fbpx

في بعض فصول “حصار ميلانو”: لقطات من “شارع العرب”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ما يميز شارع بادوفا أو “شارع العرب” كما تحلو للإيطاليين تَسْميتُه، هو أنه شارع يضم خليطاً من مهاجرين ولاجئين من جنسيات وبلدان مختلفة، من مصر والعراق والمغرب وتونس ومن دول آسيا الوسطى…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“ابقوا في بيوتكم، من أجلكم ومن أجل الآخرين، هذه هي رسالة عمدة ميلانو إليكم، لا تخرجوا إلا للضرورات”. باتت هذه الرسالة التي تطلقها سيارات الدرَك الوطني الإيطالي (الكارابينييري) عبر مكبرات الصوت، تقليداً يومياً في شوارع ميلانو منذ الصباح وحتى المساء. سيارات “مكتب الخدمات البيئية” التابع للبلدية تقوم بعمليات غسلٍ و”شطف” لمختلف الشوارع عبر خزانات المياه المخلوطة بهيبوكلوريد الصوديوم.

كان شارع بادوفا واحداً من بين أكثر الشوارع حيويةً في ميلانو في الفترة التي سبقت الاجتياح الكوروني للمدينة، ثم التحق هذا الشارع اليوم بركب الشوارع الميتة والخالية إلا من قلة من الأشخاص يُفترض أنهم خرجوا من بيوتهم “للضرورات” بحسب تعبير سيارات الكارابينييري أعلاه. ما يميز شارع بادوفا أو “شارع العرب” كما تحلو للإيطاليين تَسْميتُه، هو أنه شارع يضم خليطاً من مهاجرين ولاجئين من جنسيات وبلدان مختلفة، من مصر والعراق والمغرب وتونس ومن دول آسيا الوسطى إلى جانب إيطاليين بالطبع، وسيشعر أي عربي يتجول فيه بأنه يتجول في مدينة عربية، تبعاً لكثرة اللافتات و”آرمات” المحلات المكتوبة باللغة العربية والمنتشرة فيه، وهو واحد من بين أكبر شوارع ميلانو من حيث امتداده الطولي.

صورة من شارع “بادوفا” في إيطاليا قبل انتشار جائحة “كورونا”

محل “الحلاق أبو كريم” وفق اللافتة المعلقة فوق بابه هو محل مغلق منذ أكثر من أسبوعين، تطبيقاً لقرارات الحكومة الإيطالية الجدية، وأيضاً محلات كثيرة تختص بمعاملات المصريين في القنصلية المصرية في المدينة، ومحلات حوالات “ويسترن يونيون”، ومكاتب الاستشارات القانونية التي يديرها عرب ويرتادها المهاجرون للاستفسار والسؤال عن الأمور المتعلقة بالإقامة والجنسية والضرائب وغيرها، كما محلات ومكاتب إيطالية وغير إيطالية. وحدها السوبر ماركت وبعض محلات الـ”ميني ماركت” بقيت مفتوحة، إلى جانب مكاتب البريد والصيدليات بالطبع.

محل ميني ماركت يملكه (أو يعمل فيه) رجلٌ من بنغلادش، هو من المحلات القليلة التي تفتح يوم الأحد في هذه الظروف، يصطف أمامه الناس في  طابور طويل لكنه أقصر من الطوابير الطويلة أمام أي سوبر ماركت ضخم. ربما لم يكن ذلك الشاب يحلم بهذا الكمّ من الزبائن في يوم واحد أو في ساعة واحدة في الحالة الطبيعية، وربما يكون بعض هؤلاء الزبائن تعب أو ملّ الاصطفاف أمام السوبر ماركت، فانسحب واتجه إلى طابور أمام محل الـ”بينغاليزي” كما يشار في اللغة الإيطالية إلى أبناء بنغلاديش. أقف في الطابور الطويل منتظراً دوري، ثم يظهر رجل يبدو من ملامحه أنه إيطالي، يتجاوز الواقفين جميعاً ويدخل إلى المحل. يطلب منه الـ”بينغاليزي” الخروج والانتظار في الدور لأن هذا مخالف للقانون. أمام هذا المشهد، انتابني شعور تختلط فيه السعادة بالفخر، ذلك أن الشخص مخالف القوانين إيطالي وليس عربياً أو مهاجراً أو لاجئاً مثلي، وسرّني أيضاً أن ذلك الـ”بينغاليزي” سجّل نقطة لمصلحتي، على حساب اليمين الإيطالي الذي لم يوفر الكارثة الكورونية الحالية في إيطاليا، بل وظَّفَها، على الأقل في بداية تفشي المرض، ضد المهاجرين واللاجئين في عموم إيطاليا، مطالباً الحكومة الإيطالية بإقفال البلاد أمام “الغرباء”. الواقع أن الحكومة الإيطالية أقفلت البلاد فعلاً ولكن لأسباب ليست من بينها دعوات اليمين الإيطالي المتشدد ودوافعه. 

سيشعر أي عربي يتجول في شارع “بادوفا” بأنه يتجول في مدينة عربية، تبعاً لكثرة اللافتات و”آرمات” المحلات المكتوبة باللغة العربية والمنتشرة فيه.

خرجتُ من المحل بقرار “مهمّ” بالنسبة إلي: سيكون هذا المحل وجهة أساسية لي بعد انتهاء الكارثة في إيطاليا، إن كتب لي أن أنجو منها. بدا ذلك المحل، الميني ماركت، أشبه بحلّ وسط بين السوبرماركت وبين السوق الشعبي الأسبوعي، وهذا الأخير هو، كما يعرف الإيطاليون وعموم سكّان البلد هنا، سوق يخصص له يوم واحد كل أسبوع، مثل سوق الأحد أو سوق الإثنين أو سوق الأربعاء وغيرها. وفي “شارع العرب”، يشتهر سوق الإثنين وهو سوق تتنوع جنسيات باعته بين إيطاليين وعرب وآسيويين سيكون من بينهم بالطبع أشخاص وباعة “بنغاليزي”، حتى لو لم يكونوا بالضرورة بـ”مناقبية” “صديقي” الجديد آنف الذكر وبمستوى التزامه القانون. 

انتهى كل شيء اليوم، لم تعد هناك أسواق شعبية ولا حركة اقتصادية في ميلانو المنكوبة. خيّم الموت على المدينة بشوارعها كافة، وعلَت الأصوات الصادرة من غرف الإنعاش ومعها استغاثات الممرضين والأطباء على مواقع التواصل الاجتماعي، تطالب الناس وتتوسل إليهم البقاء في البيوت، كما ارتفعت أصوات السيارات التي تحمل مئات الجثث يومياً. السيارات الوحيدة التي تجوب المدينة اليوم إلى جانب سيارات نقل الموتى، هي سيارات الشرطة التي تطلق النداءات، وسيارات غسل الشوارع، إلى جانب سيارات خاصة قليلة توقفها نقاط التفتيش المنتشرة في المدينة اليوم، للتأكد من ضرورة تحركها وقانونيته.

غير أن حظر التجوال المفروض على الجميع هنا إلا في حالات خاصة كما يقول المرسوم الحكومي، هو مما لا يمكن ضمانه وضبطه بالكامل، على رغم انتشار سيارات الأمن والشرطة على مفارق الطرق وتجوالها في المدينة طوال اليوم، وتختلف ردود الفعل تجاه هذا الحظر من قبل سكان البلاد، بين من يوافق عليه ويدعو إلى إجراءات أكثر تشدداً، وبين من يعتبره “ديكتاتورية” من نوع جديد، إلى جانب كثيرين التزموا بيوتهم بقناعة ذاتية وقرار بالبقاء فيها، مهما كانت القرارات وحتى قبل تشديد القرارات وتوقيع المرسوم الأخير. هذا ما تقوله على الأقل تدوينات وتعليقات ومنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي وخصوصاً على “فايسبوك”. إلى ذلك، ثمة حالات تبقى غير مفهومة، كأن تعود إلى بيتك وتمرّ بمجموعة شبّان يقفون على مداخل أحد الشوارع الفرعية الضيقة، يدخنون ويتكلمون اللهجة المغربية. تُحاذر المرور بجانبهم مباشرة، وتمشي على بعد أمتار منهم، على رغم أنهم ملتصقون ببعضهم بعضاً تقريباً ولا تفصل بينهم مسافة الأمان الضرورية وهي متر واحد.

على الجهة المقابلة لمدخل البناية حيث تقع شقتي، تقف فتاة إيطالية لوحدها على شرفة البناية، نتبادل حديثاً سريعاً وتمنيات بالسلامة لكلينا. أدخل إلى البيت، وأبدأ جلسة التعقيم المتعارف عليها في إيطاليا اليوم والتي صارت عُرفاً أو ديناً أرثوذوكسياً جديداً لفرط التشدد فيها وفي طقوسها: تعقيم الوجه واليدين وتعليق الملابس في زاوية خاصة بملابس الخروج من البيت، وتعقيم البضائع الموجودة في الأكياس قطعةً قطعة، مسح المكان الذي دخلت منه إلى البيت بحذائي بالمعقمات الشهيرة.

 بعد الانتهاء من هذا، ألتقط أنفاسي وقد أنهيتُ مغامرتي السندبادية بنجاح وبأمان كما أتمنى، وأستعيد شريطها بتفاصيله لأصل إلى خلاصة مقنعة ومريحة: أنا لست في صفّ هؤلاء المدخنين في مدخل الشارع، على رغم أنني أشعلت سيجارة الآن. أنا، وباختصار، في صف “صديقي” البينغاليزي الجديد ومع جارتي الإيطالية التي اختارت البقاء في المنزل مثلي، على رغم أنها تشجع نادي “الإنتر” كما قالت لي في ثرثرتنا السريعة أمام الباب… ومع أصدقائي العرب الذي يلتزمون بيوتهم أو الذين يخرجون منها حتى لو لم تكن لديهم أسباب موجبة، طالما أنهم يحافظون على مسافة الأمان وطالما أنهم “يدرون ماذا يفعلون”.