fbpx

الانتخابات اللبنانية: المقاطعة كفعل غير سياسي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قبل مدة وجيزة، أظهر كثيرون من ناشطي ما يسمى المجتمع المدني حماسة وشهية للانتخابات المقبلة. انطلقت هذه الحماسة من معطيين: الأول، أداء لائحة “بيروت مدينتي” في انتخابات بلدية بيروت العام الماضي. الثاني، إقرار قانون انتخابي يعتمد النسبية، وهو أمر طالما نادى به هؤلاء الناشطون وقوى سياسية عدة همَّشتها القوانين الأكثرية التي اعتمدت في كل انتخابات لبنان منذ استقلاله…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قبل مدة وجيزة، أظهر كثيرون من ناشطي ما يسمى المجتمع المدني حماسة وشهية للانتخابات المقبلة. انطلقت هذه الحماسة من معطيين: الأول، أداء لائحة “بيروت مدينتي” في انتخابات بلدية بيروت العام الماضي. الثاني، إقرار قانون انتخابي يعتمد النسبية، وهو أمر طالما نادى به هؤلاء الناشطون وقوى سياسية عدة همَّشتها القوانين الأكثرية التي اعتمدت في كل انتخابات لبنان منذ استقلاله. لكن سرعان ما تبددت هذه الحماسة مع بدء تشكيل اللوائح الانتخابية، ومال كثيرون إلى ترداد المقولة القديمة عن أن القانون الجديد (بنسبيته المشوهة) سيعيد إنتاج الطبقة السياسية الحاكمة ويعزز السلوك الطائفي.

لا شك في أن القوانين الانتخابية تلعب دوراً مهماً في تشكيل السلطة في الأنظمة الديموقراطية. لكن الأمر الذي سيجدد الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان هو، في الأساس، سلوك الناخب الطائفي وولاؤه لطائفته. فبغض النظر عن الأسباب التاريخية والاقتصادية والاجتماعية، العميقة منها والسطحية، التي صنعت هذا السلوك وذلك الولاء، يبقى أنهما يضمنان التجديد للقوى الحاكمة بغض النظر عن القانون الانتخابي المعتمد. لا شك في أن لهذه القوانين الانتخابية آثاراً مستقبلية محتملة على سلوك القوى السياسية وناخبيها. لكن ذلك سيأخذ وقتاً ويعتمد على عوامل وظروف كثيرة.

في هذا السياق، يرى البعض أن المشكلة تكمن في النظام السياسي الطائفي الذي يحكم لبنان منذ استقلاله. وعليه فإن لبنان لن يستطيع الخروج من أزمته السياسية من دون تغيير جذري يضمن الانتقال من نظام طائفي، ذكوري، غير عادل، وخاضع لهيمنة منظومة أمنية عسكرية لا تتبع لمؤسسات الدولة، إلى نظام ديموقراطي، علماني، مساواتي تسود فيه المؤسسات الشرعية. أما الرهان على التغيير عبر العملية الديموقراطية في ظل النظام والوضع الحالي، فهو وهم يدل عليه فشل انتخابات عامي 2005 و2009 في تحقيق أي إنجاز أو حتى تقدم حقيقي. هذا تقريباً ما نادى به عدد من الناشطين والمثقفين في بيان يشرح أفق الانتخابات المقبلة المسدود.

لكن البيان لا يقدم أي رؤية حول سبل إقامة النظام المرجو. فإذا كانت المشاركة في الانتخابات في ظل النظام القائم ليست أداة تغيير مجدية، أصبح السؤال: ما هو البديل؟ هل هو الثورة أو الخروج إلى الشارع مثلاً؟ أم أنه مقاطعة الانتخابات؟ لا يدعو البيان أو حتى يلمّح إلى أي من هذه الخيارات. لكن المقاطعة تبدو النتيجة المنطقية لمحتواه وروحيته. فطالما أن الانتخابات غير مجدية، فلا داعي إذاً للمشاركة فيها. أما المقاطعة فمن شأنها تعرية النظام الحالي ورفع بعض الغطاء عنه.

لكن خيار المقاطعة المبني على رفض النظام الحالي ورفض هيمنة سلاح “حزب الله” لن يكون له اي أثر ملموس إذا اقتصر على أعداد قليلة ومحدودة من الناشطين والمثقفين، وهو الأرجح، من دون أن يشمل قطاعات واسعة من اللبنانيين تكون عابرة للطوائف ومن شأنها أن تخفض نسب المشاركة بشكل يلقي ظلاً ما على شرعية الانتخابات. ومن الواضح، حتى الآن، أن الأداء الطبقة السياسية الرديء لم يؤثر في إقبال الناخبين، لا بل من الممكن أن تتزايد أعداد المقترعين في الدورة المقبلة في ظل القانون النسبي الجديد وصوته التفضيلي، بخاصة في تلك الدوائر التي كانت تعتبر محسومة سلفاً في ظل القانون الأكثري. بمعنى آخر سيكون الانكفاء المحدود عن الانتخابات في ظل ظروف كهذه أقرب إلى كونه تعبيراً عن حال إحباط أو يأس سياسي (لعلها مبررة) وليس فعلاً سياسياً تغييرياً.

لا مخرج من الأزمة، بحسب البيان، إلا بطرح برنامج سياسي يسمي الأشياء بأسمائها ويصر على مسائل العدالة الاجتماعية والعلمانية وحماية الحريات الفردية الأساسية، السياسية والشخصية، ومواجهة العدو الإسرائيلي، ودعم حقوق الشعوب العربية ضد الاستبداد، ومواجهة الأصوليات على اختلافها. أي  برنامج بخلاف ذلك، يقول البيان، ناقص وغير قادر على بناء حركة سياسية شعبية تواجه الخراب الذي يصنعه النظام القائم.

يمكن قول الكثير في المزايا السياسية والأخلاقية لبرنامج كهذا. إنما من غير الواضح كيف بإمكان طرح هذا البرنامج أن يفتح كوّة ما في النظام الطائفي الذكوري المتجذر. ففي الغالب، سيبقى متبنّو برنامج جذري كهذا، أقلية نخبوية صغيرة محدودة الفاعلية. وإذا كانت المساومة والتقاطعات مع قوى أخرى طائفية غير قادرة على إحداث التغيير المرجو في ظل النظام الحالي، كما أثبتت تجربة الرابع عشر من آذار، فلماذا ستكون حظوظ ذلك التغيير أقوى عبر الإصرار على الجذرية والنقاء السياسي؟

لا شك في أن تجربة تحالف المجموعات الديموقراطية والعلمانية مع قوى الرابع عشر من آذار التقليدية والطائفية، على قاعدة رفض هيمنة النظام السوري وسطوة سلاح  “حزب الله”، قد باءت بالفشل. لكن سبب الفشل لا يكمن في  طبيعة تحالفات تلك المجموعات العلمانية التقدمية. فلا أظن أن أحداً يعتقد أنه كان بمقدور تلك المجموعات أن تحقق نجاحاً أكبر في إضعاف “حزب الله”، او إقناعه بالتخلي عن سلاحه، لو أنها لم تتحالف مع تلك القوى الطائفية. إن فشل قوى الرابع عشر من آذار في تحقيق أهدافها في ما يخص سلاح الحزب، مرده أساساً إلى عجز داعميها الإقليميين وتخبطهم، وتخلي رافعتها الدولية عنها، في حين بقيت رافعات الحزب تعمل بلا كلل. فجاء الطلب السعودي من سعد الحريري زيارة سوريا والصمت الأميركي إزاء اجتياح بيروت والجبل في السابع من مايو\ أيار لتقضي على الأمر. إن فشل قوى الرابع عشر من آذار في تحقيق أهدافها، على رغم التضحيات الكثيرة، لا يختلف كثيراً عن فشل الثورة السورية في تحقيق أهدافها، وهو عجز داعميها أو تخلي المجتمع الدولي الغربي عن حمايتها، في حين استمر النظام في بطشه مدعوماً بلا رادع ولا هوادة من حماته الإقليميين والدوليين.

لا شك في أن فشل انتفاضة الرابع عشر من آذار يجب أن يحث ناشطيها على المراجعة. لكن ذلك الفشل لا يجب أن يدفعنا إلى المبالغة في تقدير قدراتنا، بل إلى إدراك ضعفنا وحاجتنا إلى الآخرين على رغم اعتراضاتنا الكثيرة عليهم.