fbpx

“كورونا” تونس يحدّ من “حرية الصحافيين” ويطالبهم بترخيص للتغطية!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

السلطات لا توفّر جهداً في محاولة برمجتنا وفق مزاجها وأجندتها فلربَما من السهل أن نحضر ندوات صحافية لرئاسة الحكومة ووزارتها أما رصدُ حالة المنشآت العامة المتهالكة وتصويرها فهذا يستوجب “ترخيصاً”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في 10 آذار/ مارس 2020، أردت تغطية وصول باخرة من إيطاليا إلى ميناء حلق الوادي في العاصمة التونسية، في ظل تفاقم انتشار “كورونا” لا سيما في إيطاليا. وصول الباخرة ترافق مع أصوات تونسية قلقة من مدى تطبيق وزارة الصحة الحجر الصحي الإلزامي على الوافدين وحجرهم في أماكن معزولة حتى لا يتسببوا في تفشي الفايروس. 

كنت يومها راغبةً في رصد الاستعدادات الأمنية والصحية، ومراقبة مدى الالتزام بتعليمات الوقاية في ميناء حلق الوادي من مدخله وحتى منطقة التفتيش الأمني. إلا أنني وجدت نفسي مطوّقةً بعشرات الموظفين الأمنيين بزي مدني، ولم ينفع إظهار أوراقي الثبوتية وبطاقتي الصحافية، لموظف أمن الحدود. فهذا الأخير أرسلني إلى محافظة الميناء/ مركز شرطة مؤكداً أن بإمكاني الحصول على الترخيص للتصوير، بعد إعلام الأجهزة داخل الميناء بوجودي لتسهيل عملي. امتثلت لما طلبه مني، قصدت مقر المحافظة المقابل لمدخل قاعة المسافرين. رجل الأمن هناك تسلم بطاقة هويتي وتركني أنتظر 20 دقيقة ليعود بعد ذلك قائلاً: “ليست من مهماتنا أن نقدم لك ترخيصاً، اذهبي إلى ديوان البحرية التجارية والموانئ (منشأة عمومية في الميناء) وارسلي لهم طلباً بترخيص وانتظري 48 ساعة”.

أعادوا إلي أوراقي ورافقتني موظفة أمن إلى قاعة المسافرين، أبلغت زملاءها بمراقبتي وعدم السماح لي بالتصوير. تمسكت بحقي في أن أكون في قاعة المسافرين بعدما جاءني أكثر من موظف وأنا جالسة أراقب وصول الباخرة ولا أستطيع حتى تصويرها: “أختي راهو ممنوع التصوير وماكش باش تخدم”، بما معناه التصوير ممنوع ولن نسمح لك بالعمل. وربما أكون محظوظة أحياناً بحس صحافي يتوقع دائماً الأسوأ، فقد ألهمني هذا الأخير قبل إظهار هويتي، بتصوير بعض المشاهد “خلسة” داخل قاعة المسافرين. كما وثّقت حديثي مع مسافرين متجهين إلى إيطاليا وآخرين أتوا منها. كان لدي شعور بأنني سأمنع لاحقاً من القيام بعملي، ربما لأنني لم أكن أحمل “لوغو” قناة عالية المشاهدة تونسياً أو عربياً.

قررتُ منذ ذلك اليوم إطلاق حملة “الصحافة مش بالترخيص” التي لاقت مساندة جيدة من زميلات وزملاء.

في 14 آذار، قبل إقرار حظر التجول في البلاد، تقدمت بطلب عبر الفاكس لوزارة الداخلية التونسية لإجراء وقفة احتجاجية صباحاً، أمام مقرها عنوانها “الصحافة مش بالترخيص“. 

ولربما يصعب علينا اليوم ونحن محاصرون بالكورونا في بيوتنا تنفيذ حملات مناصرة إعلامية أو وقفات احتجاجية، اعتراضاً على ما نواجهه.

وعلى رغم سلامة الإجراءات نظرياً، إلا أن الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية خالد الحيوني يرى غير ذلك. ففي رده عبر الهاتف على طلبي أكد لي أنه “قانونياً” كان الأجدر بي التقدم بمطلب لمركز أمن المدينة في “باب بحر” في العاصمة، وليس لوزارة الداخلية رأساً التي يفترض أن تكون الوقفة أمام أبوابها. 

وهنا نشير إلى أن قوانين “دولة الفاكس” العليّة تستوجب إجراءات روتينية لتقديم طلب رخصة لمركز الأمن المختص، إلا أن تعنت وزارة الداخلية التونسية وإصرارها على تعطيل عمل الصحافيين بدا جلياً بخاصة في زمن الناطق الرسمي المذكور. 

فهو أيضاً شارك في تعطيلي عن أداء عملي يوم واقعة الميناء المذكورة. فعندما اتصلت به هاتفياً يومها حتى أنقل له ما فعله الأمنيون هناك وحتى يتدخل لمصلحتي في ظل ظرف حساس يستوجب احترام عمل الصحافيين ومساعدتهم على نقل معلومة دقيقة، كان جوابه الآتي “كان عليك التقدم بطلب ترخيص لنا في الوزارة قبل 48 ساعة”. لست الوحيدة التي لا يروق لها تعاطي المسؤول المذكور مع مهماته، عشرات الزملاء لهم الرأي ذاته.

الدستور شيء والواقع أمر آخر

ينص الفصل 31 من دستور الجمهورية التونسية على أن حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة. ولا تجوز طبقاً للفصل ذاته ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات. أما الحق في الاطلاع على المعلومات فيؤكده الفصل 32، إذ تضمنُ الدولة الحق في الإعلام والحق في النفاذ إلى المعلومة. كما تسعى إلى ضمان الحق في النفاذ إلى شبكات الاتصال.

لكن واقع الصحافة التونسية للأسف مغاير تماماً للنصوص المذكورة والتي لطالما تباهى بها مسؤولون حكوميون في مؤتمرات وملتقيات وطنية ودولية. فما يعانيه صحافيو العاصمة هو نفسه ما يواجهه صحافيو الولايات الداخلية. لا فرقَ بين أن يُطلبَ منك كصحافي (ة) “ترخيص” لتصوير قاعة مسافرين في ميناء حلق الوادي وبين أن يطلبَ منك ترخيص لتصوير موظفي البلدية في ولاية القيروان (محافظة تقع في الوسط التونسي)، وهم يقومون بتعقيم الشوارع من فايروس “كورونا”.

مدينة الوسلاتية التابعة لمحافظة القيروان، تلاحق الصحافة أيضاً عبر المنع والمضايقة والمطالبة الإجبارية بتقديم الترخيص. الزميل ادريس بوراوي الصحافي المصور في “إذاعة صبرة اف”، أراد أن يصور في 16 آذار، مجريات عملية تعقيم أعوان البلدية شوارع في المدينة، إلا أن شرطي المرور منعه من التصوير وطالبه بترخيص. 

بوراوي ليس الوحيد أو الأخير، الزميلة إيناس همامي مراسلة “إذاعة موزاييك اف ام” في محافظة سوسة الساحلية، منعت هي الأخرى من تصوير عملية إخراج جثمان سيدة مسنة توفيت بسبب “كورونا” في مستشفى فرحات حشاد في سوسة. وتعرضت لعنف لفظي شديد اللهجة، وتلقت تهديدات صريحة ومباشرة من قيادي نقابي في المستشفى. كما منعها من التصوير وأكد أنه إذا رآها مرة أخرى في المستشفى سيتصل بالشرطة.

في اليوم ذاته أي 18 آذار، ما حدث في محافظة سوسة تكرَر في محافظة باجة شمال غربي البلاد مع الزميل محمد النفزي، الذي أشار لـ”درج” إلى أنه منع من تصوير ممرضات أعلنّ إضرابهن عن العمل بسبب نقص التجهيزات في مستشفى التوليد في باجة، في فترة صحية حرجة تمر بها البلاد.

الزملاء الثلاثة الذين أتينا على ذكرهم ليسوا حالات منفردة في انتهاك حقهم في حرية الصحافة منذ تفشي “كورونا”. جميعنا واجهنا الجملة الشهيرة ذاتها “هات الترخيص”. 

المفارقة العجبية هو أن جل موظفي الدولة التونسية “الساهرين على تطبيق قوانينها”، لا يفهمون قوانينها! وليسوا مطلعين إلا على واحد فقط منها، “قانون الترخيص”، متناسين القوانين الأخرى المتعلقة بالحريات العامة والفردية ولا ينطقون سوى جملة “هات الترخيص”.

 ولمن بالضبط علينا أن نتقدم بطلب ترخيص؟! من تجربتي وحدها كل السلطات المحلية تريد أن تكون مرجع النظر ومصدر الترخيص!

انتهاكات

الغريب أيضاً عن واقع الصحافة في تونس رغم تصدرها مؤشرات أعلى البلدان حرية في ممارستها، هو أن النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين تصدر تقارير شهرية ترصد انتهاكات حرية الصحافة منذ عام 2017، بما فيها منع التصوير وتضييقات شتى على ممارسة المهنة بحرية. إلا أن هذه التقارير تبقى حبراً على ورق طالما لم يتم التصدي حتى الآن لقانون الترخيص الذي لم يتعرف إليه في بادئ الأمر حتى محامي نقابة الصحافيين الذي طلبت استشارته يوم منعي من العمل.

القانون موجود، إنما لا أحد يحرك ساكناً. 

ولربما يصعب علينا اليوم ونحن محاصرون بالكورونا في بيوتنا تنفيذ حملات مناصرة إعلامية أو وقفات احتجاجية، اعتراضاً على ما نواجهه.

وربما تأخرت “نقابة الصحافيين” ومنظمات المجتمع المدني العاملة في مجال الدفاع عن حرية التعبير والصحافة، بعض الشيء في التحرك لإلغاء هذا القانون أو تعديله بما يسهل عمل الصحافيين ويضبط تطبيق القانون في “المنشآت العامة”.

أما حملة “الصحافة مش بالترخيص”، وإن تعطلت على الأرض، لكنها مستمرة افتراضياً، وهي تمثلني وتمثل زملائي الذين أخضعوا لامتحان القمع هذا في زمن “كورونا” البائس، في بلد نُحسَد فيه على حجم مساحة الحرية والتعبير المعطاة لنا.

إلا أن السلطات لا توفّر جهداً في محاولة برمجتنا وفق مزاجها وأجندتها وتوجيهاتها، فلربَما من السهل أن نحضر ندوات صحافية لرئاسة الحكومة ووزارتها وننصت لما تريد السلطة العتيدة أن تقوله وننقله للناس.

أما رصدُ حالة المنشآت العامة المتهالكة وتصويرها والحديث مع مواطنين وتوثيق شهاداتهم في أي مكان عام، فهذا يستوجب “ترخيصاً”.