fbpx

عن الفايروس المريض اللئيم المتسلّط الكاره لطقوس الحياة والحب واللمس

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تستقبلني ابنتي على الباب عند عودتي ، ألوّح لها وأطلب منها أن تبتعد. هي تريد تقبيلي وأنا لا أريد منها الا أن تبتعد. أهرع إلى الحمام وابدأ بعملية الاغتسال. ولا أعود أعرف ما اذا كنت أقوم بعملية غسل للفيروس أو أغسل عني ذنوبي…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“بدأت الفتاة تركض في البيت، صار البيت مثل دائرة، الفتاة تدور وتدور، وكل ساعات البيت توقفت عند الثالثة صباحا.” (ص. 385، “كأنها نائمة”).

بين النوم واليقظة، طيف يغير شكله وعمره بين الصفحات. هكذا كانت “ميليا”، الشخصية الرئيسية في رواية الياس خوري “كأنها نائمة”،  وهكذا أصبحتُ منذ الحجر الصحي الاجتماعي-العاطفي الذي فرضه علينا فيروس كورونا منذ أكثر من عشرين يوماً. 

فيروس مريض، يعاني من الهوس الانطوائي وغير متصالح مع اللمس والحب وأي شكل من أشكال الدفء.  يكره التواصل العابر للأجيال ويحرّم الاختلاط. يريدنا جميعا أن نتقيّد بآداب الأكل السخيفة، فيأكل كلّ في صحنه ونبتعد عن “التغميس”. يُحبّ المتحفظين اجتماعياً، لا يريدنا أن نتصافح ويريدنا أن نبتعد عن الاحضان، حتى القبلة الهوائية قد تطيّر بعضا من رذاذه. يدعونا أن نبتعد عن أي مظاهر احتفالية، فلا نمارس الرقص الجماعي، التانغو يبغضه بسبب تلاصق الوجنتين والدبكة لا ترضيه ففيها تشابك للأيدي يرفضه. 

اعتقدنا أن ابتعادنا عن مظاهر الاحتفال سيرضيه، ولكن لا. فحتى طقوس العزاء يستكثرها علينا. أكتب هذا وأنا أتمتم بحذر شديد بعض الجمل التي حفظتها عن غيب، جمل أتوقع منها أن تحمي عائلتي وأن تحميني كأم لطفلة لا يتعدى عمرها الثلاث سنوات.

 أسمع خبطات ابنتي على باب الحمام وتناديني. تريدنني أن أفتح الباب لاحتضانها. وأخيراً، أفتح الباب وأحضنها. حضن مصحوب بموجة عارمة من الذنب. هل أنا كائن قابل للاحتضان؟ ألم يكن من المستحسن أن أغسل يدي لمرة رابعة.

أعيش كطيف “ميليا”. يقظتي أشبه بمرحلة مغزل النوم، أي المرحلة التي يبطأ فيها الدماغ، وتنخفض فيها درجة حرارة الجسم تدريجياً وتنخفض أيضاً ضربات القلب. 

في رواية الياس خوري هذه، ننظر إلى الصفحات وسط ضباب كثيف يمنع عنا الرؤية ونفشل في تحديد الخط الفاصل بين الموت والأحلام والمعاش ومع الوقت نستسلم للصور والأحداث غير آبهين بتحديد طبيعتها. 

وهذا ما يريدنا هذا الفيروس المتسلّط أن نفعله. يريدنا أن نستسلم للنمط والقيم التي حددها، وأن نعيش في حجرنا الاجتماعي-العاطفي داخل خط واحد يفصل حدود بيتنا والعالم الخارجي ريثما يشفى ويتعافى هو من انطوائيته ويكشف عن الحمض النووي الريبي الذي يعرّف عنه. 

ومن حجري أكتب. وحدها الأرقام تسيطر على إيقاع حياتي. لم يعد للأسامي أي معنى، فلا الاثنين اثنين ولا جمعة جمعة. هي أيام لا لون لها ولا طعم، هي أشبه بالساعات، ساعات متوقفة ولكنّها مرقمة، ومرقّمة لضرورات محض غذائية. كأن أستيقظ صباحاً وآكل سندويش لبنة بالزيت والزيتون وأؤجل صحن الملوخية لموعد الغذاء والسلطة للعشاء. والأرقام التي تسيطر على إيقاع حياتي هي أيضاً تلك التي تتعلق بحركة الفيروس الأخطبوطي، خريطة امتداده وخريطة سيطرته على أجساد أفراد لهم أحباء وأصدقاء. 

الفيروس اللئيم لا يريدنا أن نتواجد في الأماكن العامة. يريدنا أن ننزوي. أن نتوارى عن الأنظار. فعل واحد يحافظ على وجودنا، وهو أن لا “ننوجد” خارج عتبة بيتنا. أن نصبح كالخيال، غير قابلين للمس والتقبيل والاحتضان. وكلمة “ننوجد” ليست فعلاً، فهو يريدنا أن نمارس نقيض الفعل، أن لا نفعل ولا ننفعل ولا نستفعل. أي فعل وانفعال يخفض من مناعتنا. يريد منا الجمود، هذا الجمود الذي اعتدنا أن نساويه بالموت. يريد منا موتاً أشبه بالسريري ولكن على امتداد حدود بيتنا. 

الفيروس اللعين يمارس علينا أقسى أنواع الهوس الاجتماعي.

والفيروس المريض يريدنا أن نمارس موتاًَ منزلياً مشبعاً بالذنب. أن نبتعد من الذين نحبهم خوفاًَ عليهم من حبنا. أن نشتاق دون أن نعبّر، أن نكون منزوعي الشوق وأن نمارس حالة من الجفاء. كل حركة خارج هذا الحجر-السجن، هي حركة مشبعة بالذنب، نعود منها لنغتسل. تستقبلني ابنتي على الباب عند عودتي من كل مشوار ضروري، ألوّح لها وأطلب منها أن تبتعد. هي تريد تقبيلي وأنا لا أريد منها الا أن تبتعد. أهرع إلى الحمام وابدأ بعملية الاغتسال. ولا أعود أعرف عما اذا كنت أقوم بعملية غسل للفيروس أو أغسل عني ذنوبي. أنزع عني ثيابي بسرعة المذنبات وأغسل يدي مرة واثنتين وثلاثة. ثم أغسل وجهي بالصابون، صابون ديتول. وأفرك. أسمع خبطات ابنتي على باب الحمام وتناديني. تريدنني أن أفتح الباب لاحتضانها. وأخيراً، أفتح الباب وأحضنها. حضن مصحوب بموجة عارمة من الذنب. هل أنا كائن قابل للاحتضان؟ ألم يكن من المستحسن أن أغسل يدي لمرة رابعة. أما زوجي، فأنظر إليه وألوح له من بعيد. أريد لواحد منّا – على الأقل – أن يعيش ليهتم بابنتنا.

ومنذ أن بدأت طقوس الحجر العاطفي-الاجتماعي، وأنا أدور في البيت. أتحرّك في جمودي وأمارس كل أشكال الحب العذري. الطبخ. هذه الحركة التي تصنع من المواد الجامدة مواداً قابلا للحياة، فتتفتّح المواد وتختلط وترتفخ وتغير ملامحها وتتبرّج لتصبح أطباقاً جديدة منبعثة الحياة. قابلة للشم والتذوق وممتعة للعين أحياناً. أفكر في أعقد الطبخات، تلك التي تتطلب مني حركة أكبر وجهداً مضاعفاً وانتظاراً أطول. تلك التي قد تحترق وأنا انتظرها، فتنشر في الجمود رائحة جديدة. تلك التي تعيد إلينا شكلاً من أشكال الإنتاجية، تلك الأقرب إلى الأعمال البدائية الغرائزية. فالطبخ يتطلب مني إشعال النار، وقد كان تحكم البشر في النيران بمثابة نقطة تحول في الجانب الثقافي للتطور البشري..

وها أنا أخبر الفيروس أنني ما زلت قادرة على اشعال النيران وأن أعود إلى البداية، والبداية لي هي الخبز، من خلاله أصفّر العداد. أشعل نار فرني الصغير وأنا أفكر بالفيروس اللئيم والنمرود والمتسلط. يحدد لنا من نعانق ومن نقبل ومن نصافح، ومن علينا أن نكتفي بنظرة خاطفة صوبه وأن نتوجس عندما يقرع باب بيتنا… فيروس يشبه تسلط رجال الدين تجاهنا نحن النساء.

اليوم عيد ميلاد أمي، وقد قرر الفيروس أنه علي أن أكتفي بمعايدة تلفونية، مثلي مثل أختي وأخي المهجّرين. فيروس يريدنا كلنا أن نصبح مهجرين، ولعل هذه هي العدالة الوحيدة التي تتحقق. أن نصبح جميعنا مهجرين في مدننا وبلداننا كما هجروا عشرات الملايين من البشر.