوروبا لمساندته في تحقيق أطماعه الإقليمية. ولعل ما يساعده في تحقيق أهدافه استمرار دول أوروبا من دون سياسة لجوء موحدة، بالتالي فإن دول الاتحاد الأوروبي لن تستطيع التصدي لخطط أنقرة ما لم تتفق على سياسة خارجية موحدة. هل يعي الاتحاد الأوروبي ذلك؟ بالطبع، ولكن ربما على مستوى النخبة السياسية فقط، ما يستلزم الشروع في توصيل هذه الرسالة إلى الرأي العام الأوروبي والمواطن الأوروبي وزجهما في عملية درء هذه الخطر المحدق، لا سيما أن أردوغان تمكن خلال السنوات المنصرمة من إقامة مراكز قوة ونفوذ في الدول الأوروبية، تتمثل في شركات وأحزاب ووسائل إعلام وشخصيات متنفذه وتكنوقراط يروجون مشاريعه ويوصلون أفكاره إلى المجتمع الأوروبي.