fbpx

مجدي يعقوب في مواجهة نواب السماء

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الشعور الديني المتهيج باستمرار، يكشف أن ثمة حلقات موصولة ببعضها، تستوي بينها المسافات مهما تباعدت الأزمنة والسياقات. ينطبق هذا الحال مع وقائع عدة، لا سيما واقعة مجدي يعقوب، وغيرها من حوادث العنف الطائفي المريرة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“إن الشرائع ألقت بيننا إحنا… وأودعتنا أفانين العداوات”. بهذه العبارة الشعرية خلد الأديب والفيلسوف، أبو العلاء المعري، موقفه من الدين في إحدى قصائده، بقوة وصراحة معهودتين عنه، مازجاً بين السخرية الحادة والنقد اللاذع، ففضح في جانب من العبارة وعيه بالسياق العام الذي تحول فيه الدين إلى سلطة، تمارس الضبط والمراقبة والتحكم، ومؤسسة إكراهية، وأداة ضغط، تعيد بناء الوجود الاجتماعي وتشكيله، بوساطة هذا المقدس المصنوع والمتوهم والمتخم بحراسه.

فهذا “المقدّس” يفرض وصايته القمعية على الآخر والمختلف، بينما يظل الأخير مرتهناً أمامه بين الخضوع والتسليم ومحاولات الترويض، ويمنع عن الطبيعة البشرية عفويتها وتلقائيتها وسعيها إلى الحرية والتجريب.

الطبيب مجدي يعقوب

منذ اندلاع الأزمة المفتعلة مؤخراً من جانب الداعية الإسلامي، عبد الله رشدي، والذي يعمل إماماً وخطيباً في وزارة الأوقاف، كما مثّل الأزهر، رسمياً، أثناء المناظرة الشهيرة مع الإعلامي المصري، إسلام بحيري، لا يبدو أن الواقع اختلف كثيراً في المجتمعات العربية التي تعاني فائضاً شديداً في مقدساتها ورموزها الدينية، وبخاصة، في ظل الأنظمة التوتاليتارية التي تعاقبت على حكمها.

تروج تلك الأنظمة هذا النمط من الإيمان والتدين الذي يعكس وضعها التاريخي المتردي، ليكون الحجة والسلاح الأيديولوجي الوحيد والمتبقي لديها، إذ ينحصر الصراع، أي صراع، في دائرة الجدل الديني والإيماني وتوظيفه الأخلاقوي الزائف، ليظل هاجس من سيظفر بالنعيم والجحيم المتخيل في السماء عبئاً ثقيلاً ومتفشياً، كما تُمحى تحت وطأته حرية الأفراد، وتتعطل مواهبهم، وتتلاشى خصوصيتهم. 

وبينما تُجرى عملية تعبئة العالم الأخروي باشتباكات وأزمات الواقع المنغلق وانسدادته المستمرة، فيترتب عليها إرجاء المشكلات الملحة لحساب تحقيق الزمن المهدوي الذي يشحن الأعصاب بالطاقات السلبية، بينما تضغط آليات العنف والتدمير الذاتي، ويتحول الدين إلى عصاب ووسواس عام، بحسب تعبير فرويد. 

الأزمة مفتعلة ومصنوعة من جانب الداعية الإسلامي المعروف بتصريحاته الدينية المتشددة والتحريضية ضد المسيحيين، والتهجم والتهكم المستمر بحقهم، ناهيك بتكفيرهم المتواصل.

تروج الأنظمة هذا النمط من الإيمان والتدين الذي يعكس وضعها التاريخي المتردي، ليكون الحجة والسلاح الأيديولوجي الوحيد والمتبقي لديها.

وقد غرد عبر “تويتر” باستحالة دخول غير المسلم إلى الجنة من دون التصريح باسم طبيب القلب المصري، الدكتور مجدي يعقوب. فقال: “العمل الدنيوي ما دام ليس صادراً عن الإيمان بالله ورسوله فقيمته دنيوية بحتة، تستحق الشكر والثناء والتبجيل منا نحن البشر في الدنيا فقط، لكن لا وزن له يوم القيامة، ‏ومن السفاهة أن تطلب شهادة بقبول عملك في الآخرة من دين لا تؤمن به أصلاً في الدنيا”. 

فطن متابعو تغريدة رشدي التي حصدت أكثر من 13 ألف متابع، إلى تلك الأفخاخ التي حاول تمريرها، إضافة إلى إشاراته الخفية والمستورة بحق جراح القلب المصري البريطاني، على رغم محاولات نفيه على إثر الهجوم العنيف الذي ناله، إذ تزامن توقيت نشرها مع التكريم الذي حظي به، في دبي. 

تلميحات رشدي المبطنة والملغمة داخل خطابه الوعظي المتشنج، تفضح وعياً بدائياً وغرائزياً للدين، وساذجاً لنصوصه، يحصر فيها البشر بين قيم موغلة في التخلف. كما أنها تكشف عن واقع تسوده عن عمد محاولات دؤوبة بهدف تحويل الدين إلى أيديولوجيا، ومرجعية شمولية تصادر الإنسان لحساب رؤيتها المحدودة وقيمها التقليدية. 

عبدالله رشدي

ومع تحول الدين إلى مؤسسة للقهر الديني والسياسي، وأداة سلطوية، تصادر حق الإنسان في تعبيره الحر عن إيمانه ووجوده، دونما وصاية، يغدو جانب من الأزمة واضحاً، حين تعمى عن استحقاقات التاريخ والحقوق التي ترتبت على شروطه الجديدة، بينما تهتز الأرض تحت أقدام الأصوليين الذين لا يعترفون بطبيعة الدين الذي تجلى قبل ظهور المؤسسات، والقوانين، والمناهج العلمية.

وبالتالي، فإن محاولات التطبيق القسري لنصوصه على عالم مختلف، لم تعد تحكمه قيم الولاء والبراء، ومفاهيم الجماعة والقوامة والطاعة والخلافة، كما أن لا اعتراف الآن بالسبايا، وما ملكت أيمانكم، والجواري، والإماء، وأهل الذمة، ما سيؤدي إلى الإخفاق والفشل والعصبية والقلق. 

بيد أن التشوه القائم في بنية تلك النقاشات والأفكار الرائجة التي تجعل من الدين عنصراً مؤثراً ومهيمناً على بقية العناصر في المجتمع، ومرجعية محددة للأفكار والأشخاص، ترتب عليه، أن تحول الدين من ممارسة إيمانية وتعبدية إلى ظاهرة اجتماعية تمارس العزل والنبذ والضغط. ومن ثم، تبديد طاقة الأفراد في معارك وهمية أمام فرسان الحق الإلهي، وورثة الأوثان المقدسة، ممن يرون في الدين نصوصاً قانونية وأحكاماً نهائية، لا مجرد وسائل بلاغية ترتبط بسياقات تداولية وتواصلية محددة.

وفي ظل المواقع التي يتردد بينها الدين والأدوار المتفاوتة التي يؤديها، إذ تنتقل تبعيته بين أفراد وجماعات، الصراع بينهما، فقط، على من يحوز شرعية الحديث باسم المقدس، ويمتلك حق التفويض الإلهي، فإن الاستخدام البراغماتي للدين يبقى مشروعاً ومتداولاً، بغية صناعة هيئات رقابية صارمة، لقمع المجتمع وأفراده، إذ تفرض أموراً وتنهى عن غيرها، ويظل التكفير والعنف رائجين. 

فالشعور الديني المتهيج باستمرار، يكشف أن ثمة حلقات موصولة ببعضها، تستوي بينها المسافات مهما تباعدت الأزمنة والسياقات. ينطبق هذا الحال مع وقائع عدة، لا سيما واقعة مجدي يعقوب، وغيرها من حوادث العنف الطائفي المريرة.

تلميحات رشدي المبطنة والملغمة داخل خطابه الوعظي المتشنج، تفضح وعياً بدائياً وغرائزياً للدين، وساذجاً لنصوصه.

ولا تختلف المواقف في جوهرها سواء كان باعثها دعاة ورموز تيار الإسلام السياسي أو المؤسسات الدينية الرسمية. إذ إن جميعهم تورط في التشريع للعنف والتكفير.

وفي كل حال، جاء موقف طبيب القلب المصري، في تصريحاته التي أعلنت، في الفترة الأخيرة، كما في السابق، بأنه غير منشغل بمسألة الجنة من عدمها، بينما هو بين الأطفال الذين يعالجهم في الجنة “الحقيقية” المؤمن بها، حسبما ردد، وأوضح بجسارة أنه غير متدين، الأمر الذي يفصح عن موقف هادئ وناعم لجهة المسافة الحيادية التي يتخذها من ذلك الضجيج غير المنطقي والمفهوم الدائر من حوله، ويصنع صيغة عملية للعبور نحو الإصلاح الديني والحداثة العلمية والسياسية معاً.

لا تهم في حسابات العالم المصري الجنة الأخروية، إذا كان ثمة طفل يوخزه قلب ويشعر بالقهر والألم. الإنسان، فقط، هو من له الأولوية في ضميره، ويستحق الجهد والأعباء لجهة تحسين شروط حياته، بدلاً من صناعة الأمراض والقيود ومحاصرته بالهواجس.