fbpx

هل الأنظمة الاستبدادية أكثر قدرة على مكافحة الوباء؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

عندما يلي الخطابات الواثقة التي يلقيها السياسيون أحداثاً مأساوية في أغلب الأحيان، يُترك المواطنون في البلدان الشمولية يصارعون مشاعر انعدام الأمن والأمان، مع ترسخ مفهوم أن “البقاء للأقوى” لديهم

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بلغ عدد الحالات المصابة بفايروس “كورونا” ذروته ليصل إلى 500 ألف حالة في ووهان وحدها، وهي المدينة الصينية التي كانت بؤرة للفايروس الذي انتشر في العالم أجمع. اليوم، تعلن السلطات الصينية عن حالة إصابة واحدة فقط خلال يومين، مُعزية ذلك إلى التدابير السريعة والصارمة التي اتخذتها لتنجح في “تسطيح منحنى الإصابة بالفايروس، وخفض سرعة الانتشار، بمعنى أن تحدث الإصابات على مدة زمنية أطول”. عند مقارنة هذه التدابير بالاستجابة البطيئة في إيطاليا وغيرها من الدول، يُثار سؤال قوي عن تعنت الأنطمة الحكومية ومدى فرصة نجاحهم في مكافحة الأوبئة الفيروسية.

عادةً ما توصف التدابير الاستبدادية بأنها قاسية، لكنها سريعة وشاملة وفعّالة، فهي تعتبر تدابير مُثلى أثناء اجتياح الوباء حين لا يتسع الوقت للاستجابة السريعة أو “الديموقراطية” في ما يتعلق بحريات المواطنين. فقد شهدت الصين إجراءات مثل إجبار الأفراد على إخلاء الشوارع، وترك منازلهم، وتدابير المراقبة الشاملة، ومعسكرات الحجر الصحي الجماعية، وجميعها قد يراها العالم قاسية للغاية، لكن في خضم حالة الهلع وزيادة عدد الوفيات، بات كثر منهم الآن على اقتناع تام بضرورة مثل هذه الإجراءات. في حقيقة الأمر، هل علينا التخوّف من الأنظمة “الأضعف” وإدراتها البطيئة والمتساهلة وغير الفعّالة خلال تفشي مثل هذه الأوبئة مستقبلاً؟

هل الأنظمة الاستبدادية هي الأقدر على التعامل مع الأزمات الصحية؟ ربما الإجابة الصحيحة هي نعم، مثلما يكون الطبيب الفصامي هو الأقدر على إدارة مصحة للأمراض العقلية.

 الخداع والفساد

من الصعب ادعاء أن التدابير الصارمة غير الإنسانية، مثل تلك التي طبقتها الحكومة الصينية، “غير فعّالة” في التصدي لتفشي الفايروس، إلا أنني أرى أن هناك إجراءات مصاحبة لتلك التدابير تتخذها الأنظمة الاستبدادية وتعتبر أكثر خطورة، إذ تعمل في اتجاه مضاد لتقوّض أي فاعلية ناتجة عن التدابير المتخذة. أكثر هذه الإجراءات تأثيراً: القمع والخداع وتكتم الحكومة وإرباك المواطنين ونشر الذعر على نطاق واسع، أو في حالات أخرى: نشر الجهل وإتاحة المجال لعدم الالتزام بتدابير السلامة. كما قد تتسبب إجراءات مثل قمع المُبلغين عن الفساد والنشطاء، وترويج الشائعات والمعلومات المُضللة في ضرر أكبر مما قد تنقذه “التدابير الصارمة”. الواقع أن السرية والاستبداد في حالة الصين، هما السبب وراء تفشي “كورونا” في أنحاء العالم بتلك الطريقة في المقام الأول.

في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أُجبر الدكتور لي وين ليانغ على الاعتراف كذباً بأنه روج الإشاعات بعد مرور ثلاثة أيام من محاولته تحذير العالم من اكتشافه مرض كوفيد-19. وتوفى في شباط/ فبراير بعد إصابته بعدوى الفايروس من أحد المرضى. وأغلقت السلطات في اليوم التالي مباشرةً “مركز شنغهاي السريري للصحة العامة”، الذي أعلن عن جينوم فايروس “كورونا” ودمرت نتائج الاختبارات والعينات تماماً. وفي شباط من العام الجاري، نشرت الممرضتان ينغ شان زينجغ ويان شين، خطاباً في المجلة الطبية البريطانية “ذا لانسيت”، تحذران فيه من النقص الشديد في الإمدادات الطبية في ووهان، إلا أنهما أُجبرتا على التراجع عما نشرتاه، بعد أيام قليلة. كما أسكت النظام الحاكم، على نحو متوقع، الصحافيين المستقلين والنشطاء والمحامين ممن كانوا يبثون آخر مستجدات فايروس “كورونا”، وشمل ذلك كل من لي زهوا، وفان بين، وشين تشوشي، الذين تعرضوا جميعاً للاعتقال.

تكررت الأحداث ذاتها في إيران، ولكن على نحو أكثر خطورة مع بنية تحتية صحية غير مؤهلة بسبب العقوبات الاقتصادية الحادة التي تخضع لها البلاد. فقد قمعت الحكومة خلال الأسابيع الأولى من التفشي أي أخبار عن الفايروس، وواصلت إنكار خطورته على الشعب الإيراني. كما استمر رجال الدين بدعوة الحجيج إلى مدينة قُم الشيعية المُقدسة حتى أصبحت المنطقة أكبر بؤرة للعدوى في إيران بأكملها. اليوم، أُصيب المزيد من كبار المسؤولين الحكوميين (إضافة إلى الكثير من المؤسسات الدينية) بمرض كوفيد- 19 وهو رقم كبير مقارنةً بأي دولة أخرى في العالم. حتى يومنا هذا، ما زالت الأكاذيب تتداول عن أعداد المصابين، مع مقاطع فيديو سربها بعد كاشفي الفساد على موقع “تويتر” توضح حالات وفاة وعدوى غير مسجلة. ازداد انعدام الثقة في الحكومة حتى أن بعض المواطنين يطالبون بتولي قوات حرس الثورة الإسلامي المقاليد وتطبيق الحجر الصحي بأنفسهم، وهم القوات التي سحقت الاحتجاجات المناهضة للحكومة منذ بضعة أشهر!

انتقالاً من إيران إلى لبنان، بدأ الكثير من المواطنين اللبنانيين فرض الحجر الصحي على أنفسهم، قبل أن تعلن الحكومة حالة الطوارئ بوقت طويل. فبعد أشهر من الانتفاضة المرهقة على خلفية الانهيار الاقتصادي المُحدق، مُني كثيرون بالهزيمة بسبب المحصلة النهائية التي آلت إليها الأمور، وهي تشكيل “حزب الله” حكومة يرأسها رئيس الوزراء الجديد، حسان دياب.

وعندما تفشى الوباء في إيران، وتأكدت الحكومة من عدم اتخاذ أي قرارات من شأنها أن تضر بأنصار إيران لأطول فترة ممكنة؛ بما في ذلك السماح للبنانيين بالطيران ذهاباً وإياباً بين لبنان وإيران، إلى أن هبطت آخر طائرة في لبنان قبل إقفال المطار. أدى ارتفاع مستويات عدم الثقة والسأم من النظام إلى إصابة اللبنانيين بالهلع على رغم تتبعهم أعداد المصابين المنخفضة نسبياً التي تعلنها وزارة الصحة. حين يحاول المرء أن يجد مبررات تُفسر مخاوفهم، فأول شيء قد يخطر في بالك هو: “بالفعل هذه الأرقام تبدو منخفضة ولكن بالتأكيد، لا تأخذ هذه الإحصاءات لأعداد المصابين في الحسبان أعداد الشيعة المنتمين لحزب الله الذين يُخفون تعرضهم للإصابة بالمرض… ومن يدري، ربما تصل أعدادهم إلى المئات أو حتى الآلاف؟”. وعلى رغم عدم وجود دليل يثبت صحة هذه الفكرة بعد، فإنها تستند إلى تخمين منطقي إلى حد ما، وهو أن قادة “حزب الله” يفضلون الكذب حول أعداد المصابين بدلاً من الاعتراف بأن إيران، التي يفترض أنها الفارس المُخلص للبنان، هي في واقع الأمر حصان طروادة الذي حمل الوباء لها. ازداد انتشار تلك الشائعات المفزعة بينها أن الحزب ينشئ مستشفيات خاصة سراً، تعالج آلاف المرضى المصابين بفايروس “كورونا” في الوقت الراهن، بما في ذلك مقاتلو “حزب الله” العائدين من سوريا.

تُعد سوريا أحد الأمثلة الواضحة على ذلك في مستويات عدة، فقد أُغلقت المدارس والمساجد وحُظرت الفعاليات العامة، وتأجلت الانتخابات البرلمانية. لكن المسؤولين لم يعترفوا بعد بوجود حالة إصابة واحدة بالفايروس في البلاد. كما أصبح وزير الصحة السوري مصدراً للسخرية، عقب تداول تصريح له حول فايروس “كورونا”، وما إذا كانت الوزارة ستعلن عن تسجيل أي حالات إصابة، ليرد قائلاً “الحمد لله، الجيش العربي السوري طهر كتير من الجراثيم الموجودة على أرض سوريا”. وكان للتباهي المستمر بعدم وجود حالات إصابة على الإطلاق تأثير مزدوج؛ إما الذعر المنتشر بين الأفراد الذين يضعون في الحسبان أن أسوأ احتمال قد يكون مروعاً، في ظل نظام الرعاية الصحية المتهالك والمُثقل بالأعباء القائم بالفعل في سوريا، أو الإنكار التام واستمرار الحياة بصورة طبيعية بين من يصدقون النظام فعلياً، وسيؤدي كلاهما إلى عواقب مروعة في حالة تفشى مثل هذا الوباء الفيروسي عالي الخطورة.

بين التقنيات السيبيرانية وأنظمة الحكم الاستبدادية

لن نخوض كثيراً في غياهب نظرية المؤامرة، فليس من الصعب أن نتخيل أن الحكام المستبدين كثيراً ما استغلوا “الكوارث” على مر التاريخ؛ وقد يعني ذلك أي إجراءات تُتخذ خلال الحروب، والكوارث الطبيعية، والهجمات الإرهابية، والانهيارات الاقتصادية، والآن تفشي وباء فايروسي على مستوى العالم، وهو ما أظهر لاحقاً وجههم الحقيقي ورغبتهم في اتخاذ المزيد من الإجراءات القمعية وفرض الرقابة الصارمة. ولا يعني هذا أنهم يقررون تطبيق هذه الإجراءات لحظياً؛ فقد وضعت هذه المخططات مسبقاً، كل ما في الأمر أن الكوارث الكبرى توجد الفرصة المثالية لتنفيذها.

وفي ظل تفشي مرض كوفيد-19، شاهدنا بالفعل إقدام الصين على تفعيل قاعدة بيانات حكومية على نطاق الدولة، تتضمن معلومات حول الأفراد، ظلت تطورها لسنوات، متذرعةً بانتشار الفايروس. والآن تراقب الطائرات المُسيّرة المواطنين الذين يخالفون قواعد الحجر الصحي أو لا يرتدون الأقنعة. وبات لزاماً حالياً على كل مواطن صيني أن يُدخل أرقام هويته الوطنية في برنامج يربطه بنظام تتبع يستند إلى تقنيات المراقبة فائقة التطور التي تراقب رحلات السفر، وأماكن الإقامة في الفنادق، وشراء الأدوية من الصيدليات، والمواقع، بل وحتى مراقبة المحادثات المتعلقة بفايروس “كورونا”. تأتي هذه التدابير المرعبة في إطار شراكة بين الحكومة وشركات الاتصالات الكبرى، من بينها شركة الصين للاتصالات “تشاينا تليكوم” التي وضعت نظام تقييم قائماً على الترميز اللوني، لتحديد هوية المرضى استناداً إلى مستويات المخاطر التي نواجهها. وقد وصف هذا النظام بأنه “داتا لوياثان” الصيني، وهو نظام شمولي قائم على جمع البيانات، لا يختلف عما يحدث في الشرق الأوسط، وإن كان أكثر تطوراً. كان النظام في الأساس مخصص لمراقبة إقليم شينجيانغ ومنطقة التبت فقط، التي لا يتجاوز عدد سكانها 1.8 في المئة من سكان الصين، بيد أن مرض كوفيد-19 قدم للسلطات الصينية فرصة تطبيق هذه الإجراءات في أغلب أنحاء البلاد على طبق من فضة.

 تعد إسرائيل ثاني دولة تتبع هذا النوع من الإجراءات الاحترازية، وذلك عندما صادقت الحكومة في 15 آذار على العمل بقوانين “حالة الطوارئ” التي يمكن بموجبها أن يتنصت جهاز الأمن العام الإسرائيلي “شاباك” على هواتف الإسرائيليين الذين كانت نتائج تحاليلهم لفايروس كورونا إيجابية حتى يتسنى له تعقب حركة الفايروس في البلاد. بينما يتلقى الأشخاص الذين تواصلوا مع مصابين رسائل نصية تأمرهم بفرض الحجر الذاتي.

ظلت الأنظمة الشمولية لأعوام تدعم هياكل فرض سيطرتها على الدولة تحت مسمى “الأمن”، ولهذا غالباً ما تبرر الإجراءات القمعية التي تفرضها بدعوى مواجهة “التهديدات الأمنية” ومتعللةً “بحماية الشعب”. وتستخدم أموراً مثل: التصدي “للإرهابيين” و”العصابات المسلحة” و”التهديدات التي تتوعد الأمن القومي” و”خطر تفكك وحدة الشعب” وما يشبهها، لتبرير الممارسات القمعية العنيفة ضد التظاهرات السلمية وآليات المراقبة الصارمة التي تفرضها والاعتقالات التي تحصل بناءً على منشورات على “فايسبوك”، والقائمة تطول. وفي حالة مرض كوفيد-19، يواجهنا وضع فريد يجمع بين التهديدات الداخلية والخارجية، ما يمنح الدولة الفرصة المطلقة لمضاعفة هذه الإجراءات.

ولا يعني هذا عدم جدوى تلك الإجراءات بوجود النوايا الحسنة. فقد تعلمت تايوان، التي تتباهى بتسجيل 100 إصابة فقط وحالة وفاة واحدة، درساً كبيراً من وباء سارس (متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد) عام 2003، وأعادت تشكيل هياكلها الصحية الأساسية بعد تلك النكبة. تحتوي المطارات في تايوان على مقاييس حرارة مدمجة وتطلب من المسافرين الإبلاغ عن خط سيرهم خلال السفر وحالتهم الصحية باستخدام أكواد كيو آر (رموز استجابة سريعة). فبعد أن حذر خبراء تايوانيون عائدون من الصين في كانون الثاني/ يناير من احتمال تفشي الوباء، اتخذت السلطات تدابير سريعة للغاية، وأصبحت تايوان أول دولة تفرض الحظر على الرحلات الجوية من ووهان وإلها، وحظرت أيضاً تصدير الكمامات. وبفضل تعقب الحالات وتفحصها باستمرار، بالإضافة إلى نظام التأمين الصحي الذي يشمل 99 في المئة من السكان، يمكن القول إن تايوان هي النموذج الأمثل على التعامل الصحيح مع الوباء.

ترجع خطورة تلك الإجراءات في ظل الأنظمة الديكتاتورية إلى أن حدتها لا تتراجع بشكل جليّ، مثلاً هل ستعود الأمور في الدولة إلى “مجراها الطبيعي” بمجرد انتهاء هذه الأزمة؟ وماذا عن احتمال حدوث موجات ثانية من انتشار الفايروس؟ وماذا عن احتمال أن تستخدم هذه الأنظمة الرقابية باعتبارها وسائل للوقاية حالياً، بدلاً من إيجاد حلول سريعة؟ ماذا عن القول إن هذا لحمايتنا، لمجرد الاطمئنان، أليس هذا صحيحاً؟ وبمجرد تنفيذ هذه التدابير، سيكون من الصعب للغاية حملهم على التراجع عنها، وستنهال علينا المبررات من كل صوب.

الصحة العقلية

لطالما عرف من يعيشون بيننا في ظل أنظمة استبدادية أن ما تعلمناه في المدارس عن الموضوعية البحتة للأرقام والعلوم يمكن أن يصبح ببساطة محل سخرية شديدة وانتقاد حاد، إذا ما تطلب الأمر، ليتماشى مع أهواء من في السلطة. وفي غياب المنظمات الرقابية والهيئات القضائية المستقلة والصحافيين المستقلين، إضافة إلى أجواء الرعب التي تلوح في الأفق، تُسحق مشاعر الحماسة والابتكار والتضافر والثقة بشكل ممنهج. وعندما يلي الخطابات الواثقة التي يلقيها السياسيون أحداثاً مأساوية في أغلب الأحيان، يُترك المواطنون في البلدان الشمولية يصارعون مشاعر انعدام الأمن والأمان، مع ترسخ مفهوم أن “البقاء للأقوى” لديهم، تماماً مثل الضحايا الذين يتعرضون للعنف المنزلي منذ فترة طويلة. إذاً، هل الأنظمة الاستبدادية هي الأقدر على التعامل مع الأزمات الصحية؟ ربما الإجابة الصحيحة هي نعم، مثلما يكون الطبيب الفصامي هو الأقدر على إدارة مصحة للأمراض العقلية.