fbpx

“كورونا” وعلاقتي الشائكة مع الصين… جاين لي وعلي بابا و”البيغ داتا” 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أعرف أن جاين لي وإصرارها على العمل جعلاني أمارس تمييزاً إيجابياً لا طوعياً كلما التقيت بصيني أو صينية. لا يمكنني إلا أن أتخيّلهم يهمّون في القفز إلى الأمام. وعندما انتشر فايروس “كورونا”، لم أستطع منع نفسي من انتظار قفزتهم الأمامية المقبلة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

مشهد الرئيس الصيني شي جين بينغ وهو يجول في مدينة ووهان، ويعلن أنه “تمت السيطرة عملياً” على تفشي فايروس “كورونا” في عموم مقاطعة هوبي التي عاصمتها ووهان، هو مشهد كان كفيلاً بأن يبعث في نفسي شيئاً من الطمأنينة، انا المصنفة من جماعة “المهلوعين” من الفايروس المستجد. المشهد، كان بطبيعة الحال جزءاً من حملة دعائية بطبيعة الحال، لزعيم يتمشى في شوارع المدينة مركز انطلاقة الوباء، وهو يلبس كمامة بيضاء بسيطة ويلوّح بيده، وقد ظهرت عيناه المبتسمتان وبدت على وجهه علامات الرضا. بث ذلك شعوراً بالطمأنينة ما لبث أن اصطدم بمفارقتين. أولهما أن الصين تسيطر على حركة الفايروس فيما يتفشى فيها وبشكل متزايد على الصعيد العالمي، وبشكل خطر للغاية بالنسبة إلى بلدنا. والمفارقة الثانية هو الشعور الحاد بالتفاوت الكبير في الأوزان بين بلدي والصين، وبيني وبين الصين. فكيف تكون المقايسة أصلاً بين صين ماو وهواوي والبيغ داتا والمستشفيات التي تبنى في عشرة أيام وسعتها عشرة آلاف مريض، وبيني كمواطنة في بلد ما زال ينتظر الكهرباء والأوتوستراد العربي وغيرهما من المشاريع الواهية.

لم أزر الصين بعد ولست خبيرة فيها، مع أنه يمكن القول إنني “معجبة”، وإن، عن بعد. ذلك أنني أحاول قدر الإمكان متابعة إنجازات هذا البلد الذي يحلو لي أن أسميه القارة الصينية. أتابعه منذ قررت التخصص في الاقتصاد منذ عقدين من الزمن الماضي “الجميل”، إذا ما قورن بـ”زربتنا الكورونية” اليوم. 

اهتمامي حرّكه في البدء مشهدان بسيطان. الأول يختصر بحركة واحدة، حركة المكنات الصناعية التي تعمل بانتظام كفرقة موسيقية أطرب لها. والثاني مشهد حقول الأرز في فيلم صيني قديم كنت شاهدته في أحد مهرجانات الأفلام الدولية ونسيت اسمه طبعاً. والمشهدان يحاكيان عادة اكتسبتها منذ الصغر، وهي أن أدقق في عبارة “made in” كلما وقعت يدي على أي شيء جديد. 

في صغري، كنت أحاول أن أفكك خطوط الإنتاج التي أوصلت هذه القطعة إلى يدي، أن أتخيل المصنع والعمّال وحركتهم الروتينية لإنتاج سلعة ما، ذلك أنني “أعشق” الحركات الروتينية التي لها وقع الهدهدة علي. وفي صغري أيضاً، كنت أستغرب انزعاجي من عبارة “شغل الصين” واقترانه بتقييم سلبي من قبل المحيطين بي والبائعين، والأخيرين كانوا يجهدون لأن يقنعوا المشتري بأن بضاعتهم ليست من “شغل الصين”.

جاين لي وجون: 2006-2007

لكن احتكاكي الحقيقي مع الصين حصل عام 2006. حصلت على منحة من المجلس الثقافي البريطاني لأكمل تحصيلي العلمي في التنمية الاقتصادية. وصلت إلى لندن وكان علي أن أجد غرفة ضمن ميزانيتي في منزل مشترك خلال أسبوع واحد فقط. وكعادتي المتهورة، قررت السكن في أول شقة زرتها، وكانت تستأجرها صينية شابة وزوجها وتؤجر فيها ثلاث غرف للطلاب. السكن مع جاين لي وزوجها جون، وقد اختارا هذين الاسمين سعياً للتشبه بالبريطانيين، سمح لي بأن أتذوق حضارة غريبة عني (ومدركة تعميمي طبعاً). كانت جاين حصلت على منحة لدراسة الفيزياء، وبالفعل، أتمت دراستها ولكنها قررت أن تحصل على شهادة ثانية في إدارة الأعمال. وبالتوازي مع دراستها، كانت تنظف الجامعة لقاء أجر بسيط وتعمل نادلة في عطلة نهاية الأسبوع وبائعة ثياب بعد الظهر. كانت تحرص على أن تطبخ يومياً، أحياناً مأكولات معقّدة كرأس خروف وتصنع لفائف السوشي (الماكيز) وحلوى بالفاصوليا الحمراء. كانت جاين لي تمثل النقيض من زوجها. لم يكن زوجها يعمل وكانت جاين لي مصممة على مساعدته على اجتياز امتحان اللغة الإنكليزية ليستطيع إتمام تحصيله الجامعي في لندن. تجبره على مشاهدة المسلسلات البريطانية وتطلب منه أن يعيد الجمل وراء الشخصيات وتطلب منه أن يدرس في غيابها. وكان جون ينتظر خروجها من المنزل ليبدأ نهاره الطويل في الألعاب الإلكترونية، كما دللت الأصوات التي كانت تصدر من غرفته وبخاصة تلك التي تظهر أنه يخوض سباق سيارات. 

جاين لي وجون لم يتوقفا يوماً عن الشجار، إلى أن أفضت لي جاين لي أنها ضاقت ذرعاً به، وأخبرتني أن “سياسة الولد الواحد” جعلت من الذكور أشخاصاً مدللين عديمي المسؤولية وأنها لا تريد أن تعود إلى الصين. وأخبرتني عن حلمها بأن تدخل عالم الموضة. وفي يوم من الأيام، أدخلتني غرفتها لكي أشاهد الفيديوات التي أنتجها صينيون لمساعدة شعبهم على تحسين ذوقهم العام في الملبس وبخاصة كيفية تنسيق الألوان وفق العين “الغربية- الأوروبية”. هنا أخبرتني جاين لي أنها عندما جاءت إلى لندن، لم تكن تعرف أن اللون الأحمر لا يليق على الأصفر وأنها مع الوقت اكتسبت ذوقاً غربياً. في يوم من الأيام، زار جاين لي والدها من بكين حيث يعمل مدير تحرير لإحدى الصحف. كان رجلاً مسلياً، وعندما عرف أنني أتخصص في التنمية الاقتصادية، راح يخبرني عن ولعه بماو تسي تونغ وعن ضرورة أن أتعرف عن كثب على مشروع القفزة الكبرى إلى الأمام وبرنامجه الصناعي، وكانت جاين لي تتولى مهمة الترجمة بحماسة شديدة. 

في أقل الايمان، للحرب على الكورونا أن تكون مدخلاً لاهتمام أكبر، بالنسبة إلي شخصيا كما بالنسبة إلينا جميعاً – أكاد أجزم – بالتجربة الصينية، بكل ما يمكن أن يجذبنا إليها وبكل ما يمكن أن يصدّها عنا. 

لا أعرف لماذا أسترجع هذه المشاهد الآن، لكنني أعرف أن جاين لي وإصرارها على العمل جعلاني أمارس تمييزاً إيجابياً لا طوعياً كلما التقيت بصيني أو صينية. لا يمكنني إلا أن أتخيّلهم يهمّون في القفز إلى الأمام. وعندما انتشر فايروس “كورونا”، لم أستطع منع نفسي من انتظار قفزتهم الأمامية المقبلة. وهو انتظار شخصي وولع غير موضوعي، أعي فيه أنه في انتظاري المتأمل لقفزات الصين المتلاحقة. أركن ملفّ حقوق الإنسان على جنب، وقد أركن أيضاً في الوقت الحالي أفكار فيلسوف الاقتصاد- السياسي المحبب إلى قلبي، جون ستيوارت ميل والتي تحث على مفهوم السعادة ونوعية الحياة في إطار “الدولة الجامدة” أي تلك التي توقف نموها الاقتصادي وانتفاخ الثورة فيها. فهل يحق للصين ما لا يحق لغيرها وفق سلة القيم التي أدافع عنها؟

علي بابا- إكسبرس وكورونا والبيغ داتا

لست الآن بصدد حلّ هذه المعضلة، وهي إلى حد كبير معضلة يتوقف على الصينيين حلها. كما لا يمكن التكهن بالتداعيات السياسية والثقافية كما تلك الاقتصادية والبيئية إذا ما تمكنت الصين من اجتثاث فايروس “كورونا” المستجد فيما هو آخذ في التفشي أكثر فأكثر عبر العالم. لم أعد أعرف أين جاين لي وزوجها اليوم، وكيف يتفاعلان مع النمطين المختلفين، الصيني والبريطاني، في حرب الكورونا. 

وأنا أستغرق في هذه الذكريات والاستفهامات، يقفل البلد هنا على نفسه أكثر فأكثر بقصد اعتراض حركة فايروس “كورونا”، من دون أن يكون واضحاً عند صانعي سياسته العامة في مواجهة هذه الجائحة اليوم أي استراتيجية يعتمدوها، وما الذي بمستطاعهم استقاءه بالتحديد من التجربة الصينية في محاصرة الفايروس، على الاختلاف الكبير والعميق بين ما للدولة في كل من البلدين، وبخاصة مكانة “البيغ داتا” في السياسات الصحية وغير الصحية في حالتيهما. 

في هذا الوقت، تكاد لا تتوقف سلسلة نكات “علي إكسبرس” في لبنان. وعلي إكسبرس موقع للتجارة الإلكترونية عبر الإنترنت تابع لمجموعة علي بابا “الصينية المتخصصة في بيع المنتجات بأسعار الجملة للتجار والأفراد في جميع أنحاء العالم. 

نكات تصبّ بمجملها في فكرة واحدة مكررة “بضاعة علي إكسبرس مستنسخة وذات جودة متدنية”. نكات للأسف تتوافق وبعض التغطية في الصحف الأميركية والأوروبية الرئيسية (والأخيرة تتغير) حول تقدم الصين الصناعي وقدرة الصين الشعبية على الابتكار، وأحدثها حرب ترامب على هواوي والاستخفاف بدور الابتكار لتعزيز القدرة التنافسية للشركة في مقابل دفاع أوروبي جديد عن تميّز الشركة وعن المسار الصيني. 

في كتابه “كيف رفست القوى الصناعية الغربية السلّم” (أي سلم التقدم الاقتصادي) (Kicking Away the Ladder)، يتحدث ها جون شانغ (2003) عن المسار التنموي للبلدان الأوروبية التي راحت تحيك إطارات عالمية للتنمية على قواعد لعبة جديدة تنبثق عن ما يسمى النظام الليبرالي والاقتصاد الحر، وهي قواعد لم تتبعها الدول في تقدمها الاقتصادي وبخاصة الصناعي وعلاقتها بقوانين التجارة الحرة. والمسلّي أن “منظمة التجارة العالمية” أصبحت متصدعة وقد توقفت هيئتها التحكيمية العليا عن العمل أواخر عام 2019. وربما تكون هذه المقاربة هي ما يدفعني لكي “أمرّر” للصين استثناءها، أو على الأقل، أن أبدي إعجابي بقدراتها الإنتاجية والتنافسية، على رغم ملفات حقوق الإنسان والحريات وحقوق العمال، التي لا أعرف عنها الكثير في الحالة الصينية – باستثناء بعض الأفكار العامة. 

من هنا ينبع أيضاً إعجابي باستخدام الصين لما يعرف بالبيانات الضخمة (البيغ داتا) في معركتها لمواجهة فايروس “كورونا” واحتوائه، إذ أظهرت الصين قدرة رصدية- تنظيمية عالية، من خلال نظام يرصد حركة المصابين وحرارتهم واحتكاكهم مع دائرة اجتماعية معينة. وقد استثمر أيضاً علي بابا في Alipay Health Code وهو تطبيق يعطي رمزاً أو لوناً للمواطنين يخوّلهم أن يتحرّكوا خارج بيتهم أو يطلب منهم الالتزام بالعزل. طبعاً لا أستطيع أن أغفل أن البيانات الضخمة وتطويع حركتها استخدمته الحكومة الصينية في تصديها لاحتجاجات هونغ كونغ في العام الماضي… ولكن، حالياً، يحق للصين ما لا يحق لغيرها، على رغم أنني أتمنى أن تكون قفزتها الأمامية في الأعوام المقبلة إلى الوراء، مطورة نموذج اقتصاد الحالة المستقرة، للموازنة بين تطور القوى المنتجة وبين إتاحة أسباب السعادة للعدد الاكبر من الناس. 

أن تطلب مواجهة كورونا من علي إكسبرس: هذا لم يعد نكتة إضافية على هذا المنوال. بات جزءاً من العودة إلى الجد في مواجهة كورونا: كيفية الاستفادة من التجربة الصينية في تسخير البيغ داتا، وفي ربط هذه الاستفادة مع حركة الهواتف الذكية. وفي أقل الايمان، للحرب على الكورونا أن تكون مدخلاً لاهتمام أكبر، بالنسبة إلي شخصيا كما بالنسبة إلينا جميعاً – أكاد أجزم – بالتجربة الصينية، بكل ما يمكن أن يجذبنا إليها وبكل ما يمكن أن يصدّها عنا.