fbpx

“زيارة أخيرة لأم كلثوم”: عن الحقبة الساداتيّة وطبّاخُ السُّم يَذوقهُ

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أتى متن رواية “زيارة أخيرة لأم كلثوم” مختلفاً عن العنوان المراوغ الذي يحيل القارئ إلى كوكب الشرق. واختار علي عطا لبطله (حسين عبدالمجيد)، مريضاً؛ يعاني من اكتئاب مزمن، سبق له أن دخل المصّحة النفسيّة ثلاث مرّات.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بحفاوة وإعجاب استقبل النقّاد والقرّاء رواية “زيارة أخيرة لأم كلثوم” الدار المصريّة اللبنانيّة – 2020) للصحافي والشاعر والروائي المصري علي عطا. وهي تستحق ذلك. وحين انتهيتُ من قراءتها، خلصتُ إلى رزمة الانطباعات والنتائج، منها؛ أنها تلخِّصُ سيرة مدينة المنصورة المصريّة، على لسان المواطن المصري حسين عبدالمجيد؛ الصحافي في جريدة “العرب اليوم”. وأن التحولات الاجتماعيّة، الاقتصاديّة، السياسيّة، الثقافيّة، العمرانيّة…الخ التي طرأت على المدينة وناسها، وتفاصيلها، يمكن اعتبارها انعكاس لمثيلاتها التي طرأت على مصر. هكذا، أراد علي عطا في روايته هذه، التأكيد على أن الحديث عن شجرة يمكن أن يكون حديثاً عن غابة بأكملها. والحديث عن مدينة، هو في الأصل حديث عن بلد بأكملهِ. وبالتالي، رواية “زيارة أخيرة لأم كلثوم” هي رواية المدن – البلدان، ورواية الأشخاص – الشعوب والمجتمعات. فبطل الرواية يمثل قلق ورعب ومخاوف الطبقة المتوسّطة المتواضعة الطموح، التي تخشى الانحدار نحو الفقر، وفقدان القليل الموجود في حوزتها، بفعل ما يجري في البلاد من أزمات وممارسات وسياسات ينتهجها النظام الحاكم الذي يعتبر الشعب والمجتمع حقل تجارب وحسب.

غلاف رواية “الزيارة الأخيرة لأم كلثوم”

أتى المتن في الرواية مختلفاً عن العنوان المراوغ الذي يحيل القارئ إلى كوكب الشرق “أم كلثوم”. واختار علي عطا لبطله (حسين عبدالمجيد)، مريضاً؛ يعاني من اكتئاب مزمن، سبق له أن دخل المصّحة النفسيّة ثلاث مرّات. يكتب حسين رسائل إلى صديقهِ طاهر الموجود في المهجر. الرواية موزّعة 199 صفحة من القطع المتوسّط، قسّمها كاتبها على 68 مقطعاً. يسرد فيها ما يشبه اليوميّات التي تنطوي على جوانب من سيرته؛ ذكريات الطفولة، الشباب، الدراسة، الهجرة إلى السعوديّة والعمل هناك، العودة للبلد، لحظات الحب، الزواج، العلاقة مع الأب، الأم، الأخوة، الوسط الثقافي، فضلاً عن عرض أفكاره ومواقفه من بعض التجارب السياسيّة والشخصيّات والزعامات (عبدالناصر، السادات، مبارك، الإخوان، الإسلام السياسي) وذكر تفاصيل سيرة مدينة المنصورة؛ الأحياء، الشوارع، الأسواق، التي تشبه إلى حدٍّ ما سيرة مصر، كما أسلفنا. والبطل السارد يعاني من اضطراب نفسي. ذلك أن الكاتب افتتح الرواية في مستهلّ الفقرة الأولى قائلاً: “قلبي منقبض. منذ أن قررت الإقامة في غرفة مستقلّة، تكرر استيقاظي على صوتٍ واضحٍ لشخص أعرفه. يبدو من صوتهِ أنني أعرفه. يأتي الصوت من ناحية الباب، فأفزع، وأنظرُ صوبه، فلا أجدُ سواي. تكرر ذلك ولكنني لم أتمكّن أبداً من تحديد صاحب الصوت الذي يوقظني من النوم مفزوعاً، رغم اعتقادي بأني حتماً أعرفه. مرّة يكون الصوت لرجل، ومرّة يكون لامرأة، وثالثة لطفل أو طفلة، وأحياناً يكون لأكثر من شخص” (ص 7). وفي الفقرة 68 الأخيرة من الرواية، يقول البطل: “يتكرر الحلم: أراني أسير عارياً في شوارع أعرفها، وسط ناسٍ أعرفهم. أتوسّل إليهم صامتاً ليسترني أحدهم” (ص 196). وهذه الفقرة هي فقرة الأحلام – الكوابيس، إلي ينهي الكاتب بها محنة بطله (حسين) اليوميّة مع النوم، واضطراره إلى قرص مُهدئ؛ “سيروكويل 25” الذي عادة ما يستخدمه الذين يعانون من “انفصام الشخصيّة” أو “الهوس المختلط”، “الاكتئاب”…الخ. وعليه، البطل قلق ومضطرب في يقظته، يجافيه النوم، وحين يحصل على النوم عبر تناول المهدئات، تزوره الكوابيس! كأنَّ علي عطا يريد القول: إن أفضل من يمكنه الحديث عن بلد مضطرب، هو شخص مضطرب. أو أن مواطني البلدان المضطربة هم أيضاً يعانون من اضطرابات نفسيّة. ومع ذلك، لم نعرف تواريخ دخول البطل المصحّة النفسيّة، وفترات بقائه فيها؟!

مديح السادات

رغم ذكر عطا أسماء العديد من الزعامات التي مرّت على مصر؛ الملك فاروق، عبدالناصر، السادات، مبارك، مرسي، إلاّ أن “زيارة أخيرة لأم كلثوم” تتجاهل تماماً ذكر الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي الذي انقلب على حكم الإخوان المسلمين في مصر، واستلم السلطة منذ سبع سنوات!

تكاد تكون هذه الرواية مديحاً للحقبة السادايّة من تاريخ مصر الحديث، لولا بعد الانتقادات المتعلّقة بفتح السادات المجال أمام الإسلام السياسي ليكون عصاه الضاربة في مواجهة قوى اليسار في مصر. بخاصّة بعد انفتاحه على أمريكا. وكيف انقلبَ السّحرُ على السَّاحر، وأصبح السادات ضحيّة سلاحه؛ “الإسلام السياسي”، في ما يشبه المقولة الدارجة: “طبّاخ السمّ يذوقه”. 

الروائي علي عطا

مدح علي عطا السادات على مستوين؛ الأوّل؛ غير مباشر، بذمّ ونقد جمال عبدالناصر والحقبة الناصريّة بشدّة، على أن ما جاء بعده كان أفضل. وكأن الكاتب يريد تحميل نظام عبدالناصر مسؤوليّة تفشّي الإسلام السياسي، وليس السادات وحده، أثناء حديثه عن منعرجات العلاقة بين عبدالناصر والإخوان، من وئام إلى خصام إلى صِدام، بقوله: “فاشيّة عبدالناصر وجماعتهُ لا تختلف كثيراً عن فاشيّة البنّا وجماعته، فطبيعي أن يتناغما، حتّى تتضارب المصالح، ولم يكن حمزة البسيوني وصلاح نصر بأقلّ إرهاباً من عبدالله السندي، قائد الجناح المسلّح والتنظيم السرّي للجماعة. الفارق الوحيد يتجلّى في كيفيّة اختطاف مصر، وقتل الأبرياء بين السرّ والعلانية” (ص77).

ومدحت الرواية، السادات بشكل مباشر، في الكثير من الأماكن، مع ذكر بعد أخطائه القاتلة. جاء المديح على لسان حسين عبدالمجيد: “استقال عدد من مساعدي السادات احتجاجاً على رفضه رؤاهم السياسية، لكن بعضهم أقرأ بعد مرور نحو أربعين عاماً بأن السادات كان بعيد النظر، ولولا ذلك، لظلّت سيناء محتلّة حتى الآن” (ص89). من دون أن يذكر اسماً واحد من هؤلاء الذين تراجعوا عن انتقادهم للسادات!؟ ثمّ عاد وكرر نفس الفكرة، في إطار مديح “كامب ديفيد” وقال: “شكراً لاتفاقيّة استعدنا بها سيناء. بعدما ثبت أن الحرب لم تفلح في استعادتها كلها. وصدق من قال: إنه لولا حرب 73، ومن بعدها التفاوض، لكانت سيناء لا تزال محتلة” (ص153). أيضاً لم يذكر صاحب القول؟! كذلك كرر نفس الفكرة في الصفحة 160 بقوله: “لو لم تبرم اتفاقيّة السلام، لبقيت سيناء محتلّة حتّى اليوم”! كل هذا التكرار في المديح والتأكيد عليه، لم يثلج صدر الروائي، بل زاد في ذلك على لسان خالة الراوي (أم كلثوم): “كانت خالتي أم كلثوم، يا طاهر، تفتخر بأن السادات هزمه (موشي ديان) مرتين، الأولى في الحرب والثانية في مفاوضات السلام” (ص88-89). ولم يذكر الراوي هل خالته متابعة وسياسيّة حتى تعرف تفاصيل مفاوضات السلام، وهل كان ديان مشاركاً فيها أم لا؟!

أثناء حديثه عن تجربة أنو السادات، يذكر الكاتب معلومات، ويحيل القارئ إلى ما يشبه المصادر. وقال في الفقرة 24، الصفحة 74: “في عام 1972، أعلن السادات أن 99% من أوراق حل مشكلة الشرق الأوسط في يد أمريكا (…) تلك المعلومات يا طاهر هي من ضمن ما أفرج عنه من وثائق أمريكيّة، حسب ما أفاد مقال لمؤرّخ مصري يحظى بقدر عالٍ من المصداقيّة”. لفت انتباهي عدم ذكر الكاتب اسم المؤرّخ، والجدوى من ذلك؟ علماً أنه ذكر أسماء روايات وأفلام، بأسماء أصحابها؟! ومع إدخالي العابرة المقتبسة؛ في عام 1972 أعلن السادات أن 99% في محرّك البحث، اكتشفت صاحب المقالة – الدراسة؛ عمرو صابح، منشورة يوم الأربعاء 17 أكتوبر 2017، تحت عنوان “السادات محارباً ومفاوضاً 1970-1975”.

في نفس الفقرة (24)، أيضاً يستشهد عطا بمقولة لمفكِّر مصري: “أظنّ أن عمره تجاوز الثمانين عاماً” (ص75)، ويضع المقتبس بين ظفرين – مزدوجين، دون ذكر اسم المفكّر! فهل يعقل أنه أثناء الاقتباس، لم يلحظ الروائي اسم المفكّر المصري الثمانيني المعني؟! بخاصّة أن المقتبس يشير إلى العلاقة بين السادات وجماعة الإخوان المسلمين. وهذا موضوع حسّاس ومتفجّر، وبالغ الأهميّة.

ثورة 25 يناير

في وقت نشهد فيه محاولات شيطنة وأبلسة ثورة 25 يناير من قبل الإعلام الرسمي في مصر، والإعلام (المستقلّ) الموازي له، نجد علي عطا، شأنه شأن الكثير من المبدعين المصريين الذين ما زالوا على احترامهم وتقديرهم لثورة يناير العظيمة التي لم يسقط فيها ضحايا كما سقطوا في الثورة الفرنسيّة، وثورة أكتوبر في روسيا. وإن مجيء الإسلام السياسي للحكم، لم يكن سببه ثورة 25 يناير، بل النظام الحاكم في مصر، والدولة العميقة في مصر. وهذا ما سنراه في أماكن عدّة في الرواية. واعتبر عطا، طريقة تنحي مبارك أنها أتت “تحت وطأة الالتفاف على الثورة لوأدها” (ص12). وأشار الكاتب إلى حدث دراماتيكي، ربما لن يتكرر في مصر، وهو أن رئيس أسبق، مخلوع (مبارك)، يشهد ضد رئيس سابق، معزول (مرسي)، في قاعة المحكمة. لكن عطا، وعلى لسان الراوي، يشير إلى عدم تصديق رواية مبارك: “سمعته يحكي عن 800 مسلّح تسللوا من غزّة واقتحموا السجون ووصلوا إلى ميدان التحرير، واعتلوا أسطح البنايات ليطلقوا النار على الحشود. عن نفسي، لم أصدّقه” (ص19).

تكاد تكون هذه الرواية مديحاً للحقبة السادايّة من تاريخ مصر الحديث، لولا بعد الانتقادات المتعلّقة بفتح السادات المجال أمام الإسلام السياسي ليكون عصاه الضاربة في مواجهة قوى اليسار في مصر.

وهكذا، كأيّ دردشة بين صديقين، يذكر الراوي انطباعاته وملاحظاته وأفكاره حيال كتب قرأها، أفلام شاهدها، بوستات كتبها، أحداث كان شاهداً عليها…الخ، كرواية “صورة عتيقة” لإزابيل اللندي، ويذكر رأيه فيها، وينتقد الخاتمة، وزج الكاتبة نفسها في السرد. وينشر فقرات من الرواية في رسالته إلى طاهر. (ص17). ومع المتعة الموجودة في هذه الرسائل، أعتقد لو أن الرسائل كانت من طرف طاهر أيضاً، لازدادت نسبة المتعة والحيويّة في الرواية.

أزمة الصحافة

علي عطا الذي كان يعمل محرراً ثقافيّاً في مكتب صحيفة “الحياة” في القاهرة، يلمّح في روايته هذه، إلى أزمة تلك الصحيفة التي أغلقت، (دون ذكر اسمها) وما زال موظفّوها وكتّابها لم يتقاضوا مستحقّاتهم الماليّة من مالكها الملياردير السعودي. يذكر عطا هذه الأزمة، على لسان بطل الرواية حسين الذي يعمل في مكتب صحيفة “العرب اليوم” وكالة “المحروسة” للأنباء: “العام نفسه ينقضي، وأزمة جريدة العرب اليوم، لا تزال على حالها. لا نقبض مرتّباتنا. والمستكتبون مضى نحو عامين على آخر مرة تستلّموا فيها شيكات. والكبار في الإدارة والتحرير لم يعودوا كباراً. يدٌ خفيّة سلبتهم بالتدريج ما كان يضعهم في خانة مَن يقررون. باتوا بلا حول ولا قوة” (ص18-19). ويذكر أيضاً: “التعثّر المالي غير المفهوم للجريدة” (ص62). “العرب اليوم نفسها مهددة بالتوقّف. لم تعد تطبع في أي مكان. الطبعة الدوليّة توقّفت. لم يعد هناك سوى الطبعة الخليجيّة الالكترونيّة” (67). وحين يذكر عطا أن “… والكبار في الإدارة والتحرير لم يعودوا كباراً. يدٌ خفيّة سلبتهم بالتدريج ما كان يضعهم في خانة مَن يقررون. باتوا بلا حول ولا قوة”، فهو يشير إلى المقام والسلطة والسطوة التي يمكن أن يمنحها له عمله في صحيفة مهمة، دون أن يكون أهلاً لذلك. 

وفي السياق ذاته، ينتقد عطا واقع الصحافة والصحافيين في مصر

“تأتي مصر بعد الصين كأكثر دولة تسجن الصحافيين. طبعاً حكاية السجن هذه سخيفة جداً. (…) فقدان الصحافيين في بلادنا لمصادر رزقهم، في ظل توالي توقف صحف عديدة عن الصدور، وإغلاق مواقع صحف الكترونيّة وفضائيات كانت تستوعب مئات الصحافيين. هناك حالات إغلاق بقرار من الهيئة، التي يقال انها مستقلة، والمكلفة بالارتقاء بالمهنة. أما النقابة، تستطيع أن تقول إنها تقف مكتوفة الأيدي أمام محنتنا” (ص69).

اشتباك ذهني

أحياناً، تداخلت المواضيع والاستحضارات بعضها في بعض، ما يشير إلى نوع الشواش الذهني أثناء تدفّق الذكريات ومحاولة سردها. ظهر ذلك في أكثر من مكان في فقرات الرواية الـ68. على سبيل الذكر لا الحصر؛ في الفقرة 6. يفترض بالراوي أنه يفتتحها بالحديث عن ذكريات “عزبة عقل”، بقوله: “تلحُّ عليك يا حسين ذكريات عزبة عقل، خصوصاً عامكَ الذي بدأت تغادر فيه طفولتك” (ص24). وبالتالي، يفترض أن الراوي يتكلّم مع نفسه. وسيركّز في تداعياته ومنولوجهِ الداخلي على ذكريات العزبة، بخاصّة حين بلغ سنّ الثامنة عشرة، واحتفاله بعيد ميلاده أوّل مرّة سنة 1981. ولكن، نراه يقفز إلى سنة 2018، ليتحدّث عن ابنه باهر، واحتفاله بعيد ميلاده الثامن عشر، على “أنغام زاعقة لأغاني المهرجانات”. مع إجراء المقارنة بين الاحتفال القديم والجديد، وبين الجيلين، وطرح استمراريّة السؤال القديم عن الأمل في حياة أفضل، وهل انتقل السؤال إلى ابنه؟ ثمّ، ما يلبث الراوي أن يتجه للحديث مع صديقه طاهر، والتعبير عن حيرته “إزاء تحوّل دعاء (زوجته)”، وذكر مواليدها وأنها من برج الأسد، وهل لهذا دلالة على تحوّل سلوكها؟ وأنها كانت تقول: إن (حسين) يكبرها بسنة. ويذكر تفاصيل أخرى، عن تعليمها المتواضع، وأنها لم تكمل الابتدائيّة، وأنه لا يراها في الحلم إلا على الصورة التي سبقت زواجهما. ثم يتحدّث عن سنة 2018 أنها بدأت وانتهت، وهما لم يناما على سرير واحد. ثم يتحدّث عن علاقته بأبيه. وبعدها، يذكر عمله في بيع حبوب الهلوسة، في “كُشك الخواجة ميشيل” حين كان في المرحلة الإعداديّة. ثم يشير إلى التفاصيل الموجودة على جانبي شارع السكة الجديدة – شارع الثورة. ونتفاجأ بالقفز مجدداً في اتجاه سنة 2018، وقبل نهايتها بشهرين، والحديث عن الأسطى إبراهيم السمكري، حين ذهب إليه الراوي بسيارته المدمّرة من الخلف، إثر حادث، تسبب فيه ابنه باهر، أثناء قيادتهِ السيّارة. وحديث السمكري عن كلفة التصليح (20 الف جنيه). ويختتم الكاتب، على لسان الراوي الفقرة رقم 6 بالتالي: “أما أعجب ما حديث مع إبراهيم السمكري، فهو أنه قال لي فجأة، وأنا أهمُّ بمغادرة ورشته: أنا ليا عندك طلب. عاوزك تشوفلي واسطة عشان اشتري كرنيه نقابة الصحافيين” (ص27). 

هذه الفقرة التي تتألّف من ثلاث صفحات ونصف من الرواية، قفز فيها الراوي من 1981 إلى نهاية 2018 لم يرد فيها أيّ شيء من ذكريات عزبة عقل، (التي كانت تلّحُ عليه) باستثناء ذكر الحديث عن احتفاله بعيد ميلاده أوّل مرّة! زد على هذا وذاك، يبدأها الراوي بالحديث مع نفسه، ثم ينتهي بالحديث مع صديقه طاهر؛ عن نفسه وابنه وزوجته وأبيه وإبراهيم السمكري!؟

تكرار

في الغالب، أتت لغة الرواية أنيقة وسلسة وغير متكلّفة محشوّة بالبلاغة، بل مطعّمة بالعاميّة المصريّة. لكن أحياناً، شابت اللغة نوع من الرخاوة والاهتزاز والارتباك البنائي، وتوحي وكأنّها لم تخضع للمراجعة الكافية. ففي الفقرة 22 التي هي عبارة عن صفحة واحدة فقط من الروايّة، إذا ما جمعنا النصّ الموجود في الصفحتين (70 و71)، نجد أن الكاتب استخدم الفعل الماضي الناقص “كان” 11 مرّة. وذكر نفس الفعل في الصفحة 152، عشر مرّات! وهذه مسألة تتعلّق بإعادة تحرير النصّ. وأغلب دور النشر العربيّة لا يتوفّر فيها محرر أدبي مختصّ، وجود لمساتهِ على النصّ، ليس انتقاصاً من المؤلّف أبداً. ما يعني أن فقرات الرواية المسبوكة والمحكمة المتينة، والفقرات الرخوة، توحي وكأنّ هناك شخصان كتابا الرواية، وليس شخص واحد.

كذلك أثناء الحديث عن عزبة عقل والمنصورة، في الفقرة 16، الصفحة 55، نجد المعلومات والعبارات مكررة بنسبة 90 في المئة في الصفحة 147، مع اختلافات طفيفة، منها؛ المخاطب في الصفحة 55 هو طاهر (صديق البطل)، والمخاطب في الصفحة 147 هو ماهر (شقيق البطل). ومن لديه نسخة ورقيّة أو PDF الرواية، يمكنه التأكّد من ذلك. والسؤال هنا: ما الداعي الفنّي والأدبي والجمالي للحديث عن عزبة عقل والمنصورة مرتين، بنفس العبارات والمعلومات في مكانين مختلفين ضمن رواية واحدة؟ 

في الفقرة 26، الصفحة 79، يكرر ما ذكره الكتاب في الفقرة 6، الصفحة 24، نفس المعلومة عن الاحتفال الأوّل بعيد ميلاد حسين سنة 1981. ويتكرر ذكر العام 1981 في الرواية، بخاصّة أثناء الحديث عن السادات؛ وقبل وبعد زيارته للمنصورة، وحادثة اغتياله، وسرد تفاصيلها في الفقرة 28 من الرواية. ويتكرر الحديث عن عيد ميلاده في الفقرة 54 ” في صباح يوم ميلادي الـ18″ (ص 156)، وفي الفقرة 56: “عيد ميلادي الثامن عشر، أحياه عمر خورشيد” (ص159)! كذلك، كرر أكثر من مرّة عنوان صحيفة “العرب اليوم” أنه في “شارع رستم بجاردن سيتي”.

علي عطا الذي كان يعمل محرراً ثقافيّاً في مكتب صحيفة “الحياة” في القاهرة، يلمّح في روايته هذه، إلى أزمة تلك الصحيفة التي أغلقت، وما زال موظفّوها وكتّابها لم يتقاضوا مستحقّاتهم الماليّة من مالكها الملياردير السعودي.

يتحدّث الراوي في الصفحة 88/89 عن وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشي ديان، واحتمال أن يكون له بيت في المنصورة، وولِدَ في مصر. كذلك في الصفحة 162 يكرر الحديث عن ديان ومنزله – فيلاّته والأحاديث المتضاربة حول مكان وتاريخ ولادته في مصر. في كلا المَوضعين، يلجأ الراوي إلى “ويكيبيديا” فيعرف أن ولِدَ في فلسطين.

فيما يتعلّق برأيه في العلاقة الوطيدة والعميقة بين الإسلام السياسي والدولة المصريّة، ذكر الراوي أنه عبّر عن ذلك في بوست كتبته على الفيسبوك، يوم 9 نوفمبر 2017، قال فيه “في مصر؛ الإسلام السياسي مُعتمد رسميّاً وعلى أعلى مستوى، وعبر السلطات الثلاث: التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة، وهو متغلغل فكريّاً وتطبيقاً، في شتّى مناحي الحياة، وهو الأمر الذي لا بدَّ من الاعتراف به، ومن ثم مساءلته، فلربما ننجو جميعاً، من الغرق تماماً، وإلى الأبد، في ذلك المستنقع” (ص107). نفس الفكرة، بنفس العبارات، حرفيّاً، نجدها نسخ ولصق، في الصفحة 175! مع حذف أن هذا الكلام، كان بوستاً، منشوراً في 9 نوفمبر 2017. هذا النسخ المكرر، أثار لدي لؤم الفضول والبحث في صفحة الروائي علي عطا، فوجدته نشر الفكرة نفسها، حرفيّاً في نفس التاريخ!

لا خلاف على أن الكاتب حرّ ومن حقّه توظيف الأفكار التي يكتبها على الفيسبوك في عملهِ الروائي. كما فعل عطا. فالبوست المنشور في الرواية: “على الصعيد الشخصي، كانت 2016 طيبة إجمالاً، وجاء أهم ما منحتني إياه في أسبوعها الأخير؛ متمثلا في إنعاش محبتي للحياة، وكأني مولود للتو.”. (ص50)، هو نفسه البوست الذيً كتبه ونشره عطا على صفحته في 28 ديسمبر 2016.

 كقارئ، أجد أنه من الأهميّة بمكان لفت عناية الكاتب والصديق العزيز علي عطا، وأي كاتب أو كاتبة، إلى مساوئ التكرار على فنيّة وجودة أي نصّ روائي. بخاصّة لو كان هذا التكرار من طينة؛ “نسخ ولصق”.

رواية “زيارة أخيرة لأم كلثوم”، إلى جانب تناولها قضايا وإشكالات تتعلّق بالحرب والسلام والثقافة والصحافة وتحوّلات البشر، والانتهازيّة، واستغلال المناصب، حتّى الثقافيّة منها، كذلك تحدّث عن الحديث عن زنا المحارم، أثناء سرد حكاية المرأة الثلاثينيّة “عاشور” وحبلها من أبيها. (ص76).

“زيارة أخيرة لأم كلثوم” هي الرواية الثانية لعلي عطا، بعد رواية “حافة الكوثر” الصادر عن الدار المصرية – اللبنانيّة سنة 2017، وتجربة شعريّة أثمرت حتّى الآن ثلاث دواوين شعريّة؛ “على سبيل التمويه”، “ظهرها إلى الحائط”، و”تمارين لاصطياد فريسة”، وتجربة مديدة في الصحافة الثقافيّة. مجمل الملاحظات والانطباعات السالفة الذكر، لا تقلل من أهميّة هذه السرديّة.