fbpx

“يوروبوند” ونصيحة السنيورة… والهاوية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هل يمكن الاستمرار بسداد الدفعات في ظروفنا هذه؟ إن كل سداد إضافي لأي دفعة يعني إعطاء الأولوية للدائنين، من مصارف وغيرها، على حساب المجتمع كاملاً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تبلغ قيمة سندات الـ”يوروبوند” في لبنان حالياً نحو 30 مليار دولار، نصفها تقريباً تملكه المصارف اللبنانية، ويملك مصرف لبنان ستة مليارات فيما تملك جهات خارجية البقية. إلا أن المزيد من تغير هذا التوزيع مع بيع حاملي السندات المحليين حصتهم لجهات خارجية، يصعّب حل الأزمة والتفاوض أو اتخاذ إجراءات أخرى. تكلفة سداد هذه السندات من الآن وحتى عام 2037 تبلغ 45 مليار دولار، أي بفوائد تراكمية تبلغ 15 مليار دولار، هي أرباح صافية للدائنين. فهل يمكن الاستمرار بسداد الدفعات في ظروفنا هذه؟ إن كل سداد إضافي لأي دفعة يعني إعطاء الأولوية للدائنين، من مصارف وغيرها، على حساب المجتمع كاملاً.

ما زالت الحكومة تناقش موقفها من دفع الـ”يوروبوند” مع حاكمية المركزي وجمعية المصارف والمؤسسات الدولية. هناك أخبار عن أن احتمال الامتناع عن سداد دفعة 9 آذار/ مارس التي تبلغ ملياراً و200 مليون دولار. بيدَ أن ذلك يمكن أن يُطلق حملة حكومة مصرفية لخداع الناس. فالسلطة بحال عدم الدفع ستتجه صوب إعادة هيكلة للمدفوعات أو للدين العام. أي أنها ستمدّد آجالها أي تؤجل تاريخ استحقاقها. ولكي تقنع الدائنين فإنها قد تعمل على تحفيزهم بفوائد إضافية. وقد نقلت بلومبيرغ عن تقرير لـ”جاي بي مورغين” أن هناك توجهاً لاستبدال سندات هذه السنة (معدل الفائدة عليها نحو 6 في المئة) بسندات أخرى تستحق في عامَي 2029 و2035 مع فوائد تصل إلى 12 في المئة أي الضعف! هذا لا يؤدي إلا إلى تأجيل الانفجار الأكبر وإطالة مدة الأزمة ومدة قمع الاقتصاد وتطوير المجتمع عبر الاستمرار بإثقاله بالدين العام.

ولكن كيف وصلنا إلى هذا الوضع الكارثي، وما هي السياسات التي أفضت إلى ذلك.

لنبدأ الحكاية من أولها. خرجت الدولة من الحرب الأهلية بدمار هائل ومعدة خاوية عوجلت بملئها بالاستدانة والقروض. لم توضع خطة شاملة للاقتصاد فكان التوجه عرض الفوائد العالية جداً لجذب الدائنين من أجل “تنفيذ” حزمة مشاريع بطريقة أقل ما يُقال فيها لا منهجية. فوائد سخية لامست الـ40 في المئة ودين يتراكم عاماً بعد عام أدى لأن ندفع سنوياً خدمة دين عام كبيرة أي الدفعة السنوية من أصل الدين والفوائد عليه.

نقطة مفصلية في مسيرة تطور الدين كانت عام 1998 حين بادر وزير المالية وقتذاك فؤاد السنيورة بالطلب من مجلس النواب للمصادقة على تحويل جزء من الدين إلى خارجي وبالأحرى إلى العملة الأجنبية. المبرر حينها كان إطفاء خدمة الدين العام وخفضها حيث الفوائد على الدين بالدولار تكون أقلّ بكثير من الفوائد على الدين بالليرة. إلا أن محاذير عدة لم تتم مراعاتها.

كيفية الاستدانة

كيف تأخذ الدولة قرضاً؟ بشكل أساسي تقوم وزارة المال عبر مصرف لبنان بإصدار “سندات خزينة” تحمل قيمة اسمية معينة- لنقل مليار ليرة- ويقوم من يملك المال- غالباً المصارف وكبار المودعين- بشراء هذه السندات! يحدد السند قيمة المبلغ والفائدة التي تُدفع كل ستة أشهر غالباً وتاريخ استحقاقه بالكامل. الـ”يوروبوندز” هي مثل هذه السندات تماماً مع فارق أنها بالعملة الأجنبية ويتم إصدارها عبر شركة خاصة حيث لا يحق لأجهزة الدولة اللبنانية (المصرف المركزي أم وزارة المال) إصدار سندات بغير الليرة.

تبلغ قيمة سندات الـ”يوروبوند” في لبنان حالياً نحو 30 مليار دولار، نصفها تقريباً تملكه المصارف اللبنانية.

الـ”يوروبوندز” هي إذاً واحدة من أدوات الدولة للحصول على العملة الأجنبية. ولماذا قد تحتاج الدولة للعملة الأجنبية كالدولار؟

المجتمع اللبناني مرتهنٌ للدولار ويحتاج إليه. الطلب على الدولار يأتي من فاتورة استيراد بأكثر من 20 مليار دولار، تحويلات المقيمين في لبنان إلى خارجه (وهي بالمناسبة تقترب من قيمة تحويلات المغتربين إلى داخل لبنان)، المدفوعات على الديون بالدولار محلياً وخارجياً، وغير ذلك. كل هذا يخلق طلباً هائلاً على الدولار في لبنان. والدولار في رأسمالية اليوم هو سلعة كالبندورة متى ارتفع الطلب عليها ارتفع سعرُها. وهنا يأتي دور المصرف المركزي. عندما يرتفع الطلب على الدولار أي شراء الدولار بالليرة، يصبح طالبو الدولار كالمستوردين ومحوّلي الأموال وغيرهم على استعداد لشراء الدولار بأكثر من سعره الرسمي لتأمين مصالحهم. في الحالات الطبيعية يتدخل المصرف المركزي في هكذا ظروف ويضخ الدولارات في السوق فيوازن بين العرض والطلب ويُرضي الجميع. أما في حالات الشحّ، فسرعان ما يؤدي التنافس لأن يقول تاجر لصرّاف: أعطيك 1600 ليرة للدولار ثم تتوالى العروض والمزايدات وينهار سعر الصرف رسمياً.

إذاً، المصرف المركزي في حاجة إلى الدولار كي يدافع عن الليرة في وجه الدولار ويحافظ على سعر صرفها، ويحفظ التوازن بين العرض والطلب. هذا ما دفعه إلى اتخاذ إجراءات عدة من جملتها الهندسات المالية التي حققت “أرباحاً استثنائية” بمليارات الدولارات للمصارف. هذا أيضاً ما دفع إلى تحول ودائع الناس إلى يد مصرف لبنان بتواطئه مع المصارف.

المطلوب واضح وهو تحرير المجتمع من عبء الدين العام الذي تحول منذ سنوات إلى ثقب أسود يبتلع مقدرات المجتمع ويحولها إللى يد القلّة الحاكمة. لا قدرة على الاستمرار بالدفع، هذا ربما ما يتفق عليه الجميع. والحل لا يكون بتأجيل الأزمة إنما بالتخفف النهائي منها. لا طائل من إعادة الجدولة في بلد تلحّ عليه الظروف والمؤشرات بضرورة الإسراع إلى إعادة هيكلة دينه العام إن كان بالتفاوض مع الدائنين أو بخطواتٍ أكثر جذرية. هذا إضافة إلى تحصيل موارد للدولة عبر احتصاص حصة من ودائع طبقة الـ1 في المئة وشركاتها وممتلكاتها التي جُمعت جميعها بفعل آليات نهب الشعب اللبناني على مدى عقود ثلاث. إن هناك ضرورة قصوى لوضع حد للانهيار المتسارع والذي لا يبدو أننا بتنا قادرين على تلمّس ملامح قعره وسط مؤشرات اقتصادية تسوء يوماً بعد يوم. الناس يفقدون سبل عيشهم بفقدانهم قيمة رواتبهم وأموالهم نتيجة الليرة المنهارة من ناحية وغلاء الأسعار من ناحية أخرى. هذا وسط مستجدات لا يبدو أنها تزيد الأمور إلا سوءاً بدءاً بالكورونا والجراد وصولاً إلى المتغيرات الإقليمية والدولية. ليس هناك وقت والذي على المحكّ ليس رفاهية المجتمع اللبناني بل محض وجوده في متن التاريخ أم هامشه.