fbpx

أم كلثوم أو الظاهرة التي لا تموت

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يخلو الغرب من نظير لأم كلثوم، ولا يوجد على الساحة فنان يلقى هذا القدر من الحب والاحترام مثل ما تلاقيه أم كلثوم في العالم العربي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تسمع صوت مقهى أم كلثوم قبل أن تراه، ينبعث صوت الكمان مثيراً العواطف ويشق الصوت الأسطوري مدخل حي التوفيقية في القاهرة. خارج المقهى، يجلس كل اثنين على مقاعد بلاستيكية يدخنان النرجيلة، ليظهرا كأقزام بجانب تمثالين ذهبيين ضخمين للمطربة التي مُنحت ألقاباً عدة، منها “كوكب الشرق” و”أم العرب” و”هرم مصر الرابع”.

سجلت أم كلثوم 300 أغنية تقريباً على مدار 60 عاماً خلال مسيرتها الفنية، لنسمع اليوم أغنياتها عن العشق والهجر والشوق آتية من السيارات والراديو والمقاهي في العالم العربي بأكمله بعد 45 عاماً على رحيلها. على رغم القصائد العربية الصعبة التي تغنّت بها، أثّرت أم كلثوم في عدد من أشهر مطربي الغرب. وصفها بوب ديلان قائلاً، “إنها رائعة. حقاً إنها رائعة”. وأدت كل من شاكيرا وبيونسيه حركات راقصة على أنغام موسيقاها. وقالت ماريا كالاس، إنها “صوت لا يُضاهى”.

يخلو الغرب من نظير لأم كلثوم، ولا يوجد على الساحة فنان يلقى هذا القدر من الحب والاحترام مثل ما تلاقيه أم كلثوم في العالم العربي. على رغم ذلك، كانت لا تزال غير معروفة إلى حد ما في المملكة المتحدة حتى عرض مسرحية غنائية على مسرح “بالاديوم لندن” ليتبدل الأمر. تسرد المسرحية بعنوان “أم كلثوم والعصر الذهبي” حياتها باللغة الإنكليزية مع أغنياتها باللغة العربية. تقول منى خاشقجي، منتجة العرض، “يهدف جوهر رسالتي إلى ترويج ثقافتنا الثرية بالموسيقى العربية الكلاسيكية في الغرب”.

تصور المسرحية مصر أثناء فترة الثراء الثقافي وطفرة التغير الاجتماعي السياسي في البلاد. وترد على سؤال طرحته فيرجينيا دانيلسون، المتخصصة في علم الموسيقى العرقية، والتي كتبت سيرة حياة أم كلثوم، “هل يُمكن أن تُمثل حياة امرأة واحدة ومسيرتها، 50 عاماً في المجتمعات العربية التي ظهرت فيها المرأة للعالم الخارجي أنها مظلومة ومقهورة وخفية؟”، وليس فقط امرأة عادية، بل امرأة أثارت مزاعم مثليتها الجنسية ورفضها المعايير الجنسانية التقليدية، بعض الدهشة خلال حياتها.

ولدت أم كلثوم في إحدى قرى دلتا النيل عام 1904 لأب يعمل إماماً وزوجته. حاول الأب دعم دخل الأسرة بغناء التواشيح الدينية بصحبة ابنه وابن أخيه، بينما اعتادت ابنته تقليدهم، ليبدو بعد ذلك أنها تعلمت الغناء في بادئ الأمر “مثل الببغاء”. انضمت الابنة إلى فريق العمل العائلي، وتميزت بصوتها القوي المُبدع، لكن كونها امرأة تغني التواشيح الدينية أثار حفيظة البعض. ولذا ألبسها والدها معطفاً للصبية وغطاء رأس بدوي أسود، لا يظهر منه سوى فمها وعينيها. مع ذلك، تحرر صوتها من قيود التفرقة الجنسية ولمع ليجذب انتباه أبرز الموسيقيين آنذاك، الذين بدورهم دعوها إلى القاهرة.

على رغم القصائد العربية الصعبة التي تغنّت بها، أثّرت أم كلثوم في عدد من أشهر مطربي الغرب.

في أوائل عشرينات القرن الماضي، استغرقت أم كلثوم وقتاً لتثبت موهبتها في المدينة الشاسعة. وبينما أُعجبت صفوة المجتمع بصوتها في القاهرة، فقد تعرضت للسخرية بسبب ملابسها وسلوكياتها الريفية الغليظة. لذا تعلمت تدريجاً التأنق في أفضل الملابس وتعاونت مع نخبة من فناني هذا العصر، على رغم شهرتها كمطربة صعبة الإرضاء. فقد تنافست أشهر شركات الإنتاج للتعاون مع أم كلثوم، بينما تفاوضت هي بذكاء لزيادة أجرها وشهرتها. وسرعان ما ضاعفت أجرها لتضاهي أشهر الفنانين على الساحة في القاهرة آنذاك.

قال روبرت بلانت عضو فرقة الروك “لد زبلين” عند سماع صوت أم كلثوم في مراكش عام 1970، “لقد أُصبت بالذهول عندما سمعت صوتها للمرة الأولى بينما تتدرج في نزول المقامات لتنتهي بنغمة لم أتخيل مطلقاً إمكان غنائها، كان الأمر رائعاً: لقد زعزعت لدي مفهوم الغناء”.

تميز صوتها بأنه صوت رنان، من أندر الأصوات النسائية، ويتمتع بقوة مذهلة. غنت أم كلثوم أمام جمهور هائل من دون ميكروفون وكانت ترتجل ببراعة تامة. وقال عنها نجيب محفوظ، الروائي المصري الحائز نوبل “كانت تغني مثل الواعظ المُلهم من جمهوره. فعندما يدرك الواعظ ما يصل إلى جمهوره، يمنحهم المزيد، ويتفانى فيه”. كان الجمهور يهتف لتعيد غناء المقاطع وكانت تستجيب لهم، لتستمر الأغنية ما بين 45 و90 دقيقة. تنقلت أم كلثوم ببراعة بين نبرات الصوت وأبرزت المقامات بمهارة لينفجر التصفيق الحار. ويُقال إنها لم تغن مقطعاً واحداً مرتين بالطريقة ذاتها.

كانت حفلات أم كلثوم تستمر عادةً 5 ساعات تقريباً، تضم 3 أغنيات طويلة. كان هدفها إمتاع المستمعين بالطرب وحالة المشاعر الجياشة التي تنغمس فيها النفس وتذوب في الموسيقى.

خلال الأربعينات، اتجهت إلى لون الموسيقى المصرية العاميّ والشعبي، وكانت خطوة ذكية لما مرت به البلاد آنذاك من غضب بسبب سيطرة بريطانيا عليها. كما تغنت بالشعر العربي النابض بالحياة، ما ربط اسمها بالأدب الراقي. فقد قدمت أم كلثوم مثالين للمرأة: أحدهما صورة السيدة الراقية التي ارتقت بذوق الجمهور، والأخرى هي صورة الابنة الريفية التي عبرت عن آلام الطبقة الكادحة.

سجلت أم كلثوم أغانيها على اسطوانات فينيل وقامت ببطولة ستة أفلام غنائية. ومنذ عام 1934 ولمدة 40 عاماً، واظبت على إحياء حفل موسيقي في الخميس الأول من كل شهر، ما أصبح ظاهرة اجتماعية، وانتشرت روايات عن خلاء الشوارع وأماكن العمل من تونس حتى العراق بسبب اندفاع الملايين من الناس إلى منازلهم للاستماع إلى حفلها الموسيقى. فقد جسدت أم كلثوم مثالاً للوحدة العربية وأصبحت خياراً لا غنى عنه لدى السياسيين الأذكياء.

ثمة قصة شائعة تقول إن أغاني أم كلثوم مُنعت من الإذاعة بعد ثورة 1952 لأنها كانت غنت من قبل لقادة النظام القديم. لكن عندما سمع جمال عبد الناصر البطل القومي الذي أصبح في ما بعد ثاني رئيس لمصر عن منع أغاني أم كلثوم قال: “ماذا يفعلون؟ أفقدوا عقولهم؟ هل تريدون أن تنقلب مصر ضدنا؟”.

أدرك عبد الناصر مكانة أم كلثوم بوصفها رمزاً للثقافة العربية والمصرية الأصيلة. وقد استغل جمال عبد الناصر شعبية أغانيها، إذ كان يذيع خطاباته بعد أغانيها لترويج السياسة القومية العربية التي ينتهجها. كما غنت أم كلثوم تأييداً لعبد الناصر وتبرعت بملايين الدولارات للجيش. وفي حين يعتبرها البعض أداة استخدمها عبد الناصر لتحقيق أغراضه السياسية، ترى دانيلسون أن العلاقة بين عبد الناصر وأم كلثوم كانت علاقة منفعة متبادلة بين الطرفين، فقد كانا يتفقان على مسائل عدة. وأضافت أنهما “كانا يميلان إلى قول الأشياء ذاتها عن نفسيهما وعن مصر والعالم العربي. وثمة أوقات قد لا تعرف فيها من المتحدث: أم كلثوم أم عبد الناصر”.

عام 1967، قدمت أم كلثوم عرضها الوحيد في أوروبا في قاعة مسرح الأولمبيا في باريس. وحصلت على ضعف الأجر الذي تتقاضاه كالاس من المسرح ذاته، وفاق سعر تذاكر الحفل سعر تذاكر حفل المغني سامي ديفيس جونيور بأربعة أضعاف. وبعد العرض، قالت أم كلثوم: “ليس بإمكان أحد أن يصف مقدار اعتزازي عند زيارتي باريس، فقد وقفت في قلب أوروبا ورفعت صوتي باسم مصر”.

“لقد أُصبت بالذهول عندما سمعت صوتها للمرة الأولى بينما تتدرج في نزول المقامات لتنتهي بنغمة لم أتخيل مطلقاً إمكان غنائها، كان الأمر رائعاً: لقد زعزعت لدي مفهوم الغناء”.

واصلت أم كلثوم الغناء حتى عام 1970، وتُوفيت عام 1975 جراء إصابتها بالفشل الكلوي. ويُقال إن عدد من شيعوا جنازتها يصل إلى أربعة ملايين مصري. وقد أخذ المشيعون النعش من المسؤولين عن حمله وجابوا به شوارع القاهرة لساعات.

لا تزال أم كلثوم تظهر بانتظام في وسائل الإعلام المصرية، إذ ينجذب المحبطون من حالة البلاد المتردية الآن إلى موسيقى الزمن الجميل الذي تمثله أم كلثوم. وتجسدت أم كلثوم أمام العيون أخيراً بتقنية الهولوغرام في المملكة العربية السعودية، بينما يعرض منتجو موسيقى التراب -التي تعمد إلى دمج الحرية في الألحان مع الكلمات البسيطة – أجزاء من موسيقاها. ويواصل المغنون تقديم الأغاني من تراث أم كلثوم مثل سناء نبيل حفيدتها من جهة شقيقتها البالغة 17 سنة، والتي ستظهر في أحد العروض الموسيقية في مسارح “وست اند”، بعد أدائها المبهر في برنامج “آرابز غوت تالنت”. ترى سناء أن أغاني أم كلثوم لا تزال مناسبة للعصر الحالي، وتقول إنها “ليست للماضي فحسب، فعلى رغم أن الأغاني قد تكون قديمة لكنك تشعر دوماً بأن الموسيقى حديثة. إنها تتجاوز حدود الزمن”.

ينزعج البعض من حضور أم كلثوم الدائم في الإعلام، إذ يرون أن ذلك يضيق الخناق على المواهب الشابة، وثمة من ينزعج بسبب مبالغات أغانيها القومية. كما أن طول أغانيها واستمرارها لساعات لا يناسب الأجيال التي نشأت وهي تستمع إلى أغاني شعبية لا تتجاوز مدتها ثلاث دقائق. تقول الفنانة اللبنانية خنساء التي قدمت نسخة إلكترونية لأغنية أم كلثوم “قصة الأمس”، “يصعب على الكثير فهم اللغة العربية الفصحى ومن ثم لا يستمعون إلى أغانيها بخاصة الأغاني الأقدم والأكثر تعقيداً”.

ثمة محاولات عدة لطرح أسئلة مراوغة حول سيرتها الذاتية. فقد تحدت أم كلثوم الأنماط الجنسانية التي كانت سائدة في منتصف القرن الماضي في مصر من خلال صفقات عملها الصارمة، ومشاركتها الفعالة في الحياة العامة، ورفضها التخلي عن عملها مقابل الحياة الأسرية. تزوجت أم كلثوم مرتين ولم تكن أي زيجة منهما تقليدية، فقد فسخ الزواج الأول خلال أيام، وفي المرة الثانية تزوجت وهي في الخمسين من عمرها رجلاً أصغر سناً ولديه أطفال من زوجته السابقة.

وصف الكاتب والناقد العراقي، موسى الشديدي، من منفاه في الأردن، أم كلثوم قائلاً “نحن لا نتحدث فقط عن النِساءِ القوياتِ أو ذات الطابع الذكوري في تاريخنا فحسب، بل نتحدث عنها بوصفها مطربة”. وحين كتب مقالاً لمجلة “ماي كالي” الأردنية التي تعنى بقضايا مجتمع الميم في محاولة لفهم رفض أم كلثوم التنميط الجنساني التقليدي، ذكر هذه المقولة للمفكر الفلسطيني البارز إدوارد سعيد: “خلال حياتها كان هنالك سجال ما إذا كانت أم كلثوم مثلية الجنس أم لا، لكن يبدو أن قوة أدائها وسحره جعلا الجمهور يتجاهل ذلك”.

تسببت مجرد الإشارة إلى مثلية أم كلثوم المُحتملة في إثارة فضيحة، وأدت إلى حجب الحكومة الأردنية الموقع الإلكتروني لمجلة “ماي كالي”. والواقع أن هذه المزاعم قد تكون صحيحة. تقول فيرجينيا دانيلسون إن أم كلثوم كانت محاطة باستمرار بنساء ولم تُظهر إلا القليل من الاهتمام بالرجال. وأضافت، “من المرجح للغاية أن تكون لها علاقات مع نساء”.

 شعر الشديدي بتوجس من إثارة مثل هذه الادعاءات، قائلاً “لا أرى كيف قد يؤدي الإفصاح عن الميول الجنسية للموتى إلى إصلاح مجتمعنا اليوم. ولكن بوسعنا أن نسأل: إذا كانت مثلية الجنس، فهل سيغير ذلك من الطريقة التي نراها بها؟ وهذا من شأنه أن يساعد الناس في إعادة النظر في الكيفية التي يستجيبون بها لمثل هذه المحظورات”.

تميز صوتها بأنه صوت رنان، من أندر الأصوات النسائية، ويتمتع بقوة مذهلة.

تبين هذه الضجة مدى دفاع الناس بشراسة وضراوة عن أم كلثوم حتى بعد نصف قرن تقريباً من وفاتها. وهذا الفضل لا يرجع إلى حبالها الصوتية فحسب، بل أيضاً إلى حرصها الشديد على خلق شخصية عامة فوق مستوى الشبهات. فقد أخذت أم كلثوم حذرها من الصحافة، وتأكدت من أن مجموعة مختارة من الصحافيين والمصورين يروون قصتها. فقد شكلت صورتها أمام الرأي العام بنفسها، وسعت إلى الموازنة ببراعة بين كونها المرأة القيادية المهيبة، والمسلمة المتدينة، والفتاة الريفية، والمدافعة عن اللغة العربية ورمزاً للأصالة المصرية. ولذا فقد عنت العديد من الأشياء المختلفة لمختلف الأشخاص، وأتقنت هذا الدور ببراعة. كما كتبت دانيلسون، “لقد حاولت بكل جهد وثبات بناء صوت يزعم الملايين أنه صوتهم الخاص المُعبر عنهم”.

في إحدى المقابلات المصورة النادرة التي أجرتها في باريس عام 1967، بدت أم كلثوم على أهبة الاستعداد بشكل ممتاز، وكانت ترمق الصحافية المتوترة بنظرة ثاقبة ثابتة. فضلاً عن أن أجوبتها كانت مقتضبة واتسمت بالحرص، على رغم مظهرها اللطيف. فقد حللت المعنى الخفي وراء كل سؤال واغتنمت الفرص لإبراز صورتها العامة. وعندما سُئلت عن النصب التذكاري الذي تفضل زيارته في باريس دائماً، ذكرت مسلة الأقصر التي تقف شامخة في منتصف ساحة الكونكورد، والتي نُقلت من مصر إلى باريس عام 1833. وعندما سألتها الصحافية، “لماذا؟” أجابت ببساطة، “لأنها ملكنا”، فهي تُطمئن بذلك الجماهير في وطنها أنها، على رغم أنها تغني في فرنسا، فإنها لن تكون أبداً إلا مصرية.

تقول دانيلسون في كتابها: “كانت صورتها الشعبية عبارة عن بناء واضح ومحكم، إلا أنه لم يكن مصطنعاً ولا زائفاً. فقد تعلمت أم كلثوم ببساطة أن تُقدم نفسها بالطريقة التي تريد أن يراها العامة وأن يتذكروها بها. لنفهم أم كلثوم حقاً ليس فقط بوصفها مطربة ولكن بوصفها ظاهرة اجتماعية تستمر في التألق، علينا كما تقول دانيلسون” ألا ندرك الحياة وراء الأسطورة فحسب. بل الأسطورة الكامنة في قلب هذه الحياة”.

هذا المقال مترجم عن theguardian.com ولقراءة الموضوع الأصلي اضغط هنا 

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.