fbpx

“بنت الجيران” على “خط النار” في الموسيقى المصرية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الجديد في مصر ليس انتشار أغاني المهرجانات التي ترتبط بإيقاعات متكررة ومزج إلكتروني للأصوات وغياب الألحان المعتادة، الجديد هو شعور نخب ومؤسسات معينة بأن هذه الأغاني تمثل تهديداً ما يجب إيقافه.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كانت مشاهدات أغنية “بنت الجيران” على منصتي “يوتيوب” و”ساوند كلاود” تعدت المئة مليون، عندما أعلن نقيب الموسيقيين المصري هاني شاكر سحب تصريح الغناء من المطربين حسن شاكوش وعمر كمال، لأن أغانيهما “ترسخ لعادات وإيحاءات غير أخلاقية.” وقبل نهاية الأسبوع ذاته، وصل عدد المشاهدات إلى 170 مليون.

وهكذا، صارت الأغنية التي تنتمي إلى موسيقى “المهرجانات” محل جدل هيستيري. معظم الأصوات الناقدة تردد أن كلام أغاني المهرجانات عموماً “بذيء، لا يمثل مصر، مهين، إسفاف”. وخرجت في المقابل انتقادات أقل عدداً وأكثر روية ضد الذكورية والعنف الزاعق في هذه الأغاني، كلمات وصوراً تمجد تصورات وخيالات جنسية عنيفة عن المرأة والعنف والعضلات والقوة العارية والفردانية والرجولة. 

حسن شاكوش

شاكر الذي يملك سلطة إصدار تصريحات الغناء في حفلات عامة لا بد أنه يعرف أنها سلطة يصعب تنفيذها بل يستحيل في حفلات الأعراس (وهي المكان العام الرئيسي الذي تُلعب فيه هذه الموسيقى)، ناهيك بمنصات التواصل الاجتماعي. شاكر بصورة ما نسخة بائسة عن ملك إنكليزي عاش منذ ألف عام بالضبط. ويُروى عن الملك كنوت أنه من فرط سلطانه وغطرسته وضع عرشه على شاطئ النهر وأمره بألا ترتفع مياهه بسبب المد، وحذره من أن يصل منسوبه إلى أقدام كرسي العرش. 

أغاني المهرجانات حقيقة واقعة ومد مستمر تسمعه في كل مصر: في الشوارع خارجاً من زجاج السيارات، وفي الأفراح سواء في الأحياء الأكثر فقراً أو في الفنادق ذات النجوم الخمس، في الحواري وفي النوادي الرياضية، في نادي الصيد وفي نادي منشية القناطر، على شاطئ المتوسط وعلى الساحل الشمالي باهظ الأسعار. الجديد في مصر في السنوات القليلة الماضية ليس انتشار أغاني المهرجانات التي ترتبط بإيقاعات متكررة ومزج إلكتروني للأصوات وغياب الألحان المعتادة، الجديد هو شعور نخب ومؤسسات معينة بأن هذه الأغاني تمثل تهديداً ما يجب إيقافه. وهو تهديد يرونه يستهدف أخلاقاً متخيلة غير موجودة في الواقع اليومي، بغض النظر عما إذا كانت هذه الأغاني تمثل حقاً نمط حياة الفقراء ومتوسطي الحال وقيمهم، أم لا.

شاكر الذي يملك سلطة إصدار تصريحات الغناء في حفلات عامة لا بد أنه يعرف أنها سلطة يصعب تنفيذها بل يستحيل في حفلات الأعراس.

وبغض النظر عن قيمة واستمرارية فنانين تتعدى مشاهداتهما على المنصات الاجتماعية مئات الملايين، يجب التعامل مع هذه الأرقام بجدية، فمثلاً حققت أغنية واحدة للمطرب المغربي سعد المجرد أكثر من 800 مليون مشاهدة، على رغم أنه سُجن 6 أشهر من قبل بسبب التعدي الجنسي، وواجه اتهامات متعددة بالاغتصاب. يجب أن يستمر منتقدو موسيقى كهذه وموسيقيين كهؤلاء، بسبب عنف ما يقدّمونه وذكوريته، فهذا شيء حسن، ولكنه ربما غير مجدٍ على الصعيد العملي.

 يصبح السؤال إذاً، لماذا لا يهتم الكثير من الناس وبخاصة الشباب بهذه المواقف النقدية من الجانبين؟ لا اهتمام حقيقياً بهذه الانتقادات الجدية أو الواهية، الرصينة او الهيستيرية، لأن موسيقى المهرجانات وكلماتها تخاطب قطاعاً واسعاً من الرجال (والنساء أحياناً)، وتعبر عن تطلعات هؤلاء الناس وآمالهم وأحلامهم وإحباطاتهم ومخاوفهم، ثم تقدم لهم في مشاهد سريعة وكلمات قصيرة تصورات عن حلول سريعة وفردية لمشكلات عويصة ومستفحلة اجتماعياً ونفسياً. كما أن الموسيقى السهلة والراقصة وذات الطابع الاحتفالي تيسّر من انتشار أغاني المهرجانات. ليست الأحياء الشعبية أو الفقيرة كلها مواطن عنف ومخدرات وجريمة، ولكنها تواجه نسباً أعلى من هذه الآفات، وتخضع لقهر مزدوج أحياناً من هذه الممارسات إضافة إلى القمع المضاعف من مؤسسات الضبط والربط في الدولة، مثل الشرطة وأنظمة الجباية وانخفاض مستوى الخدمات بشدة.

أحياء مصر الشعبية

ولا يبدو أن الناقدين بالضرورة يخشون من الإساءة إلى صور مثل هذه الأحياء، فهم غير معنيين بها ولا يعرفونها جيداً، ونحن لا نسمع صوت ناقدين من هذه التجمعات البشرية لأن الصحافة والإعلام المسموح بوجودهما لا يقومان بعملهما بجدية ومهنية. 

تعرينا المهرجانات أمام أنفسنا، فنظهر كما لا نحب، وليس كما يريد الرومانسيون في أغاني عبد الحليم حافظ وأم كلثوم وحتى عمرو دياب وتامر حسني. مطربو المهرجانات يقدمون بعض ممارسات أو حتى تطلعات وتهويمات فئات واسعة محرومة من الثورة أو السلطة، والأهم، محرومة من الحلم. وهذه الفئات هي الأغلبية الساحقة في بلد يعيش ثلث شعبه في هوة الفقر وربما ثلث آخر قرب حافته أو متأرجح فوقه. وتكرس الأغاني ليس الحلول الفردية وحسب، بل تتحلل علناً مما بات كثيرون يعرفون أنه تم التحلل منه على صعيد خاص وفي داخل غرفة مغلقة، فلا المدرسة باتت مؤسسة تعليمية، ولا القانون خادماً للعدالة، ولا الشرطة في خدمة الشعب، ولا حديث جدياً يمكن أن يدور عن أي من هذا لأن حرية التعبير عن الآراء المختلفة مقيدة في الفضاء العام وحتى على وسائل التواصل الاجتماعي.

أغاني المهرجانات حقيقة واقعة ومد مستمر تسمعه في كل مصر.

وعندما تقيد حرية التعبير بهذا الشكل لا تخرج للفضاء العام سوى أكثر الآراء محافظة وتنكيلاً بالفئات الأضعف في المجتمع، كما أنها تكون في الأغلب أفكاراً وقيماً لا تؤمن بالمجتمع ذات نفسه بل بالخلاص الفردي.

مثلاً، لا نسمع حديثاً حقيقياً في مصر عن زنا المحارم، فلا نعرف إن كان ظاهرة منتشرة أم لا وأين ولماذا؟ إنه أمر لا يحدث، مثله مثل ظواهر أخرى تخص الهوية الجنسية والميول الدينية ولا يمكن الحديث المفتوح الجاد عنها. وهكذا عدا معلومات متفرقة وأحاديث المقاهي حول زنا المحارم في مصر، تصبح الساحة مفتوحة أمام مغني مهرجانات مثل حمو بيكا ليحدد لنا في أغنية “انتحار على خط النار” المسؤول عن هذه الظاهرة. نعم، إنها البنت بالطبع وليس الأب أو الرجل: “والبنت ليل نهار قاطعة، وأبوها دوغري مشقلطها، بتخش في الضلمة في متعة، حيحانة مش عارفة غلطها، وولعة تسحب ورا ولعة وكلبة أبوها منططها”.

منذ 80 عاماً، حذر عالم النفس سيغموند فرويد من تحطم المجتمع في حالة فشله في التواؤم مع التحولات الخارجية، ويبدو أن المجتمع المصري يواجه تهديداً من هذا النوع، وهو آتٍ من فئاته العليا والسفلى في آن واحد. وبالتالي تعكس الضراوة المتزايدة للموقف السلبي من حرية التعبير في مصر خلال السنوات الأخيرة رغبة النخبة الحاكمة في السيطرة الاجتماعية، لكنها نتيجة أيضاً لشعور اجتماعي بأن هوية ما مفترضة لمصر هي محل خطر وتهديد. 

بغض النظر عن قيمة واستمرارية فنانين تتعدى مشاهداتهما على المنصات الاجتماعية مئات الملايين، يجب التعامل مع هذه الأرقام بجدية.

لقد أنتجت عقود التدهور الثقافي والاجتماعي الاقتصادي والتهرب من المسؤولية الذاتية تمزقاً بين قومية دولتية مؤمنة بصوابها من ناحية وأيديولوجيات إسلاموية على يقين متناه من ناحية أخرى، ويحيط بالاثنين واقع من الفشل والمهانة. وللنجاة من هذا الفشل يسعى القائمون عليه إلى تحميل المسؤولية لكل هذه الجهات “المسيئة”، الخارجية والداخلية، ويتغير الهدف كل فترة وقد صار هذا الشهر “أغاني المهرجانات”. القائمون حقاً على الفشل الراهن يريدون العودة إلى ماض متخيل ربما لم يكن مجيداً قط، أو القفز إلى مستقبل زاهر عبر بناء مدن جديدة وإنسان جديد، وترك هؤلاء الباقين من الشعب ليلقوا مصيراً تعساً خارج الأسوار، وعند ذلك يمكن أن يستمعوا إلى موسيقى المهرجانات بمفردهم ويحلموا بخلاص فردي من طريق عبور هذه الأسوار أو البحر وإثبات أنهم قادرون على التخلص من الفقر ونيل إعجاب النساء وأجسادهن حباً أو قهراً.