تتزايد يوماً بعد يوم حملات السخرية من نساء في عالمنا وهي حملات تصل في أحيانٍ كثيرة إلى عتبة التنمّر بل والاعتداء اللفظي والمعنوي والجسدي أحياناً.
في تونس، انتشرت في الفترة الأخيرة حملات بحق نساء يعملن في الشأن العام من صحافيات وناشطات وحتى نائبات في مجلس نواب الشعب.

فدوى شطورو وهي صحافية في قسم الأخبار في القناة الوطنية الأولى (لتلفزيون الرسمي) كانت إحدى ضحايا تلك الحملات، إذ تعرضت لحملة سخرية وتنمّر واسعة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي يوم تغطيتها التفجير الذي حصل قرب مقر السفارة الأميركية في العاصمة التونسية. لماذا؟ لأنّ المراسلة النشيطة أطلّت على الناس بلا ماكياج ولا شعر مصفف، ركضت لتغطية الحدث ولم تفكّر بأناقتها وشكلها، إلا أنّ هناك من اعتبر أن من حقّه محاكمة فدوى لأنّها ظهرت على طبيعتها وبلا “روتوش”. وانهالت التعليقات المؤذية والمهينة، حتى أن حدث التفجير أصبح ثانوياً مقارنة باهتمام الناس بإطلالة فدوى شطورو في ذاك اليوم.
تؤكد رئيسة تحرير قسم الأخبار دليلة فرادي، لـ”درج”، أنه لم يكن على فدوى يومها القيام بأي مهمّة خارجية أو تغطية أي حدث، ولا حتى العمل في قسم تحرير الأخبار، لأنها كانت معفاة من أداء أي واجب مهني وتحضر ورشة عمل داخلية في مقر التلفزيون.
تضيف فرادي: “لكنني قاطعت الورشة وطلبتُ منها بسرعة البرق أن تذهب إلى مكان التفجير قرب السفارة الأميركية، ولم تتردد للحظة واحدة ولم تناقشني حتى، وحملت نفسها وأدّت واجبها بكل شجاعة”.
وتعتبرُ فرادي أنه من غير المعقول أن تقابلَ شجاعة فدوى بهذا الوابل من السخرية والشتائم وتحميلها أكثر من طاقتها النفسية. وتضيف” لولا عشرات المنشورات المساندة لها والمتضامنة معها على فايسبوك، والتفافنا حولها في قسم الأخبار لانهارت نفسيتها حقاً. بكل صدق فدوى شجاعة لكنها اهتزت وتأثرت وشعرت بعدم جدوى ما تقدمه للجمهور… لكن في لحظة لحمة بين العاملين في القطاع الصحافي وأصدقائها، استعادت بصعوبة تماسكها وثباتها”.
تكاد الحملات ضد العاملات في الشأن العام لا تتوقف، فوسط أي حدث أو مشاركة لامرأة ما، هناك من يعمد إلى استهدافها في أنوثتها والاستهزاء بها، عبر حملات باتت ممنهجة، ويتخطّى الأمر غالباً حدود المزاح المقبول، ما يشكّل خطراً حقيقياً على سلامة هؤلاء النساء وأمنهن، نظراً إلى خطاب الكراهية والعنف المصوّب ضدهن.
وهنا تجدر الإشارة إلى القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017، والمؤرخ في 11 آب/ أغسطس من عام 2017 والمتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة. القانون يهدف إلى وضع تدابير كفيلة بالقضاء على أشكال العنف ضد المرأة، وتحديداً العنف القائم على أساس التمييز بين الجنسين، وذلك من أجل تحقيق المساواة واحترام الكرامة الإنسانية، عبر إتباع مقاربة شاملة تقوم على التصدي لمختلف أشكال العنف بالوقاية وتتبع مرتكبيه ومعاقبتهم وحماية الضحايا. إقرار هذا القانون اعتبرته الحركة النسوية التونسية وحتى نائبات الأحزاب القائمة على الأيديولوجية الدينية مكسباً وطنياً يحمي المرأة بغض النظر عن لونها وانتمائها وشكلها.
ويعرف هذا القانون العنف بأنه كل اعتداء مادي أو معنوي أو جنسي أو اقتصادي ضد المرأة، أساسه التمييز بسبب الجنس والذي يتسبب في إيذاء أو ألم أو ضرر جسدي أو نفسي أو جنسي أو اقتصادي للمرأة ويشمل أيضاً التهديد بهذا الاعتداء أو الضغط أو الحرمان من الحقوق والحريات، سواء في الحياة العامة أو الخاصة. وهنا اعتراف مباشر بأشكال العنف المعنوي التي تسلط على النساء من خطابات كراهية وتحريض.

النائبة عن “حركة النهضة” يامينة الزغلامي توضح لـ”درج” أن ما طاولها هي الأخرى من “حملة تنمر شنيعة وكارثية، يأتي في إطار العنف ضد المرأة في شقه السياسي والمعنوي والجنسي”.
فالزغلامي لم تنجُ من خطابات السخرية و”التشويه” كما قالت، بسبب لباسها “المحتشم” و”غير اللائق” وفق بعض المعلقين. فالمعطف الجلدي الأسود الطويل حتى القدمين، الذي ارتدته الزغلامي خلال اجتماع ضم رئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي ومجموعة من النائبات من كتل مختلفة، كان كفيلاً بإشعال حرب سخرية وتعنيف لفظي ضدها. وعمدَ الساخرون إلى وضع صورتها إلى جانب صورة المحللة السياسية مايا القصوري المعروفة بأفكارها التحررية ودفاعها الشرس عن الحريات والحقوق الكونية. مايا كانت ترتدي فستاناً أزرق، اعتبره منتقدوها “مثيراً” ولا يتناسب مع سنها. وذلك اثناء عرض أزياء نظمه المعهد الفرنسي في تونس لسيدات يعملن في الشأن العام وتجاوزن سن الخمسين.
تقول الزغلامي: “أنا ضد مقارنتي بالعزيزة مايا، هي حرة، وأنا حرة أيضاً، وعليهم جميعاً احترام الحريات الشخصية، فلا يحق لأي شخص انتقادنا وإبداء ملاحظات على شكلنا وهيئتنا، أنا أعتبر أن المرأة التي تعمل في الشأن العام يجب تقييمها بفكرها السياسي وإنجازاتها لبنات جنسها، والخدمات التي تقدمها للمجتمع ككل وليس بالنظر لجسمها وهندامها”.
ويعرف القانون الخاص بتجريم العنف ضد النساء العنف السياسي بأنه “كل ممارسة أو فعل، يهدف مرتكبه إلى حرمان المرأة أو إعاقتها عن ممارسة أيّ نشاط سياسي أو حزبي أو جمعياتي أو أي حق أو حرية من الحقوق والحريات الأساسية ويكون قائماً على أساس التمييز بين الجنسين”. كما يتعرض القانون إلى العنف المعنوي بتعريفه بأنه كل اعتداء لفظي كالقذف والشتم.

وتوضح الزغلامي أنها استاءت من السخرية بدرجة أولى ومن المقارنة بدرجة ثانية مع مايا القصوري “حتى جمالياً وذوقياً لا تمكن مقارنتي معها، هي ارتدت فستاناً في حفلة خاصة وأنا ارتديت معطفاً خلال جلسة في مجلس نواب الشعب، لذلك المقارنة لا تجوز بالأساس ومجحفة في حقنا نحن الاثنتين”.
وبالعودة إلى ما تعرضت له الصحافية فدوى شطورو من تنمر وسخرية وتشبيهها بشخصية مسلسل تونسي “نعيمة الغولة”، علقت الزغلامي بأن فدوى ظهرت بالشكل الذي عليها أن تظهر فيه، وتحمّلت المسؤولية. تضيف “يومها تونس بأكملها كانت في حالة حداد بعد وفاة شهيد الأمن الوطني، هل كان عليها أن تبدو متبرجة وتلبس أحسن الثياب حتى ترضي المواطن؟ ألا يكفيها ما شعرت به من حزن بعد العملية الإرهابية كأي مواطن غيور على بلده، نؤرقها بالسخرية منها ومن شكلها؟!”.
الزغلامي أثنت على حملات المناصرة معها ومع اللواتي تعرضن للتنمر، وأكدت أن حتى الناشطات والسياسيات اللواتي يعارضنها سياسياً وفكرياً عبرن عن مساندتهن ومناصرتهن.
حملات المناصرة اعتبرتها الناشطة النسوية، شيماء عيسى “أمراً مضراً للغاية وغير سليم”. وترى أنها ساهمت بشكل كبير في تعزيز موجة التشويه والتنمر، مضيفة، “لو كُتبت مقالات جدية تذكر بحقوق النساء والقانون وضرورة اتباع سلوكيات معينة في الفضاء الافتراضي لكانت آثارها ستكون مجدية أكثر من “منشورات بدائية” على فايسيوك”.
عيسى مهتمة بالشأن النسوي ومناهضة خطابات الكراهية، وأصدرت منذ أسابيع كتاباً جديداً بعنوان: “الجندر والنسوية والدين: في إشكاليات خطاب قضايا النساء”. تقول لـ”درج”: “هناك خطاب عنيف ساهمت فيه بشكل أو بآخر بعض اللواتي يعملن في الحقل الإعلامي، كصورة الصحافية وناقلة الخبر التي يجب أن تكون في قمة الجمال والأناقة وفق معايير معينة لدى المجتمع، والتي ساهمت إعلاميات كثيرات للأسف في ترسيخها عندما يظهرن على الشاشات ويحيين خبراء تجميلهن من أظافر وشعر وتصميم الأزياء، ما زاد من إعلاء موجات التنمر ضد صحافيات الميدان أو اللواتي يظهرن في أوقات عملهن بصورة مختلفة.
لذلك فإن ذهن المتابعين والمواطنين عموماً، تبرمج على صورة الصحافية أو المذيعة الجميلة، وفق المعايير النمطية”.
وترى عيسى أن ظاهرة التنمر ضد النساء ساهم فيها بشكل كبير أيضاً الإعلام نفسه عموماً، برجاله ونسائه، عبر ترويج صورة دونية عن النساء بترسيخ الوصم الاجتماعي. علاوة على بعض الأعمال الثقافية من مسرح وسينما حيث يتم تمرير صور سلبية عن المرأة ككائن قابل للتطويع والسيطرة عليه. ولطالما اعتبرت المرآة في هذه الأعمال موضوعاً للضحك والسخرية.
الصحافية فدوى شطورو والمحللة السياسية مايا القصوري والنائبة عن “حركة النهضة” يامينة الزغلامي، ثلاثة نماذج لما قد يفعله مجتمع مولع بتنميط النساء وتحطيمهنّ وعرقلة طموحاتهنّ. ولا شك في أن هناك نماذج أخرى كثيرة.
ترجع عيسى تنامي هذه السلوكيات المنبوذة إلى ضعف المناهج التعليمية في تونس والصور السلبية من جلسات مجلس نواب الشعب من سب وشتم وقذف بين النواب على المباشر.
وهنا نسأل حقاً عن جدوى قانون القضاء على العنف ضد المرأة وتفعيل بنوده وهو منشور منذ عام 2017!
