fbpx

التقدم على وقع الحجر المعولم

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كلّما تحرك فايروس “كورونا” أكثر، توقَّف العالم عن الحركة، وبالتالي توقَّف عن التقدم المزعوم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

 بعدما بات الحجر المنزلي معولَماً إثر ما ترتّب على انتظار فايروس “كورونا” المُستجدّ، وبعدما طالت فترة تقنين الخروج منه، وملاحقة الخارجين عليه ومعاقبتهم تحت مُسمّيات حالات الطوارئ وحالات التعبئة العامة وحظر التجوُّل والحجر الإلزامي، باتت الحركة في أدنى مستوياتها. يتحرّك الفايروس ويتوقّف العالم. لقد تمّ إقفال العالم حرفياً. لا حرية التنقُّل داخل الدول مسموحة ولا حتى السفر في ما بينها ممكن حتى إشعار آخر. توقّفت الصناعات بأغلبها، ناهيك بالتجارة والتبادل والسياحة… إنه زمن “كورونا”، الفايروس العالمي الذي يُقفل المنافذ والمعابر، ويعيد إلى الواجهة فكرة التسعينات عن العولمة من باب إقفالها على نفسها، من باب الضمور ووقف “التقدُّم”. صار الناس يعيشون بالتباعد لا بالتقارب، هكذا يقنعنا النظام العالمي، على خلاف ما أقنعنا به يوماً عبر كليشيه شكّل لازمته النظرية والدعائية: “بتنا نعيش في قرية صغيرة”.

يتعثَّر التقدُّم على رغم ما وصلت إليه المجتمعات ما بعد الحداثوية إلى ذروتها في التواصل والتبادل وإيلاء شأن التقنيّات المتنوّعة، وتفكيك الكثير من القيود التي مركزت التقدم لدى أقطاب بعينها كانت بنت ثوراتها المتتالية واسخلصت منها عبرة التقدم وإوالاته (ميكانيزماته)، حتى بدت تصدّر التقدُّم كوصفات جاهزة لمجتمعاتٍ أخرى. التقدُّم كمفهوم، أو التطوُّر كما صاغه لويس هنري مورغان في كتابه “المجتمع القديم” عام 1877، هو عملية استدراج لمفهوم التطوُّر الذي برز في حقل البيولوجيا المعرفي إلى حقل معرفي آخر هو الإنثروبولوجيا. هذا الاستدراج المعرفي، الذي كان إسقاطاً نظرياً من العلوم الطبيعية على العلوم الإنسانية، ترك أثره البالغ في الفلسفات والنظريات والممارسات الفكرية اللاحقة، لا سيّما لدى فلاسفة الليبرالية وفلاسفة الماركسية والاشتراكية على حدٍ سواء.

رتّب هذا المفهوم المُستدرج من المداولة بين العلوم وفروعها آثاراً عدة على الفكر. أخذت الليبيرالية على عاتقها مسؤولية نقل المجتمعات باقتصاداتها وثقافاتها من حالة إلى أخرى على قاعدة أن التقدُّم حتمي لا مجال للفرار منه. ما على المجتمعات سوى اتباع التعليمات والإرشادات الصادرة عن المركز. صيغت التقارير الكثيرة الوصفيّة منها والتحليليّة والتدخليّة لدفع المجتمعات إلى التزام خط سير التقدُّم عبر التنمية، والتنمية البشرية والتنمية البشرية المستدامة. هذه النمذجة للتقدُّم أسَرَه في دائرته المغلقة، التقدُّم نحو الصفر في أغلب الأحيان. شيّدت الليبيرالية بُناها على أسس التقدُّم وأسهبت في تفصيله وتفنيد دينامياته، حتى أرفقته بدليل استخدام عالمي، وصدّرته ونشرته لتعميم نموذجها حول الانتقال من حالة إلى أخرى.

قرأ ماركس كتاب مورغان، وأعجب به إنغلز وهجس به وعبّر عنه في كتاباته، لا سيما في كتابه “أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة”. شكّل “التقدُّم” فهم إنغلز للتاريخ والمجتمع وسيرورتهما. لاقى عمل مورغان رواجاً آخر وتداولأ  لدى الماركسيين والاشتراكيبن، فراحوا يمرحلون التاريخ ويصوغون غائيته وفقاً لمفهوم التطوُّر/ التقدُّم. حظي المفهوم بنصيبه من التثوير على غرار ما حصل عليه في الليبرالية. المعسكرين جندا طاقتهما من أجل التقدُّم، ووضعه على سكته الحتمية بغية نقل العالم من حالته السائدة إلى حالته المُستجدّة، التقدُم، ذاك الخلاص الذي يقوم على الحركة والعبور الدائم والانتقال وكافة الديناميات التي تدفع المجتمعات صوب حتمية التغيير، يقف الآن. ففي المقلب الآخر، وفي عالم اليوم استجدّ ما هو قديم، ما كان غابراً، إنه “كورونا” الذي صادر التقدُّم وحقه في التنقل والحركة، لقد أوقفه عند حد حركته. 

كلّما تحرك فايروس “كورونا” أكثر، توقَّف العالم عن الحركة، وبالتالي توقَّف عن التقدم المزعوم. كلّما ثار الفايروس ثبت العالم ووقف مكانه يراقب تقدُّم “كورونا” من حجره المنزلي. كلما خرج الفايروس ليلاقي مضيفيه، ضمر العالم وبات يحيل حركته إلى الداخل. كلّما التزم العالم االحجر، أصبحنا أقرب لتعميم نموذج gated community الذي نحته دايفيد هارفي حول مفهوم العمارة في زمن ما بعد الحداثة. العالم يستهلك مقولاته النظرية الآن، يستهلكها حتى نفادها وشحّها النظري وعطبها في التفسير والتحليل. إنَّ اللحظة التاريخية هذه فرصة كفيلة بإعادة النظر بمفهوم التقدُّم وتمثّلاته، لا بل تكاد أن تكون فرصة لتفكيكه ورد الشحن الرمزي له وأسطرته.

كيف سيتحرك العالم في ظل تحرُّك الفايروس؟

إنّ أسطرة التقدُّم، التي تمت على مدى عقود طويلة، باتت اليوم رهن التحلّل لمصلحة إشكاليات جديدة فرضتها الجائحة التي أصابت العالم المواظب على الحركة والانتقال والتقدُّم. كيف سيتحرك العالم في ظل تحرُّك الفايروس؟

كلّما طال الحجر، صار التقدُّم محط تساؤل وإعادة تفكير، فالتسلُّل من البيولوجيا إلى الإنثروبولجيا والسوسيولوجيا والاقتصاد والاقتصاد السياسي لن يحمي مفهوم التقدُّم من التشكيك والتفكيك هذه المرة. إن “كورونا” هو التقدُّم في وجه تقدُّم الأنظمة، أو أنه إيقاف التقدُّم مرحلياً على أقل تقدير. فلم تعد الغائية لازمة التبدل في أحوال المعيوش المجتمعي، ولن تكون الحتمية التاريخية، من أينما أتت وتبلورت، ذاك الحل السحري لمشكلات ناجمة عن الحلول التي يقدمها النظام للحفاظ على تقدّمه، للحفاظ على علّته والبقاء على حجته. كيف سيكون التقدُّم سبيلاً للاستكانة بعد اليوم؟