fbpx

من أين لهم أن يعلموا؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

من أين لكم أن تعلموا كم أعاني وأتألّم؟ من أين لكم أن تعلموا ممّ أهرب؟”… بهذه الكلمات خاطب المغنّي الكردي أحمد كايا العالم بأسره بإحساسه العالي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بإمكان أغنيات كثيرة أن تتخطّى أذُن المستمع وتصل إلى قلبه بكلماتها وموسيقاها، لكن يندر أن تتخطّى الأغنية قلب من يسمعها حتّى تلامس أعمق نقطة في وجدانه وتعرّي روحه من الأحزان والهواجس الخفيّة، هذا ما تفعله بي أغنية “من أين ستعلمون؟” كلما سمعتها. 

“الغبار يملأ رأسي

الضباب يحاوطني من الأمام والخلف

الصدأ يملأ لحيتي

من أين لكم أن تعلموا كيف احترق؟

من أين لكم أن تعلموا كم أعاني وأتألّم؟

من أين لكم أن تعلموا ممّ أهرب؟”.

بهذه الكلمات خاطب المغنّي الكردي أحمد كايا العالم بأسره بإحساسه العالي. كايا الذي مات قهراً في منفاه الفرنسي كان على يقين تام بأنّ الجمرة لا تحرق إلّا مكانها، وأنّ المترفين الآمنين في عليائهم لن يستطيعوا فهم حقيقة قهر المظلوم وبؤسه مهما حاولوا وسعوا، وأنّ رغبة المستضعفين بإحراق العالم بما فيه ليست صورةً شعرية أو مجازاً، بل إنّها الحقيقة المطلقة… لكن من أين لهم أن يعلموا هذا كله؟

أغمض عينيّ وأنصت، تعبق في أنفي رائحة بيتنا في العين وغسيل أمي المعلّق على شرفته، أشعر بكفّها يمسّد جبيني كما كانت تفعل حين كانت تصيبني الحمّى صغيراً، أسمع سعال أبي المتواصل ليلاً وتنهداته المتكرّرة التي بقيت من دون سبب. أرى وجه جدّتي الحلو على رأسها غطاء رأسها الأبيض تقول لي بلهجتها المحبّبة: “يرضى عليك يا ستّي”، يسير أمام ناظريّ على إيقاع اللحن الآسر شريط الخيبات التي تلقّيتها في حياتي وتلك التي تركتها أنا في حياة الآخرين… كيف بإمكان أغنية أن تأخذك في هذه الرحلة إلى داخلك؟ كلّما تصالحتُ مع راحتي المستجدّة خارج لبنان المطحنة تأتي وتذكّرني بأنّ ذاك الحزن والتعب المزروعين في لبنان باقيان في قلبي ما بقي الليل والنهار… ولكن، من أين لهم أن يعلموا؟

https://www.youtube.com/watch?v=retjqD8ivKQ

يومها لم أفكّر مرتّين. تركت كلّ شيء خلفي ومشيت فجأة. ودّعت سريعاً من تبقّى لي من أحباب هناك، بعت ألف كتاب والكثير من الذكريات العزيزة وانطلقت مع ميرا ومعنا قطّانا (أوتش وبيلّلا) في رحلة البحث عن بديل انتحارنا الجماعي في لبنان المقبرة. تغيّرت الجملة في أغنيتي “ما يئست حتّى سافر ولا هاجر” عام 2013 إلى “ألف غربة ولا ببلدي مرّة موت ياه” في 2019… البقاء في بيروت بالنسبة إلينا لم يكن سوى استنزاف ومكابرة.

14 شهراً خارج لبنان، لم نحتج أكثر من ذلك لتتحسّن صحّتنا النفسيّة والجسديّة بشكل واضح. حتّى على صعيد المهني، ولجت آفاقاً جديدة في الكتابة والإنتاج لم أكن أحلم برُبعها حين كنت لا أزال عتّال صناديق سكاكر في الوطن. تآزرنا وتكاتفت أرواحنا بهدف للإنجاز والتحقيق كوننا نعرف جيّداً قبح البديل عن ذلك. لا يريد أحد العودة إلى وطن نبيه برّي. تزوّجنا بموجب القانون المدنيّ بهدوء بعيداً من قذارة تجار الدّين. تمكنّا من شراء بيت دافئ في قرية بحريّة ساكنة. ها نحن نعيش حياة اكتفاء في الغربة بعد ما مرّ ومضى… ماذا يحتاج المرء أكثر من ذلك كي يكون سعيداً في حياته؟ ألم يكن تحقيق هذا كله هو محض خيال منذ سنتين فقط؟ لكنّ الإجابة تأتي دوماً بصوت أحمد كايا العذب: من أين لهم أن يعلموا؟

صحيح أنني مرتاح هنا، لكنّ أبي السبعينيّ ما زال يستيقظ فجراً للذهاب إلى عمله المرهق مرعوباً من كبرته في بلد يحرمه ضمان شيخوخته، في بلد لم يؤمّن له حتّى مقعداً خشبياً في مكان عام ليستريح إن تعب. لا تزال أمّي تخفي أوجاعها خلف كلمة “أني بخير الحمد لله”، خوفاً من تكاليف الطبابة المهولة في بلد يحرمها الضمان الاجتماعي. لا تزال قلوب إخوتي تعتصر وتفسد رويداً رويداً خوفاً على أرواح أولادهم وحتميّة تعاستهم وهم يكبرون في المسلخ اللبناني. ما زالت صفحات رفاقي على “فايسبوك” تحمل بين كلّ أربعة مناشير ثورية منشوراً كئيباً عن مدى وحدتهم ورغبتهم في الانتحار. يقولون لي “هنيئاً لك يا بو، زمطت! عقبى لنا”.

كايا الذي مات قهراً في منفاه الفرنسي كان على يقين تام بأنّ الجمرة لا تحرق إلّا مكانها.

“زمطنا” نحن، ربما. لم تعد طيور الهمّ معشعشة في رؤوسنا وتقتات من أدمغتنا بلا توقّف، لكنّها لا تزال تحوم حولنا، تحلّق فوق رؤوسنا أينما حللنا في هذا العالم الواسع. لم تكن غايتنا أن نهرب من البؤس والنجاة بأنفسنا فقط، ما زلنا نحلم بيوم نقضي فيه على البؤس من أساسه كي نعيش الحياة التي نستحقّها نحن وأحبتنا من دون فراق. 

نحمل في غربتنا همّ أهلنا وأحبائنا ورفاقنا الصامدين في لبنان وفلسطين وسوريا وكلّ أرض مبتلية بطاغية أو احتلال. نحمل همّ السواد المخيّم على مستقبلنا بسبب حماقة الحكومات ورعونة ميليشياتها. نخاف على أهلنا في بيوتهم من وطاويط الأحزاب الشمولية وشبّيحتها إن كتبنا ما لا يعجبهم. في بالنا صباحات الرعب التي كنا نستيقظ فيها مرعوبين غارقين بعرقنا صيفاً وبدماء اصطكاك أسناننا شتاء. ليالي بيضاً سهرناها بانتظار أن تأتي الكهرباء ولو لساعة، كي نحاول تحميل ملفّ صغير على الانترنت، سنوات مشقّة راكمت أكياساً سوداً لا علاج لها تحت عيوننا. ما زالت في فمنا تلك الرائحة التي تنبعث حين كنّا نحفّ واجهة أسناننا بأطراف أظافرنا بدل غسلهم بالفرشاة حين تقطع دولتنا القذرة مياهها القذرة عن بيوتنا وتفتحها على جماجمنا في الساحات. أكتافنا وظهورنا منهكة من الأوجاع والآلام القاتلة التي رسّبها عملنا المضني في التحميل والعتالة والمستودعات ومواقف السيارات. في نفوسنا ألف تشوّه واضطراب زرعه الوطن الأم فينا، ألف ذنب اقترفناه حين كنّا وحوشاً ننهش ببعضنا بعضاً، من دون رحمة طلباً للأمان في أقفاصنا… لكن من أين لهم أن يعرفواً هذا كله من عليائهم؟ 

سُئلَ جبران باسيل يوماً في إحدى مقابلاته التلفزيونيّة عن تعرفة سيارة الأجرة التي يستعملها الناس في لبنان، أجاب واثقاً أنها تبلغ ألف ليرة! وبالثقة نفسها أجاب سعد الحريري في مقابلة أخرى أن سعر ربطة الخبز التي يأكلها الناس في لبنان يعادل خمسمئة ليرة. ولا ننسى مقابلة ميشال عون الكارثيّة التي أشعلت البلد وأدّت إلى استشهاد علاء أبو فخر، حين صرّح فخامة الرئيس بأنّ عشاء وفده الرئاسي إلى نيويورك كان متقشّفاً ولم يكلف سوى تسعة وعشرين ألف دولار… من أين لهم أن يعلموا؟ هل يأكل هؤلاء الخبز البائت ويتنقلّون بسيارات الأجرة ويقسمون سندويشتهم بين وجبتين؟ هل يتمنّون أن تنشقّ الأرض وتبلعهم حين تطرد المدرسة أولادهم لتخلّفهم عن دفع القسط؟ هل يمشون يوميّاً لساعات في شوارع الموت لتوفير أجرة التاكسي وشراء منقوشة زعتر؟ هل حبسهم يوماً العسكر وسط الطريق كالحشرات لتأمين مرور نظيف لأحد منافخ السلطة من دون تلويث ناظريه برؤية الرعاع؟ من أين لهم أن يعلموا؟

يتسارع إيقاع الأغنية فجأة في نصفها ويتوتّر عزف الغيتار، تقفز إلى رأسي مشاهد ثورة تشرين المجيدة وصوت الناس الملعلع في الساحات وأقدامهم المباركة تدوس صور الزعماء، مكاتب النوّاب المحطّمة، واجهات المصارف المحروقة، مواكب المسؤولين الهاربة، ضحكة أمّي إلى جانبي في ساحة رياض الصلح حين سمعت “الهيلا هيلا هو” أوّل مرّة… تحمل الانتفاضة انشراح العالم كله إلى وجهي، أدور في الغرفة رافعاً صوتي مغنيّاً بقية الأغنية مع أحمد كايا:

“هدمتُ جدران الصخر وجئت

اقتلعتُ قضبان الحديد وجئت

أحرقتُ كلّ حياتي وجئت

حذار… حذار!”.