fbpx

“تعرضنا للهجوم”… النساء والصدمة في عصر الرئيسين الاميركي والروسي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تحتل جرائم القتل المرتبة الخامسة بين أسباب الوفاة الأكثر شيوعاً في النساء بين سن 20 إلى 44 عاماً، جُلها على يد الشريك الحميمي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

الشهر الفائت، بينما شارك مئات الآلاف في مسيرة نسائية في العاصمة واشنطن، على بعد أميال من منزلي، كنت في صالة تمرين الكاراتيه، أخضع لاختبار أول حزام لي. تابع رفقاء التدريب، الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و70 سنة، التمارين، بينما كانت تخترق قبضتي قطعة خشبية سمكها إنشان. وأخذت كلمات أحد حاملي الحزام الأسود هناك تتردد في رأسي، عندما همس لي مبتسماً “تخيلي أن القطعة الخشبية هي ترامب”، وهو يدرك أن رأيه لا يشاركه فيه جميع من في صالة التمرين. وعندما شققت تلك القطعة الخشبية، صفق الجميع.

على رغم فخري بذلك الإنجاز الصغير، فقد عضضت على شفتي بندم، لمعرفتي بأنه كان يجب علي أن أشارك في هذه المسيرة برفقة طفليّ. فهما في نهاية الأمر من سيرثان هذا العالم غير المنصف بناء على النوع، والمحكوم في الوقت الحالي من قِبَل رئيسنا المتحرش، عالم يبدو أقل ترحيباً، على رغم حس الوعي المتنامي الذي جلبه حراك #مي_تو.

لا تزال النساء يجنين نحو 79 سنتاً في مقابل كل دولار للرجال (62 سنتاً إذا كنتِ امرأة ذات بشرة سوداء). واحدة من بين كل 5 نساء ستتعرض للاغتصاب خلال حياتها (مقارنة بواحد من بين كل 72 رجلاً). وفقاً لمراكز مكافحة الأمراض، تحتل جرائم القتل المرتبة الخامسة بين أسباب الوفاة الأكثر شيوعاً في النساء بين سن 20 إلى 44 عاماً، جُلها على يد الشريك الحميمي. كما وجد استطلاع للرأي أجري في عام 2018 أن 81 في المئة من النساء في الولايات المتحدة تعرضن لنوع من التحرش الجنسي على أيدي زملاء أو مشرفين. ومن الأمثلة على ذلك التقرير المُدين الذي صدر أخيراً حول التحرش والتنمر الذي تعرضت له موظفات فيكتوريا سيكريت.

بالمعدل الذي تسري به الأمور، تبدو آفاق الأمن الشخصي موحشة في السنوات المقبلة، ليس فقط بالنسبة إلي بل أيضاً بالنسبة إلى ابنتي التي تبلغ ثلاث سنوات، التي- بحسب اعتقادي- ستحظى بفرصة أفضل للشعور بالأمان إذا أتت معي إلى صالة التدريب، بدلاً من أن تحمل لافتة مناهضة لترامب تحت سماء كانون الثاني/ يناير الرمادية.

من الجدير بالذكر أنني لا أشعر باللامبالاة تجاه هذا التفسخ والانحطاط الحالي لعالمنا الذي لا ينتمي بأي من الأحوال للقيم الأميركية. فباعتباري أحد مؤسسي مشروع تداعيات الحرب في جامعة براون وزوجة عنصر في الجيش، فكثيراً ما كتبت عن أهمية الإدلاء بالشهادة حول أهوال العالم وبذلت جهداً لتسليط الضوء على ارتفاع معدلات العنف القائم على أساس النوع (العنف الجنساني)، إضافةً إلى الأعباء التي يتحملها مقدمو الرعاية من النساء بين صفوف مجتمعات جيش الولايات المتحدة التي عشت فيها في خضم هذه السنوات الأخيرة.

لا تزال النساء يجنين نحو 79 سنتاً في مقابل كل دولار للرجال.

على مدى العقدين الماضيين، سافرت أيضاً إلى روسيا، وهناك بحثت أمر التمييز بين الجنسين والعنف وانتهاكات حقوق الإنسان الأخرى تجاه المواطنين الأكثر ضعفاً. الآن وبصفتي معالجة نفسية تحت التدريب لحالات المحاربين القدامى وأسر أفراد الجيش واللاجئين والمهاجرين من حول العالم، الذين ينضوي كثر منهم تحت مظلة الناجين من العنف، أعاني من شعوري الخاص باليأس تحت وابل من القصص التي تدور حول سفك الدماء والاعتداءات الجنسية والعنصرية، إضافةً إلى شبح تصاعد معدل حالات الانتحار في هذا البلد.

قرب نهاية العام الأول من حكم الرئيس دونالد ترامب، وجدت نفسي في حالة من اليأس المحدود وخطرت ببالي نصيحة فيلسوف التنوير الفرنسي فولتير بأن “أعتني بحظي المحدود من الحديقة” – حتى وأنا أحاول أن أقوم بدوري الصغير بتوثيق اللاإنسانية التي تحدث على نطاق عالمي في كوكب مهدد بمخاطر جلية. حتى أنني بدأت إعادة نشر مقالات- على مدونة في حساب تواصل اجتماعي غير سياسي- تقترح أن كونك أم وربة منزل هي الطريقة الأكثر نجاعةً لتغيير العالم. في تلك الأحيان لم أكن أؤمن بهذه الأفكار بشكل حقيقي، إلا أن الكثير من الشكوك كانت تنتابني كذلك بشأن تغيير عالم يبدو أنه يؤول من سيء إلى أسوأ.

قصص نساء من روسيا

في روسيا، وخلال منتصف العقد الأوّل من الألفيّة الحاليّة، حين أدّت الفوضَى الناشئة في أعقاب انهيار الاتّحاد السوفياتيّ في تسعينات القرن الماضي إلى ظهور عصر بوتين الاستبداديّ المؤيّد لإنجاب المزيد من الأطفال، قضيتُ عدّة سنوات أثناء دراستي الدكتوراه في الأنثروبولوجيا، أدرس التمييز الجنسانيّ والعنف في أوساط الموظّفات المكتبيّات في البلاد.

جلستُ، في أحد أيام الشتاء، في مقهى في مدينة سانت بطرسبرغ أحتسي الشاي مع مديرة شابّة لإحدى شركات الغاز الروسيّة. بعدما استمعتُ إلى قصصها حول ما طُلِب منها من ارتداء تنانير قصيرة في العمل، وحول التعدّي عليها من قِبَل زملاء رجال خلال رحلات عمل إلى أوروبا، وإعطائها راتباً أقلّ من نصف ما حصل عليه زملاؤها الرجال، حثّتني أن أسأل نسوةً أخريات -كنت أجريت معهنّ مقابلات- عن هواياتهنّ.

أشرت إليها بأن تواصل الحديث عن نفسها، فقالت “أمارِس الفنون القتاليّة: الكاراتيه والأيكيدو. عليكِ تجربتها. فتلك الآونة هي التي تحتاجين فيها إلى الشعور بالقوّة”.

بالكاد استوعبتُ تعليقاتِها تلك. فقد بدَت فكرة كتابة أطروحة دكتوراه عن الهوايات منافيةً للمنطق. فقد كانت هناك أمور أهمّ للتركيز عليها في مجتمعٍ تتزايَد فيه عمليّة قمع أيّ تنظيم للجهود، عبر قيود بيروقراطيّة وترهيبات بلطجيّة.

كنت أتّصل بمكاتب مجموعات حقوق المرأة في موسكو وسانت بطرسبرغ، لأجد أن الأرقام خارج الخدمة. فهنالك امرأة أسّست شركةً ناجحة، واستخدمت مقرّها أيضاً مكاناً لمجموعة دعم صغيرة مناهضة للتحرّش الجنسيّ، ولكنّها وصلت المقرّ يوماً فوجدت نوافذه محطّمة وتجهيزاته قد سُرِقت، وكُتبَت كلمة “عاهر” باستخدام بخاخ الطلاء على حوائط المكتب.

وذات يوم، غالباً من قَبيل النزوة، قرّرتُ زيارة أحد دروس الأيكيدو في سانت بطرسبرغ مع امرأةٍ في مجال دراستي، كانت أيضاً تُنشِد الأشعار في مديح الفنون القتاليّة. عندما وصلت، اكتشفتُ أنّه مكتظّ بالنساء. ومع تدحرج الطالبات على الأرض، وإلقاء بعضهنّ بعضاً، سعياً إلى تحقيق اللياقة البدنيّة، كان المدرّبون يذكّرونهن بأنّه عليهنّ أن يضعن نصب أعينهنّ “القوّة وإرادة الحياة”، خلال أي شيء يفعلونه.

وجدت نفسي أسأل النسوة هناك باستمرار عن “هواياتهنّ”، وعلى نحو مطرد، رأيتُ أنّ الفنون القتاليّة واليوغا والسفر، وفي حالاتٍ عدّة “السير على الأسطح الساخنة”- وهي نشاطات تضمّها النسوة الروسيّات تحت عنوان “التنمية الذاتيّة”، بالروسيّة samorazvitie / саморазвитие- هي أمور ضروريّة من أجل مهمّة تقوية الذات في مواجهة حكومة عازمة على سحق كرامة جسد المرأة. فهي حكومة تروّج فكرة تكوين أسر مُغايِرة جنسيّاً، ولكنها لا تبدي أدنى اهتمام بحماية النساء من العنف الأسريّ أو من زملائهنّ ورؤسائهنّ الذين يعتدون عليهنّ جنسيّاً في العمل.

وإذا عدنا إلى الولايات المتّحدة، في دفاعي عن أطروحتي، تجاهَل أحد أعضاء اللجنة المشرِفة معظم عملي واعتبره مجرّد “مجموعة من قصص النساء”. وهذا حقيقيّ! لكن مع هذا لم أفهم الأهميّة الحقيقيّة لما رأيتُه.

علامَ حصلنا من الروس؟

في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، أي بعد نحو 6 سنوات من حصولي على الدكتوراه وفي الشهر الثامن من حملي بابنتي، كنت أغفو على الأريكة فيما تتحوّل خارطة الولايات المتّحدة على شاشة تلفازي إلى مزيد من اللون الأحمر الترامبيّ. تلقائيّاً استعاد عقلي ذكريات إعلانات “فايسبوك” التي كانت إضاءاتها تركّز على تجاعيد وجه هيلاري كلينتون، مبرِزةً تجهمها، ومصوِّرةً إيّاها بعلامات × سوداء تغطّي وجهها. أثارت تلك الإعلانات نوعاً من الألفة في داخلي؛ فقد ذكّرتني بصور حملات روسيّة لتشويه سمعة كلينتون، لكنّني لم أربطها بانتخابات 2016 إلى أن حلّت صدمة فوز دونالد ترامب.

وبعد شهورٍ قليلة، ذكّرني زوجي أننّي سهرتُ ليلتَها، وأنّني قلتُ في نعاسٍ نتج عن آلام الحمل “أشعر بأنّنا نتعرّض للهجوم”.

في الصباح التالي لفوزه، وما زال الإحباط يخيّم، تلقيّت رسالة إلكترونيّة من صديقة روسيّة قديمة وزميلة في مجال دراسات النسويّة، أبدت تعاطفها معي، وكتبت قائلةً “أعرف كيف هو شعور الحياة في ظلّ مثل هذا الرئيس”، في إشارةٍ بالطبع إلى الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين. وأضافت “الآن لديكم المشكلات نفسها التي نعاني منها”.

بالطبع لا شيء في تجربتي الشخصيّة يبدو ذا صلة بحجم المخاوف وانعدام الأمن الماليّ والافتقار إلى الحماية الاجتماعيّة ضد العنف، ممّا يُعانيه ويُواجهه زملائي الروس في حياتهم اليوميّة. ولكن مع مرور هذا الوقت منذ رسالة صديقتي، بدأت أرى تماماً ما كانت تَعنيه وتقصده فيها.

حين يصبح المرء شاهداً على فظائع هذا العالَم، وحين يعرف أنّ عقلَه وجسدَه، وعقولَ أطفالِه وأجسادَهنّ، عرضة لتلك الفظائع، وحين يكون القائد الذي اختارته بلادك من غير المرجَّح أن يوفّر الحماية ضد تلك الفظائع بل يمكن أن يوافق عليها، حينها يمكن أن يكون لها تأثير في العقل والجسد. كنتُ على وشك أن ألِدَ طفلةً عندما انتخبنا رئيساً كان قبل شهورٍ يتباهَى بالتحرش بالنساء ولمس أعضائهنّ الخاصّة رغماً عنهنّ. فكيف سينشأ الرجال من جيل ابنتي وأي قيم سيحملون؟

كيف يحمي الجيش نساءه؟

يعمل زوجي ضابطاً على متن غواصة تابعة للقوات البحرية، لكن لم يكن مسموحاً للنساء في مجتمعي بالخدمة العسكرية على متن بارجات حربية كهذه إلا قبل عقد مضى وحسب. وبعد صدور هذا القرار، وجدت نفسي أتطلع باشمئزاز، خلال مراسم غير رسمية لتوديع بعض الضباط والترحيب بآخرين، عندما ألقى ضابط نكتة عن التغيرات الهرمونية لدى النساء وقدرتنا على الإنجاب. فبعد هذا القرار، بدأت بعض الهدايا المضحكة مثل أجهزة اختبار الحمل المزيفة ودواء أليف (لعلاج أعراض ما قبل الدورة الشهرية الوهمية) تنتشر بين الجنود مع التلميح بأن طبيعة النساء الأنثوية تجعلهن ضمناً أقل جدارة بالثقة.

كانت الشابات المبتدئات على متن تلك الغواصات الحربية يجلسن صامتات في مثل تلك اللحظات ولم يكن أي شخص (وأنا من بينهم) ينبس ببنت شَفة خوفاً من التعرض للعقاب. فقد كانت عبارة “لقد مزقته إرْباً” هي الأسلوب الشائع، بين أفراد الخدمة الذين تحدثتُ معهم، لوصف التأديب اللفظي الذي يطاول من يرتكب خطأً على متن سفينة بحرية. وبعدما تحدثت إلى نساءٍ (ورجال أيضاً) حدث لهن ذلك فعلياً خلال أعمال عنف مروعة، أصبحت أجفل فزعاً في كل مرة أسمع فيها هذه العبارة. 

 81 في المئة من النساء في الولايات المتحدة تعرضن لنوع من التحرش الجنسي على أيدي زملاء أو مشرفين.

من واقع عملي مع النساء اللاتي تعرضن للاغتصاب، أعلم أن التعليقات التي تحُقر المرأة وتُسفهها تكون في مستوى الاعتداءات الجسدية المتوالية. فكلاهما يهدف إلى ترهيبنا والحط من إنسانيتنا. استشهدت مقالة نُشرت في أيار/ مايو عام 2019 في صحيفة “نيويورك تايمز”، بإحصاءات وزارة الدفاع، التي تفيد يأن هناك زيادة بلغت 50 في المئة في الاعتداءات الجنسية التي تتعرض لها النساء المنتسبات للجيش خلال العامين السابقين.

كيف أصبح المستحيل ممكناً؟

إحدى السمات المميزة للصدمة النفسية هي أن التفكير في أحد أشكال العنف يثير في الذهن أشكالاً أخرى لها الطبيعة ذاتها. خلال بحثي في “مشروع كُلفة الحرب” حول صراعات أميركا الأبدية وخلال مشاركتي في تأليف كتاب (الحرب والصحة: الآثار الصحية المترتبة على حربيّ العراق وأفغانستان)، أصبحت أحاسيسي أكثر استعداداً من أيّ وقتٍ مضى للتعاطي مع بعض أسوأ أهوال العالم.

في قصص النساء اللاتي قابلتهن وفي البحث الذي أجريته، كانت هناك دائماً أجساد نساء مشوهة تعاني. وقتها، كنت أثناء إطعامي طفلتي الرضيعة أتصفح سريعاً أخبار النزاعات المسلحة حول العالم باعتبارها جزء من عملي الذي قد يتمثل في إعداد تقرير حول الحرب والطريقة التي دمرت بها حياة وأجساد المدنيين في بلدان الشرق الأوسط الكبير وغيرها من البلدان. وأذكر على سبيل المثال قراءة قصة امرأة من جمهورية الكونغو الديمقراطية اُغتصبت ابنتها ذات التسعة أعوام على يد أفراد ميليشيات محلية واعتقلتها الشرطة في ما بعد. راودني ليلتها كابوس كنت فيه أنا تلك الأم.

في صيف عام 2017 بينما كنت أعتني وحدي بطفلين صغيرتين، بدأ ضباب من دخان حرائق الغابات التوغل عبر سفوح جبال كاسكيد ووصل إلى مطبخ منزلي الواقع في إقليم كاسكاديا (إقليم الشمال الغربي الهادئ). وفي ظل تلك الظروف، كيف لم يسعني التفكير في كيف يمكن للأزمات التي بدت مرة بعيدة المنال ومستحيلة أن تصبح فجأة ممكنة وقريبة لهذا الحد؟

من واقع عملي مع النساء اللاتي تعرضن للاغتصاب، أعلم أن التعليقات التي تحُقر المرأة وتُسفهها تكون في مستوى الاعتداءات الجسدية المتوالية.

بعد أسابيع من يوم الاستقلال لذاك العام، استيقظت أنا وزوجي فزعين على وقع انفجار شق صمت سماء منتصف الليل. فقد أطلق شخص ما ألعاب نارية، ارتعب كلانا، لكنه ارتعب أكثر مني. بعدها تساءلت عمّا سمعه ورآه في حياته بدوني ولا يمكنه التحدث عنه. تشابكت أيدينا. قلتُ له، “أعلم أنها مجرد ألعاب نارية، لكنني بطريقة ما أشعر بعدم الأمان. كأنه، إذا حدث شيء ما، فلن يهتم أحد بذلك”. أومأ برأسه وقال محاولاً أن يبدو هادئاً “أتفهم ذلك”. 

قد يبدو الادعاء بأن عيش حياة مميّزة في الولايات المتحدة، بينما تعلم بشأن العنف الحاصل في أماكن أخرى بعيدة، يتسبب في الشعور “بصدمة نفسية”، مدعاةً للسخرية من قبل كثيرين لأسباب مفهومة. ولكن كما أخبرني أحد الأساتذة المتخصصين في العمل الاجتماعي ذلك الصيف، إذا كنت تتعاطف مع الآخرين بالدرجة اللازمة، فثمة فارق نفسي ضئيل للغاية هنا (في تلك اللحظة على الأقل) بين أن تكون شاهداً على هذا الحدث وأن تمر بهذه التجربة بنفسك.

بعد انطلاق الألعاب النارية المفاجئة المصاحبة احتفالات يوم الاستقلال بقليل، وانطلاقاً من رغبتي في استعادة الشعور بالفاعلية، حددت موقع أقرب مركز للتدريب على فنون الإيكيدو القتالية، وقمت بالتسجيل لبدء التمرين مجدداً. في غضون بضعة أسابيع، وجدت نفسي أولي اهتماماً أكبر للمرضى أكثر مما كنت أتوقع يوماً. وسرعان ما قبلت عرضاً بالعودة إلى روسيا وإنتاج فيلم وثائقي عن تجارب المعاقين الذين يعيشون في مراكز الرعاية هناك.

في لحظة من اللحظات، أخبرت إحدى السيدات في مركز الفنون القتالية، كانت تعمل ممرضة مع المجندات المقاتلات السابقات اللواتي يعانين من صدمات نفسية معقدة، بأنني أشعر بتوتر متزايد إزاء سياسات إدارة ترامب الجديدة. ورداً على ذلك، أشارت إلى عقدة حزامها في منتصف خصرها، والتي يزعم مدرب الفنون القتالية أنها تَشُد من أزرك وتثبتك عندما تتعرض للهجوم، وقالت “هذا من شأنه أن يساعد، كما تعلمين”.

في العصر الترامبي: اعتنِ بنفسك!

تنطوي ممارسة الأنشطة مثل التدريب على فنون آيكيدو القتالية (حتى لو كانت إلى حد كبير بصورة هامشية في حياتك) على الكثير من المميزات، منها أنك تحظى بتجربة يصعب اكتسابها بصورة متزايدة في هذا العالم الترامبي الذي نحيا فيه. ففي مثل هذه الأماكن، لا يزال بإمكان الأشخاص الذين لا يتفقون عادةً على الكثير من الأشياء أن يدعموا بعضهم البعض. يتميز مركز الفنون القتالية الذي أذهب إليه بالتنوع، إذ يوجد به مؤيدين لترامب، وديمقراطيين مخلصين، فضلاً عن السكان الأصليين، والسود، وجميعهم يمارسون التدريبات معاً، ويقدمون المساعدة المباشرة لبعضهم البعض عندما يكون شخص ما مريضاً أو في حاجة ماسة لمن يجالس أطفاله. دفعني ذلك للتفكير: أليس هذا هو نوع التعايش على رغم الاختلاف الذي حاولت السلطات الروسية تدميره عام 2016، وتحاول إدارة ترامب تدميره الآن؟

بعد مضي سنوات على الاحتجاجات الهائلة التي شهدتها روسيا عام 2011 ضد تزوير الانتخابات، سألت بعض الأصدقاء الذين كانوا في موسكو وسانت بطرسبرغ عن دوافعهم آنذاك. أجاب أحدهم قائلاً “بل قولي: ما الذي لم نتظاهر من أجله؟” وقال آخر، “لقد كانت دوافعنا مختلفة”. على سبيل المثال، طالب عدد كبير من زملائي الروس بالحماية من التحرش الجنسي، أو التمييز العنصري، أو العنف ضد مجتمع الميم الذين تعرضوا لتهديدات بالقتل بسبب أفعال بسيطة للغاية مثل مجرد السير في الشوارع فحسب. لكن وسط أصدقائي، كان الشيء الوحيد الذي لم يبدو أنه يتوافق مع حركة الاحتجاج في تلك اللحظة، هو التشبث بالأسس الحزبية الساذجة التي استبعدت الاختلاف.

حضرت في الآونة الأخيرة دورة تدريبية بقيادة فريق من علماء النفس والمعالجين الذين يذهبون إلى جبهات القتال لتقديم جلسات علاج جماعي من الكوارث للناجين من العنف والاعتداءات الجنسية في أوقات الحروب. طلبت منا طبيبة من هؤلاء الأطباء النفسيين أن نبدأ في الاستماع إلى موسيقى البوب التي تعكس مشاعر مختلفة من الحزن إلى الأمل. وزعمت أن ذلك وسيلة لتحسين الحالة الجسدية والإدراكية والعاطفية. إذا شعرت بالحزن، فيجب أن تظهر ذلك الحزن بتعبيرات جسدية، ولكن يجب أيضاً اختيار نوع موسيقي يمكنك من الانتقال إلى مشاعر مختلفة تماماً. استخدمتُ أساليب مماثلة مع مرضاي، ووجدها بعضها مفيدة بالفعل، بخاصة في إطار المجموعات.

لعل مثل هذه الممارسات من الرعاية الذاتية أو الهوايات الجانبية، لا تفضي إلى حل مشكلات هذا العالم البائسة والعميقة. بيد أن هذه المشكلات تنمو بشكل هائل في ظل حكم هذا الرئيس، ما يجعل تعزيز دفاعاتك الخاصة إنجازاً جديراً بالاهتمام في حد ذاته. 

فقد حث فولتير قراءه على إيلاء العناية بأنفسهم الأولوية في وقت ساد فيه التعذيب والتعصب برعاية الحكومة في مختلف أنحاء أوروبا. ويمكن القول إن آراءه لا تعكس سوى بشكوك قليلة في إمكان تغيير عالمنا نحو الأفضل، وبدلاً من ذلك تركز على الاعتراف بأن الحريات الإنسانية الأساسية -مثل السلامة الجسدية- مهددة بشدة وتجب حمايتها. وفي الأخير، يستحق أي مجتمع يقوم على احترام حقوق الإنسان ورعايتها، وأي مجتمع يسمح لمواطنيه بالاعتناء بأنفسهم أولاً، أن نولي له اهتمامنا كله.

هذا المقال مترجم عن salon.com ولقراءة الموضوع الاصلي زوروا الرابط التالي.