fbpx

جغرافية متبدلة لملامح أهالي الغوطة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ليس سهلاً أن تُطوى صفحة حصار الغوطة، وحرب الإبادة التي تبعتها في الفترة الأخيرة. انتهى الحصار الجغرافي، وعاد الحصار الذي كان كسْرهُ من أحد الأسباب الكثيرة لقيام الثورة السورية؛ وهو حصار قول الحقيقة. يتهافت الإعلام السوري لنظام الأسد، ليسمع قصص الناس الذين لم يهجّروا قسرياً بعد، قلة تخرج– غصباً- لتقول كلاماً يرضي الدكتاتور “المنتصر” على شعبه…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ليس سهلاً أن تُطوى صفحة حصار الغوطة، وحرب الإبادة التي تبعتها في الفترة الأخيرة. انتهى الحصار الجغرافي، وعاد الحصار الذي كان كسره من أحد الأسباب الكثيرة لقيام الثورة السورية؛ وهو حصار قول الحقيقة. يتهافت الإعلام السوري لنظام الأسد، ليسمع قصص الناس الذين لم يهجّروا قسرياً بعد، قلة تخرج– غصباً- لتقول كلاماً يرضي الدكتاتور “المنتصر” على شعبه.

لكن ماذا عن الكثيرين ممن أغفلتهم لقطة فوتوغرافية، أو من نجحوا بإخفاء ملامحهم التي لا بدّ أن تكشف عن حجم الكوارث التي أصابتهم؟ ماذا عن الذين جعل منهم الجوع والمرض وتكاثر الفواجع أشباحاً، يخافون النظر في المرآة، كي تبقى ملامحهم الجميلة قبل تراكم الآلام، محفوظةً في ذاكرتهم؟

في النهاية، كان لا بدّ أن تأتي اللحظة الاضطرارية لالتقاط صور وإرسالها إلى خارج “حدود” الغوطة، للأصدقاء والأقارب، فخارج الغوطة أيضاً هناك من ينتظر أي خبر عن مصير الكثيرين داخل الغوطة، وعن أحوالهم، ويشتاق إلى رؤيتهم من جديد.

وهكذا وصلتني صور بعض الأصدقاء والأقارب، ممن لم أراهم منذ ما يقارب ست سنوات.

تراكمت ملامح الموت فوق البشرة، عيون جاحظة؛ العروق الرفيعة النابذة بداخلها تشعر بأنها لا تهدأ من كثرة الارتجاف. هناك خريطة معقدة أكثر من خريطة سوريا الجغرافية؛ تراها في جلد الوجه اليابس، وشعر الرأس ابيضَّ قبل أوانه بكثير. الظهور المنحنية، الأقدام التي اسودّت، وتخشبت، وتشقق جلدها حتى تكاد لا تفرق بينها وبين جزع شجرة عمره آلاف السنين.

الفتاة الجميلة ذات العينين الخضراوين، والمصابة بمرض الصرع، شاخت قبل أن تتعافى، وقبل أن تعرف ما هو الحب، الكائن الذي يسمى “رجل” ليس ذاك المخلوق الذي من الممكن أن تفكر بالاقتراب منه، إنه مجرد وحش، تستثني من نوعه، أخوتها وأولاد عمها، وبعض الأقارب من الذكور الأليفين.

ومن رحلة الجوع التي استمرت خمس سنوات أثناء حصار الغوطة الشرقية، والتي تخللها وتبعها امتحان النجاة واللّانجاة من صورايخ وبراميل متفجرة ورائحة الكلور، والفوسفور، والنابالم الحارق، وبقيه الأنواع الكيماوية التي قَصف بها نظام بشار الأسد وحلفاؤه المنطقة. من كانوا أطفالاً ونجوا من كل هذا، كبروا وأصبحوا مراهقين، ملامحهم لا تنذر بالخير؛ أجساد نحيلة، وجوه شاحبة، ابتساماتهم كاشفة للقهر، عيون مكسورة، حادّة ولامعة كقطع زجاج مكسور، بمجرد لمسها قد تجرحك.

هذه تفاصيل صغيرة جداً، لما رأيناه في صور أصدقاء وأقارب، كنا لا نعرف مصيرهم في الغوطة الشرقية، صدمتنا ملامحهم، التي غابت عنا كل تلك السنين، وبسبب عدم امتلاك بعضهم هواتف ذكية، لم يكن باستطاعة حتى أقاربهم الموجودين في مدينة دمشق رؤيتهم أو الحصول على صور فوتوغرافية لهم. وحين أتت فرصة دخول أحد– وبصعوبة- من خارج الغوطة للاطمئنان عليهم، التُقِطَت صور للذكرى، وأُرسلت إلى أهلهم وأقاربهم، تلك الصور، التي فيها ذاك الفرح الموقت القاسي وكأنهم يقولون: ها نحن على قيد الحياة، ولكن…

هناك حيرة تصيب الأعصاب بالتلف، من مصير ما زال مجهولاً، والذاكرة مقبرة جماعية لصور من رحلوا. والمسافة القصيرة التي تفصل أفراد عائلة واحدة عن بعضهم بعضاً، ما بين داخل الغوطة الشرقية وخارجها.

عندما تحدثت مع سيدة تبلغ من العمر ثمانين عاماً تعيش في مدينة دمشق، وأبناء لها يعيشون في الغوطة الشرقية، علمت أنها اطمأنت عليهم، لكنها فقدت اثنين من أحفادها الشباب، لم أتجرأ عن سؤالها عما تشعر به الآن؟ لكنني فقط سمحت لنفسي أن أتأمل عينيها، وأنصت إلى كلماتها القليلة.

رأيت صور أبنائها الذين كنت أعرفهم من قبل، رأيت ما آلت إليه حالهم، وما آلت إليه ملامحهم الآن، وكانت ذاكرتي تزودني بصورهم قبل أن يستوطن الجوع أمعاءهم، وقبل أن يستوطن الهلع والفواجع وجوههم.

تدمع عينا السيدة فيما تحاول أن تبتسم، وصوتها يختنق، تقول لي: «الحمد لله إنو هنن بخير يا ابني. الحمد لله على كل شي».

كلماتها البسيطة خرجت من صمت قاتل، وكان الخيال لا يستدعي سوى مشهد لبلدٍ يُنكل بأهله مع كل رمشة عين، ينامون ونبضات قلوبهم مضطربة من كثرة الفقدان، وينهضون على مصائب محتملة، يشمون رائحتها من قريب ومن بعيد، ولا جلسات سهر بين غياب الشمس وعتمة الليل، إلا لاستكمال عزاءٍ يومي مفتوح لأجل غير مسمى.