fbpx

“طبائع السلطوية الجديدة”: السياسة في برّ مصر 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

السلطوية في خوف لأنها تعي في قرارة نفسها أن الظلم لا يولد نتائج إيجابية وأن القمع تظل فعاليته محدودة، وخصوصاً على المدى الطويل.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

جاءت الطبعة الأولى من كتاب استاذ العلوم السياسية المصري عمرو حمزاوي “طبائع السلطوية الجديدة” (أيلول/ سبتمبر العام الماضي) في وقت حساس بالنسبة إلى الحكومة المصرية الحالية. ففي أيلول، عبّر مئات المتظاهرين عن سخطهم حيال السلطة الحالية وآلياتها التي مزجت بين الفساد الإداري والمالي والقمع بمختلف أشكاله. ولكن سرعان ما انطفأت تلك الشرارة التي أشعلها المتعهد محمد علي عبر فيديوات نشرها، وكشف فيها مدى تورط النظام الحاكم في تثبيت دعائم المؤسسة العسكرية ومنحها سلطات حصرية تشمل المجال الاقتصادي والإداري والسياسي. 

عمرو حمزاوي

ويبدو أن سيف حمزاوي سبق عدل المتظاهرين. فها هو يخاطب النظام “من موقع الخصومة”، ويوجه انتقاده لسياسات الحكم الحالي والتي أضفت طابعاً سلطوياً جديداً على المرحلة التي تلت انقلاب 2013. المساومة هي سياسة هذا النظام: الأمن والاستقرار والنمو الاقتصادي مقابل الديموقراطية وحرية التعبير. أما أدوات النظام السلطوي فهي تتنوع باختلاف نوع القمع الذي تمارسه، بين مباشر وغير مباشر. ويرى حمزاوي أن أدوات السلطوية ومساعيها العامة هي ذاتها على النطاق المحلي أو الاقليمي أو حتى العالمي. فالفوارق بين الأنظمة السلطوية تكمن في توليفة الأدوات المتاحة لكل نظام، ولكن الأسس والأهداف واحدة: تثبيت النظام السلطوي وترسيخه. وهنا يطرح الكاتب بعداً مهماً، يكمن في كيفية مقاربة السلطوية في النطاق العربي وتجريد سياسات الشرق الأوسط من نظرية الاستثنائية العربية. 

اما بالنسبة إلى مصر، فهناك طيف من السلوك السلطوي والاستبدادي الذي يمارسه نظام الحكم. هناك انتهاك حريات، وتطويع لأدوات التشريع، وتخويف، وتشويه للوعي الجماعي، واستخدام مفرط للقوى، واستحداث للقوانين الجديدة التي تتواءم مع مصالح الأجهزة العسكرية والأمنية. حقاً، إن الكتاب غني بالأمثلة والأحداث التي تبيّن فداحة الوضع. وتعمل الماكينة الإعلامية ومن يطلق عليهم حمزاوي لقب “فاوستيي” السلطة بمحاذاة الأدوات الأخرى غير الملموسة. ونتيجة هذه السلوكيات السلطوية هي إغلاق الفضاء العام وتسفيه السياسة لمصلحة الاجهزة العسكرية، الأمنية، والاستخباراتية التي أصبحت تختزل وتلخص مفهوم “الدولة بكامل مؤسساتها”. من خلال نقاشه، يطرح حمزاوي بعداً إضافياً لشخصية الحاكم أو الرئيس السلطوي الذي يتمثل في النظام السلطوي الأعمق الذي يولد من خلاله هذا الحاكم والذي يوفر له الصلاحيات والأدوات التي تخوله من البقاء غير المشروط أو المتنازع عليه، فيولّد أحدهما للآخر من خلال علاقة طردية متجانسة.

بث الإعلام المصري مراسيم جنازة الرئيس السابق حسني مبارك بحضور الرئيس عبد الفتاح السيسي. النظام السلطوي الجديد يودع النظام القديم.

ومع أن حمزاوي حدد موضوع  كتابه عن السلطوية الحديثة في مصر وجعل أبعاد حديثه مقتصرة على سلطوية ما بعد 2013، إلا أن تحليل السلطوية الراهنة، يذهب إلى الحديث عن الأسس التي جعلت من سطوة هذا النوع من الحكم ممكنة في أعقاب ثورة دعا فيها الملايين إلى الانتقال إلى نظام ديموقراطي يكفل للمواطن الحقوق والحريات. فمثلاً، يرى الكاتب أن حكم الفرد في مصر ظهر منذ خمسينات القرن العشرين ثم أعيد التأسيس له في العقد الثاني من الألفية الجديدة، ولكنه لا يوضح الآلية التي رُسخت وأدت إلى نشوء السلطوية وتمكينها كنظام عموماً في مصر، ربما لأن محاولة شرح تلك العملية تذهب بالكاتب إلى أفق منفصل عن أهدافه. ولكن هناك حاجة لسرد بعض العوامل الأساسية – على الأقل- التي أدت إلى تمكين النظام السلطوي في الدولة ما قبل حكم الرئيس السيسي لأنها تفسر للقارئ كيف تمكنت السلطوية من لم شتات نفسها وإعادة ترتيب أوراقها في أعقاب ثورة كانون الثاني/ يناير بينما كان العالم ينتظر لحظة استقبال مصر الديموقراطية. 

يقدم حمزاوي في كتابه حلولاً للتغلب على السلطوية، يجدها القارئ متناثرة بين فصول الكتاب. وهناك دعوة مستمرة إلى إعلاء الصوت الديموقراطي والمطالبة بتغيير “خانات حكم الفرد وطغيان النهج الأمني”. أيضاً يُطالب الكاتب شرائح المجتمع المصري- من حقوقيين وناشطين ومواطنين عاديين- بالاعتراف بهزيمة ثورة 25 يناير وفشلها في خلق تغيير ملموس وإيجابي في الحياة السياسية وما يتبع ذلك التغيير من آثار على النطاق المدني والمؤسساتي. إن هذا الاعتراف أو الإدارك، بحسب ما يرى الكاتب، هو الخطوة الأولى للتطهير النفسي أو تطهير العواطف الذي يسمح بإيجاد واستحداث مساحات جديدة وبديلة للكفاح السلمي في سبيل الديموقراطية والعدالة. وهنا، يلفت الكاتب نظر هذه الشرائح من المجتمع إلى ما يشابه الفرصة التي يمكن استغلالها. فالسلطوية في خوف لأنها تعي في قرارة نفسها أن الظلم لا يولد نتائج إيجابية وأن القمع تظل فعاليته محدودة، وخصوصاً على المدى الطويل. ولذلك، يوجه حمزاوي خطابه للمجتمع تارة وللنظام السلطوي تارة أخرى، ليحثه على إدراك محدودية الأدوات التي يستخدمها وخطورتها، في سبيل البقاء. وكذلك يطلب حمزاوي من القارئ المصري أن يسأل نفسه ويختار أي وطن ومجتمع ودولة يريد. قد تبدو هذه الأسئلة بدهية، ولكن الإجابة عليها ضرورية، لتحديد منهج الخلاص من “وضعية الأمة القلقة التي لا تستحقها مصر”. ولكن، مع أن هذه الاسئلة قد تكون مفيدة من الناحية النظرية، لنا أن نسأل عملياً عن مدى احتمال تجاوب السلطة إيجابياً مع النتائج والتداعيات التي سترافق مرحلة الإجابة على هذه الأسئلة والإفساح في المجال لتمكين التغيير على أرض الواقع.

أخيراً، بث الإعلام المصري مراسيم جنازة الرئيس السابق حسني مبارك بحضور الرئيس عبد الفتاح السيسي. النظام السلطوي الجديد يودع النظام القديم. تحية إجلال من المؤسسة العسكرية تمثل النقيض التام لكيفية تعامل المؤسسة نفسها مع أول رئيس منتخب من الشعب حين مماته. وقد تحدت هذه المشاهد الذاكرة المصرية التي ما زالت تحتفظ بذكرى 25 يناير الثورة- لا 25 يناير عيد الشرطة- في ذهنها. هنا لا يسعنا إلا أن نسأل حمزاوي الذي قال إنه لا سبيل لنجاة مصر من النظام السلطوي إلا من طريق تمكين الدولة الوطنية بمؤسساتها المدنية، والانتصار للديموقراطية التي تكفل للحياة السياسة التعددية والحرية، وضمان سيادة القانون: برأيك، ما احتمال حدوث ذلك في المستقبل القريب؟