fbpx

فيكشن: حين تصالح البعثان واتّحد العراق وسوريّا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يوم 18 يوليو/ تموز 1968، بعد يوم واحد على استيلاء البعثيّين على السلطة في العراق، حطّت في مطار بغداد طائرة سوريّة حملت على متنها قادة النظام البعثيّ في دمشق: رئيس الجمهوريّة نور الدين الأتاسي ورئيس حكومته يوسف زعيّن ووزير الخارجيّة ابراهيم ماخوس ووزير الدفاع حافظ الأسد والأمين العامّ للقيادة القطريّة للحزب صلاح جديد ونائبه عبد الكريم الجندي. مستقبلوهم في بغداد كانوا قادة النظام الجديد: أحمد حسن البكر الذي يُرجّح أن يتسلّم رئاسة الجمهوريّة، وصدّام حسين التكريتي الذي يُتوقّع أن يُسمّى نائباً للرئيس، وكبار الحزبيّين الذين ستُوزّع عليهم الوزارات والمناصب العليا في العهد الجديد: صالح مهدي عمّاش وحردان التكريتي وسعدون حمادي وطارق عزيز وعبد الخالق السامرّائي وناظم كزار.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يوم 18 يوليو/ تموز 1968، بعد يوم واحد على استيلاء البعثيّين على السلطة في العراق، حطّت في مطار بغداد طائرة سوريّة حملت على متنها قادة النظام البعثيّ في دمشق: رئيس الجمهوريّة نور الدين الأتاسي ورئيس حكومته يوسف زعيّن ووزير الخارجيّة ابراهيم ماخوس ووزير الدفاع حافظ الأسد والأمين العامّ للقيادة القطريّة للحزب صلاح جديد ونائبه عبد الكريم الجندي. مستقبلوهم في بغداد كانوا قادة النظام الجديد: أحمد حسن البكر الذي يُرجّح أن يتسلّم رئاسة الجمهوريّة، وصدّام حسين التكريتي الذي يُتوقّع أن يُسمّى نائباً للرئيس، وكبار الحزبيّين الذين ستُوزّع عليهم الوزارات والمناصب العليا في العهد الجديد: صالح مهدي عمّاش وحردان التكريتي وسعدون حمادي وطارق عزيز وعبد الخالق السامرّائي وناظم كزار.

لم يُعرف بالتمام أين انعقد الاجتماع الطويل بين الوفدين الحزبيّين، لكنْ في مساء ذاك اليوم أذاع راديو بغداد ما يلي: “بنتيجة اللقاء بين الرفاق البعثيّين الذين يقودون القطرين العراقيّ والسوريّ، والذي استُهلّ بتهنئة الرفاق السوريّين للرفاق العراقيّين بانتصار الثورة المباركة، تقرّر التالي: أوّلاً، يعاد فوراً توحيد الحزب في القطرين في ظلّ قيادة قوميّة واحدة يرأسها المؤسّس والقائد المعلّم الرفيق الأستاذ ميشال عفلق. وفي انتظار انعقاد انتخابات حزبيّة، ستضمّ القيادة الانتقاليّة الرفاق صلاح الدين البيطار وصدّام حسين التكريتي وصلاح جديد وحافظ الأسد وعبد الخالق السامرّائي. ثانياً، يُعلَن عن تأسيس “جمهوريّة العرب المتّحدة” التي سيكون القطران الشرقيّ العراقيّ والغربيّ السوريّ نواة لها، على أن تنضمّ إليها بقيّة الأقطار لاحقاً. ثالثاً، يُسمّى الرفيق أحمد حسن البكر رئيساً لجمهوريّة العرب المتّحدة، والرفيقان نور الدين الأتاسي وصدّام حسين التكريتي نائبين للرئيس. رابعاً، يُكلّف الرفيق يوسف زعيّن تشكيل الحكومة التي سيتولّى الرفيق صالح مهدي عمّاش نيابة رئاستها”.

بعد يومين أصدرت القيادة القوميّة ما أسمته البلاغ الثوريّ الرقم 1، وجاء فيه أنّ عقوبة الإعدام ستكون جزاء كلّ من يتلفّظ بتعابير تدلّ على هويّة دينيّة أو طائفيّة أو إثنيّة (مسلم، سنّيّ، شيعيّ، علويّ، مسيحيّ، كرديّ…)، إذ كلّ فرد في جمهوريّة العرب المتّحدة “مواطنٌ عربيّ” فحسب. وبعد يوم أصدرت البلاغ الثوريّ الرقم 2 ويقضي بالسجن المؤبّد مع الأشغال الشاقّة على كلّ من يعرّف شخصاً أو شيئاً بمنطقة من المناطق (دمشقيّ، حلبيّ، حمصيّ، بغداديّ، مصلاويّ، نجفيّ…).

“الإنسان العربيّ الجديد” و”وحدتنا قوّة للعرب”… هاتان هما العبارتان اللتان طُليت بهما الجدران وغصّت بهما حناجر الخطباء والمذيعين ومعلّمي المدارس وخطباء الجمعة في سوريّا والعراق. وهما أُخضعا لشرح تولاّه كبار مفكّري الحزب ممّن شكلوا لجنة رأسها الياس فرح، وجاءت صياغة الشرح على النحو التالي: “المقصود بـ “الإنسان العربيّ الجديد” إنهاء التجزئة بكلّ أنواعها. فإزالة الحدود لا تكتمل من دون إزالة باقي التشوّهات التي علقت بالعرب وفرضت عليهم هوّيّات زائفة. إنّ العربيّ الجديد يولد من عدمٍ وتتولّى العروبة وحدها ملأه بالمعنى. أمّا المقصود بـ “وحدتنا قوّة للعرب” فأنّ العرب سيمارسون حقّهم في السيادة على منطقتهم، وبسيادة هذا الحقّ وحده يمكن للمنطقة أن تعيش في سلام وبحبوحة واستقرار”.

البلدان العربيّة الأخرى تعاملت مع هذا الحدث الوحدويّ على نحو مختلف تماماً. ففي مصر، شنّت إذاعة “صوت العرب” هجوماً لاذعاً على “الوحدة المزعومة” التي لا يُقصد منها إلاّ “التآمر على قيادة جمال عبد الناصر الوحدويّة”، فيما كتب محمّد حسنين هيكل في مقالته الأسبوعيّة التي تحمل عنواناً جامعاً هو “بصراحة”، ناعياً “الوحدة حين يقيمها إنفصاليّون”. أمّا اللبنانيّون والأردنيّون فلم يستطيعوا التغلّب على مخاوفهم، إذ عبّروا عنها بصراحة بالغة: فقد ألقى الملك حسين خطاباً هنّأ فيه “الأخوة السوريّين والعراقيّين بالوحدة التي سعى إليها أجدادي”، مضيفاً: “لكنّ أخطر ما قد يقع فيه الوحدويّون هو الانتشاء بفكرة القوّة التي لا تفعل سوى بثّ الخوف في من هم أصغر وأضعف، ودفعهم إلى كراهية تلك الوحدة التي تتحوّل، في نظرهم، إلى مجرّد مشروع عدوانيّ”. وبدورهم تحدّث قادة مسيحيّون لبنانيّون عن أنّ وحدة بين سوريّا والعراق لا تفضي، في آخر المطاف، إلاّ إلى إخضاع لبنان والأردن. ووفقاً لكتائبيّ شابّ اسمه ميشال سماحة، استصرحتْه جريدة “النهار” اللبنانيّة، “فإنّ هذا الشيء الذي يسمّونه “حركة تحرّر عربيّة” لا يعني إلاّ تركيع لبنان والأردن من قبل سوريّا والعراق”. أمّا فلسطينيّاً فلا يبدو الأمر أحسن. فـ “الناطق بلسان الثورة الفلسطينيّة” المدعوّ “أبو عمّار” اعتبر، في تصريح أدلى به إلى جريدة “الحياة” اللبنانيّة، أنّ “المحكّ الفعليّ لهذه الوحدة هو مدى إتاحتها الفرصة للفلسطينيّين أن يحرّروا فلسطين. لكنّنا نخشى أن تُستعمل القوميّة العربيّة لحرمان الفلسطينيّين قرارهم الوطنيّ المستقلّ”. وفي خبر نقلته “الحياة” في عددها نفسه أن حكّام جمهوريّة العرب المتّحدة يفكّرون في إنشاء منظّمة فدائيّة بعثيّة يسمّونها “صاعقة التحرير العربيّة”، يتولّى قيادتها الشكليّة بعثيّون فلسطينيّون كزهير محسن وعبد الوهاب الكيّالي فيما يبقى قرارها الفعليّ في يد القيادة القوميّة لحزب البعث. وقد تردّدت في مقاهي بيروت دعابة نُسبت إلى الوجيه البيروتيّ منح الصلح، مفادها أنّ الذين يحرّمون استخدام كلمات كدمشقيّ وبغداديّ لن يُصدروا أقلّ من حكم إعدام على مَن يقول فلسطينيّ أو لبنانيّ أو أردنيّ!

أوضاع الخليج وتّرها أيضاً قيام الوحدة العراقيّة – السوريّة. الكويت خصوصاً أصابها ذعر راحت تتناقله أحاديث ديوانيّاتها الكثيرة. ذاك أنّ الكويتيّين لم ينسوا بعد محاولة عبد الكريم قاسم، قبل سبع سنوات، احتلال إمارتهم. ولأنّ قوّة العراق تُقلقهم حتّى لو لم يتّحد بسوريّا، وحتّى لو لم يحكمه حزب قوميّ يعتبر الكويت فرعاً من أصل، فإنّ الأوضاع الجديدة حملت أميرهم الشيخ صبّاح السالم الصبّاح على القيام بجولة أسمتها الصحافة الكويتيّة “جولة طمأنة وبحث عن حماية وضمانات”. هذه الجولة يُفترض أن تشمل الرياض والقاهرة وطهران وأنقرة ولندن وواشنطن.

غير أنّ المخاوف ما لبثت أن تعدّت خريطة العالم العربيّ، لا سيّما مع تلاوة رئيس الحكومة يوسف زعيّن بيان حكومته حيث تعهّد “تحرير فلسطين وتدمير الكيان الصهيونيّ، وتحرير عربستان التي أسماها الاحتلال الإيرانيّ خوزستان، وتحرير لواء الإسكندرون الذي أسماه الاحتلال التركيّ هاتاي”. ويبدو أنّ صدّام حسين التكريتي وحافظ الأسد، وهما أشدّ قياديّي البعث إدراكاً لشروط الحفاظ على السلطة، عاتبا زعيّن على هذه الفقرة فكان جوابه: “هذا مجرّد كلام لإحراج عبد الناصر أمام الجماهير العربيّة، لكنّ أيّاً من الدول لن تحمله على محمل الجدّ”. بيد أنّ الدول كلّها حملته على محمل الجدّ، بدلالة المؤتمر الطارىء الذي دعا إليه شاه إيران في طهران وحضره، فضلاً عنه، ليفي إشكول، رئيس حكومة إسرائيل، وسليمان ديميريل، رئيس حكومة تركيّا. وقد جاء البيان الصادر عن القادة الثلاثة ليثير أوسع القلق لدى حكّام جمهوريّة العرب المتّحدة، إذ أكّد أنّ “دولنا الثلاث تضع كلّ الخيارات على الطاولة، بما فيها الخيار العسكريّ، دفاعاً عن سيادتنا الوطنيّة وعن وجودنا نفسه”. أمّا الخبر الذي لا يقلّ خطورة فهو ذاك الذي نقلته صحيفة “إنترناشونال هيرالد تريبيون” نقلاً عن “مصادر في طهران أصرّت على عدم ذكرها بالاسم”. مفاد الخبر أنّ ثمّة مقرّرات سرّيّة توصّل إليها القادة الثلاثة أهمّها “السعي إلى توريط حلف الناتو في هذا النزاع، وإلى الاستخدام النشط لصداقاتنا داخل سوريّا والعراق ممثّلةً بالجماعات المتذمّرة من هذه الوحدة العربيّة ونظامها الأحمق”. وممّا تسرّب عن كواليس السلطة البعثيّة أنّ صدّام وحافظ، بعد أن سمعا بتلك المقرّرات الخطيرة، هاجما زعيّن في مؤتمر للقيادة الحزبيّة، ثمّ هجما عليه، فحاول صدّام أن يخنقه بيديه فيما ركله الأسد على خصيتيه، لكنّ الآخرين عاجلوا إلى إنقاذه.

فوق هذا لم تعد تذمّرات الداخل المتصاعدة سرّاً. فالأكراد في شمال العراق، وإلى حدّ ما في شمال سوريّا، لم يُخفوا تململهم من هذا التعريب الكاسح الذي يحرّم عليهم استخدام تعبير “كرديّ”. ويبدو أنّ الزعيم الكرديّ العراقيّ الملاّ مصطفى البارزاني كان بالغ الصراحة في لقائه الأخير مع الرئيس البكر، إذ قال: “لم تكتفوا بضمّنا بالقوّة إلى عرب العراق في العشرينات، فأنتم تضمّوننا اليوم إلى عرب سوريّا أيضاً بما يجعلنا أقلّيّة أصغر فأصغر”. وبحسب صحافيّ فرنسيّ، هو جون بيار ميدييه، جال في وسط العراق وجنوبه، هناك غضب واضح لأنّ “الأكثريّة السنّيّة في سوريّا سوف تعدّل التركيب السكّاني السنّيّ – الشيعيّ لغير مصلحة الشيعة”. ويضيف ميدييه أنّه شاهد تظاهرة صغرى في مدينة النجف ترفع يافطات تحيّي “الإنسان القديم” وتصرّ على الهويّة النجفيّة والشيعيّة، إلاّ أنّها أُغرقت بحمّام دمويّ أنكرته السلطة البعثيّة كلّيّاً. أمّا في بغداد نفسها، فعبّر أحد المسنّين في منطقة الأعظميّة السنّيّة عن حال الاستياء والغضب التي تعمّ بعض الأوساط البغداديّة. فقد جلس على الرصيف باكياً ولاطماً وجهه بكفّيه وهو يردّد ويعيد: “بلد حضارات ما بين النهرين صار قطراً. يا لله! ليتني لم أعش لأرى هذا اليوم”. ويبدو أنّ بعثيّاً لبنانيّاً شابّاً اسمه معن بشّور مرّ به في تلك اللحظة وحاول التخفيف عنه وإقناعه بأنّه صار إنساناً جديداً ينتسب إلى أمّة ذات رسالة خالدة، فما كان من الشيخ العراقيّ إلاّ أن ضربه بعصاه، بحيث ركض بشّور هارباً فيما لحق به المسنّ العراقيّ مسافة أمتار عدّة.

والأمور لا تختلف كثيراً في سوريّا: فالدمشقيّون يقولون إنّهم لم يتحمّلوا الوحدة مع مصر التي نقلت العاصمة إلى القاهرة، فكيف يتحمّلون الوحدة مع العراق التي جعلت من بغداد عاصمة لهم. أمّا الحلبيّون فيقولون إنّهم لم يتحمّلوا أن تكون دمشق عاصمتهم فلماذا يتحمّلون بغداد. ويُسمع بين فينة وأخرى بعض الهمس من أنّ الذين ثاروا قبل سبع سنين على الوحدة مع مصر لن يتردّدوا في الثورة على وحدة مع العراق. ذاك أنّ الوحدة، كما قال منفيّ سوريّ في بريطانيا حاول أن يشرح الأمر لأحد صحافيّي “تايمز” اللندنيّة، “هي شيء تشتهيه لغيرك لكنْ ليس لنفسك. فليتّحد المصريّون والسودانيّون، أو الجزائريّون والمغاربة، أو اليمنيّون والسعوديّون، أمّا نحن فليتركونا بحالنا”. لكنّ الأستاذ ميشال عفلق، وعلى ذمّة ما كتبه الصحافيّ الفرنسيّ الشهير إريك رولو، هو أكثر اقتناعاً من أيّ وقت مضى بأنّ الوحدة العربيّة هي ما يوفّر للمنطقة “العيش في سلام وبحبوحة واستقرار”.