fbpx

لماذا يفشل التنوير السلطوي دائماً؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

للمثقف التنويري مشكلة قديمة حديثة هي افتقاره إلى السلطة والتأثير.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

فإذا كان المثقف التقليدي الديني يتمتع بحماية المؤسسة الدينية، وإذا كان المثقف الحزبي يعمل بإمكانات الحزب الديني أو العلماني، وإذا كان مثقف السلطة يمارس تأثيره مستخدماً رعاية الحاكم، فإن المثقف التنويري الذي نشأ نشأة استثنائية نتيجة الاشتباك والتأثر بقيم العصر الحديث والحضارة الغربية، يعمل من دون استناد إلى أي قوة تحميه. حتى الأنظمة العسكرية العربية التي سيطرت منذ خمسينات القرن الماضي وستيناته، لم تقدم حماية للمثقف التنويري، على رغم شعاراتها التقدمية والقومية.

أمام هذا المأزق لجأ المثقف التنويري إلى حيلة التقرب من السلطة أو العمل من خلال المؤسسة. لكنه وهو يعمل من خلال السلطة لا يؤمن بقيمها ويحلم بالخلاص منها، وكان هذا التناقض غالباً ما ينتهي بالمثقف إلى مرحلة “المحنة” عندما تتبدل اهتمامات السلطة السياسية أو يفشل المثقف في الاستمرار في مهادنة السلطة.

أفضى الربيع العربي إلى تمايز وصراع جديد بين السلطتين المسيطرتين على المجتمع العربي: السلطة الدينية والسلطة السياسية (السلطان والفقيه، الحاكم والمفتي). السلطة الدينية سواء تمثلت في إسلام المعارضة (الإخوان السلفيين الشيعة) أو في إسلام السلطة (الأزهر، المرجعيات الشيعية)، والسلطة السياسية سواء تمثل في شخصيات عسكرية (مصر، سوريا، حفتر في ليبيا) أو أنظمة تقليدية وراثية (السعودية والإمارات).

أفضى الربيع العربي إلى تمايز وصراع جديد بين السلطتين المسيطرتين على المجتمع العربي: السلطة الدينية والسلطة السياسية.

في خضم هذا الفرز السلطوي وجد المثقفون الحداثيون والتنويريون أنفسهم أمام مأزق جديد للانتماء لطالما خبروه تاريخيا أكثر من مرة. فهل يتحالفون مع السلطة الدينية التي لا زالت تحمل شعارات المعارضة والتغيير داخل أفق سلطوي استبدادي مستند الى ادعاءات الهية، ؟ أم يتحالفون مع السلطة السياسية التي لا تنكر استبداديتها ولكنها تقدم نفسها في موقع الاستبداد المستنير والحفاظ على الدولة والحريات الشخصية للناس في وجه المعارضة الإسلاموية التي تسعى لإسقاط الدولة وحرمان الناس من أبسط حرياتهم الشخصية؟

كانت الساحة الفكرية العربية قد طرحت فكرة “الكتلة التاريخية” قبل عقد من الربيع العربي. وكانت فكر الكتلة التاريخية قائمة على تشكيل تحالف من اليساريين والإسلاميين والقومييين والليبراليين من أجل مواجهة السلطة واجهزتها الأمنية والايديولوجية. وكانت ساحات الربيع العربي نموذجاً مثالياً لهذا التحالف.

جرب المثقف الحداثي والتنويري التحالف مع السلطة الدينية المعارضة ضد الأنظمة حتى وصل التحالف مداه في 2011 وما تلاها، لكنه اكتشف مع نهاية الأحداث أن هذه الجماعات لم تكن تؤمن بأي من شعارات الحرية والمدنية والديموقراطية التي رفعتها وأنها في تجربتها القصيرة مع السلطة لجأت إلى إقصاء كل من تحالف معها من قوى التغيير. لهذا رأى بعضهم ان طبيعة التحالف يجب أن تتغير بخاصة بعد تغول هذه الحركات الدينية وأن لا سبيل إلى ذلك إلا التحالف مع السلطة السياسة مرة أخرى.

يحدث التحالف الجديد بين التنوير والسلطة في ظل غياب رموز ثقافية كبرى للتنوير. وبدأ هذا التحالف يطلق شعارات تبريرية تنطلق من فكرة واحدة، التضحية بالحرية من أجل الأمان وتفادي السقوط تحت حكم الفاشية الدينية. شعارات مثل: 

“نرفض الديموقراطية التي ستأتي بالدواعش إلى السلطة”.

“نريد ديموقراطية تأتي فقط بالديموقراطيين وحتى نضمن ذلك لا حل إلا بديكتاتورية عسكرية”.

“التغيير يتم من طريق حاكم مستبد مستنير يهيئ المجتمع وبعد ذلك يمكن أن نتحدث عن الحرية والديموقراطية”.

“إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن والشعوب ليست جاهزة بعد لتحديد من يحكمها وكيف يحكمها”.

وقد سبق للمثقف العربي التنويري أن تحالف مع السلطة ضد الجماعات الدينية في فترة التسعينات من القرن الماضي، عندما تصاعدت موجات الإرهاب والتكفير لتحصد رؤوس المثقفين تكفيراً وقتلاً (فرج فوده، نصر ابو زيد، العشماوي) فكان الاحتماء بالسلطة خوفاً من سيف الجماعة من آليات التكيف التي اتخذها المثقف الحداثي المحروم من أي آلية دفاعية. لكن تحالف المثقف والحاكم لم يؤد إلى ثورة في الفكر أو إنجاز للتنوير بقدر ما أدى إلى تحول المثقف إلى جهاز تبريري للحاكم والسلطة.

سبق للمثقف العربي التنويري أن تحالف مع السلطة ضد الجماعات الدينية في فترة التسعينات من القرن الماضي، عندما تصاعدت موجات الإرهاب والتكفير لتحصد رؤوس المثقفين.

وكانت السلطة المصرية في إطار مواجهتها مع الإرهاب في تسعينات القرن الماضي نجحت في التنسيق مع عدد مهم من المثقفين التنويريين والتقدميين لتتحالف معهم في معركتها ضد الإرهاب، وهي المعركة التي انتهت بهزيمة الجماعات الإرهابية من ناحية وسيطرة الفكر الديني المنغلق من ناحية أخرى، بما يعني أن السلطة نجحت في هدفها من التحالف مع المثقف التنويري، لكن المثقف فشل في تحقيق هدفه من التحالف مع السلطة وغادرها بعدما خسر التنوير وخسر الصدقية معاً. بينما اتجهت السلطة الى التقرب من الجماعات الإسلامية بعدما أدركت أنها صاحبة التأثير الأكبر على الشارع والجماهير.

شاهدنا “محنة” المثقف مع السلطة في نماذج كثيرة تاريخياً ابتداء من ابن رشد وابن خلدون والمعتزلة قديماً وصولاً إلى محمد علي الشوكاني رفاعة الطهطاوي حديثاً.  

يقول لنا التاريخ إن التحالف بين المثقف والسلطة دائماً ما يؤدي إلى انتصار السلطة وخسارة المثقف. وما زال النموذج التاريخي لتحالف المعتزلة مع نظام الاستبداد المستنير للمأمون صادقاً وذات دلالات. فقد احتاج المأمون لقوة ثقافية مستنيرة لمواجهة سيطرة “المطوعة” من الحنابلة على الشارع وتهييجهم للعامة ضد السلطة العباسية. وتحالف المعتزلة معه وقدموا له التبرير الايديولوجي لقمع الحنابلة، لكنهم تحولوا بسبب ذلك من حركة كانت تمثل قمة الاستنارة العقلانية في التاريخ الإسلامي إلى مجرد سيف للحاكم. لهذا كان سقوطهم سهلاً في عهد الخليفة المتوكل بعدما خدموا ايديولوجية الدولة عند ثلاثة خلفاء هم المأمون والمعتصم والواثق. لكن الخليفة المتوكل استغنى عنهم واضطهدهم بعدما انتهت مهمتهم وصار محتاجاً للتحالف مع “المطوعة الحنابلة” بصفتهم المؤثرين الفعليين بالجماهير والمتحكمين بالشارع.

هل سيختلف مصير التحالف الجديد للمثقف التنويري مع الحاكم عن سابقاته؟ 

على رغم أن بعض المثقفين التنويريين لا يزال يراهن على نوع من التنسيق مع السلطة الدينية (الإسلام السياسي) إلا ان الأغلب قد انتقل الى صفوف العمل مع الأنظمة المشتبكة في معارك مع الإسلاميين. لكن عيب هذا التنوير الحكومي أنه قائم على صفقة “الأمان مقابل الحرية” وعلى السيطرة الكاملة للسلطة على المجتمع المدني والنشاط السياسي والديني. وفي جو مثل هذا يفقد التنوير وجاهته لأن الشرط الأول للتنوير كما طرح كان قبل قرنين استخدام العقل، والشرط الأول لاستخدام العقل بحسب الايديولويجية الجوهرية للتنوير هو الحرية.

هل سيختلف مصير التحالف الجديد للمثقف التنويري مع الحاكم عن سابقاته؟ 

لا أعتقد ذلك، فها هم “المستبدون المستنيرون” بعد الربيع العربي يغازلون السلطات الدينية (الأزهر، السلفيين، الصوفية) ويخطبون ودها لأنهم ما زالوا على إيمانهم بأنهم الأكثر قدرة على تغيير الشارع وتحريك الجماهير.