fbpx

قصّة “بيت بوس” أو أوراشليم اليمن التي دمّرتها الحرب

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

القبائل والجماعات التي شاركت في بناء المدينة هي قبائل عربية يمنية تؤمن باليهودية، ولا تزال آثارها هناك. بيت بوس وقصصها وتاريخها الغنيّ، كل ذلك الآن مهدد بالاندثار، وليس من يسمع…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“نحن سبعة أفراد ولا نملك سوى ثلاثة لُحف لا تكفينا أو تحمينا من البرد”…

 كنت أفكر في اللحظات التي كان ينطق بها أحد أطفال القرية ذو السبعة أعوام بهذه الكلمات مسترسلاً في قصة معاناته اليومية التي تبدو بلا نهاية. كيف كان يجدر أن يكون شكل حياته؟ وماذا يفترض أن يكون أكبر همومه إن كان في أي بلد في العالم غير اليمن؟ يشير بيده إلى أعلى قاطعاً حبل أفكاري، “الليل فوق بارد والرياح لا تهدأ ووالدتي ترقد في إحدى الغرف غير المجهزة. تحتاج أمي إلى عملية طارئة لعينيها وأنا ووالدي نبيع “البَلَسْ – تين شوكي” كي نجمع قيمة هذه العملية”.

بيت بوس

مساكن مهجورة

يتحدث هذا الصغير عن منزل لجأ إليه مع عائلته بعدما هجره سكانه الأصليون، لأنه لم يعد صالحاً لتلبية احتياجات الفرد في الوقت الحاضر وأغلب الخدمات إن لم تكن كلها لا تصله بسبب وعورة الطريق المؤدية إلى هذه القرية. هذا المنزل وغيره من المنازل الواقعة على الأطراف الأولى لقرية بيت بوس تحتضن أسراً مشردة أوت إليها، بعدما اضطرت إلى ترميم بسيط وسطحي لبعض هذه المنازل التي ما زالت صالحة للعيش بشكل نسبي، فيما هدمت عشرات الأبنية والبيوت كلياً. ولم يكن أمام هذه العائلات خيار آخر سوى القبول بالمنازل كما هي، حتى لا تتوسد أرصفة الطرق في زمن الحرب هذا.

ترك يمنيون كثيرون منازلهم أو تم تهجيرهم عنوة وشُردوا في مختلف المناطق. وبلغ عدد النازحين داخلياً حوالى 4 ملايين شخص بحلول نهاية عام 2019 بحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة.

أما هذه القرية فقُرنت في الروايات باليهود، إذ تقول مراجع إنها كانت خاصة بهم لكنهم كانوا متجاورين مع المسلمين وسميت القرية بهذا الاسم نسبةً إلى الجد “ذو بوس بن سحر بن شرحبيل”، ويقال أيضاً نسبة إلى اليهودي “بوس” أول من سكنها وعمرها. فقد هجرها سكانها الأصليون بعدما بدأ منفذ الماء الوحيد يجف، وهو عبارة عن سد ضخم كبير يحجز الأمطار ويدعى سد كمران. واستمر الحال هكذا حتى عصر الإمام الهادي الذي اقترح على اليهود بيع أراضيهم بصكوك وبصائر مؤرخة مقابل نقلهم إلى تجمعات أكبر في صعدة وريدة وبآجل بعدما تضاءل عددهم كثيراً، جراء الهجرات الخارجية إلى فلسطين. فكر الإمام الهادي بتجميعهم لتتسنى لهم إقامة صلواتهم وأعيادهم وتقاليد السبت، فوافق يهود بيت بوس على ترك المنطقة وبالفعل انتقلوا إلى صعدة.

مساكن اليهود

حصن المشردين

حصن بيت بوس أحد الشواهد على تعاقب الحضارات التاريخية العريقة على اليمن وهي قرية تقع في الجنوب الغربي من العاصمة صنعاء ويعود بناؤها إلى القرن 18 قبل الميلاد، تمتد القرية على مساحة جبلية يبلغ طولها قرابة نصف كيلومتر، وتتكون من نحو 200 بيت مبني من الحجر الأحمر من طبقات عدة، وتم تشييده على قمة الجبل من أحجار الجبل نفسه وهذا دليل آخر على التمايز المعماري لدى اليمني الأول الذي كان ينحت أعالي الجبال مساكن له، “تحصناً”، ويترك الأودية للزراعة والرعي. من يحدّق بهذه القرية من بعيد يخيل له أنها قوس رباني مشيد بطريقة مدهشة، فلا منافذ فيها من الشمال، الشرق والغرب، لها منفذ وحيد في الجهة الجنوبية حيث كانت توجد بوابة خشبية اختفت قبل سنوات كما يروي أحد سكان القرية. كانت مثالية جداً للتحصن ضد العدو الخارجي على مدى الحضارات التي مرت عليها واستخدمت أحياناً معتقلاً لشخصيات مهمة أو شديدة الخطورة.

هذه القرية الآن تأوي قرابة 33 عائلة من مختلف المحافظات المتضررة

جراء الصراع القائم في اليمن منذ خمس سنوات.

خطر محدق

تتميز القرية على رغم قدمها بتنظيم مدني لافت وتقسيم حديث لشؤون الحياة، فأسواقها المتخصصة على طول القرية في الأطراف تعكس النهضة والتطور التي ألفهما اليمني في وقت مبكر. هذه الأسواق دُمرت منذ سنة بعدما صمدت قروناً أمام تجاهل الجهات المسؤولة التي سمحت لعوامل التعرية بأن تنهشها وتنال منها قبل أن يتم اكتشاف خبايا التاريخ التي توارت خلف تعرجات أحجار القرية.

جاءت الحرب لتهدد المكان مرة أخرى بعدما أحيته هذه الأسر، فقد استهدفت المنطقة طائرات التحالف العربي، وبرر التحالف هذه الجريمة بوجود معسكر قرب المكان وهذا خرق للاتفاقية التي أقرها المؤتمر العام للأمم المتحدة في باريس عام 1972 والتي تنص في المادة 6 في الفقرة 3، على تعهد كل من الدول الأطراف في هذه الاتفاقية على ألا تتخذ متعمدة أي إجراء من شأنه إلحاق الضرر بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالتراث الثقافي والطبيعي الواقع في أقاليم الدول الأخرى الأطراف في هذه الاتفاقية.

وفي المادة 4 من اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح، وفق الفقرة الأولى، فإن الأطراف السامية تتعهد باحترام الممتلكات الثقافية الكائنة سواء في أراضيها أو أراضي الأطراف المتعاقدة الأخرى، وذلك بامتناعها عن استعمال هذه الممتلكات أو الوسائل المخصصة لحمايتها أو الأماكن المجاورة لها مباشرة لأغراض قد تعرضها للتدمير أو التلف في حالة نزاح مسلح وبامتناعها عن أي عمل عدائي إزاءها.

“كان هنالك كنز مدفون هنا اكتشفه كلب السفير الألماني الخارق” هكذا يقول أحد شبان هذه القرية الآتي من محافظة الحيمة بعدما اشتدت الحرب في منطقته وانقطعت سبل العيش، “قبل 20 عاماً تقريباً جاء السفير الألماني وحاشيته في رحلة استكشافيه للمكان وكان معه كلب مدرب قام بكشف وجود الكنز في جدار هذا المنزل وعندما حفروا وجدوا كمية من الحلي والمجوهرات التي كانت دفنت هنا منذ مدة طويلة”. لم تكن عملية الاستكشاف هذه تحت رقابة الحكومة اليمنية بحسب ما يقول لنا هذا الشاب الذي سمع بقصة الكنز فور وصوله إلى المنطقة..

كتابة حميرية

اندثار

“قبل عامين كنت أجلس هنا أستمع لبعض الموسيقى المحلية عبر الراديو، وفجأة تم تدمير السوق” يروي لنا شاب نازح شهد تحطم سوق القرية المصمم على امتداد طولها، والذي كانت دكاكينه مقسمة بحسب الخدمات التي تقدمها، وكان أصحاب القرية يتجمعون يوم الأربعاء من كل أسبوع للشراء والبيع كمهرجان صغير جرت العادة على إقامته منذ نشوء هذه القرية.

لم تهتم الدولة بالمنطقة منذ عصر الطاهريين، وصارت القرية منسية ومستثناة من الدراسة والتنقيب، على رغم الغموض والأساطير التي تحاك حول هذه المنطقة، أبرزها الدراسات التي أجراها عدد من الأشخاص منهم الباحث فاضل الربيعي (عراقي الأصل)، الذي قدّم مؤلفات لتصحيح التاريخ بحسب قوله. شكلت مؤلفاته حلقة أوسع وقراءات أعمق في علاقة الدين اليهودي وتاريخه في جزيرة العرب عموماً، واليمن خصوصاً، وهو يعتمد في أبحاثه على التوراة المكتوبة باللغة العبرية من خلال مطابقته بين النص التوراتي والحدث التاريخي وحركات الكلمات ما بين اللغة العبرية واللغة العربية، وكذا روايات الهمداني “الإكليل وصفة جزيرة العرب” وغيرها من المراجع التاريخية. وفي مؤلفه “القدس ليست أورشليم” طرح فكرة أن القدس وأورشليم ليستا المكان ذاته، بل إن أورشليم المذكورة في التوراة التي عاد إليها المنفيون وباشروا أعمال البناء في أسوارها المهدمة هي بيت بوس اليمنية. وتتجلى المفارقة الكبرى حين ندقق في قائمة أسماء القبائل والجماعات التي شاركت في بناء المدينة؛ فهي قبائل عربية يمنية تؤمن باليهودية، لا تزال آثارها هناك.

بيت بوس وقصصها وتاريخها الغنيّ، كل ذلك الآن مهدد بالاندثار، وليس من يسمع.