fbpx

أصابع “كورونا” المخيفة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أحاول أن أعدّ أصابعي الآن، أن أشعر بها أكثر، جفافها نتيجة كثرة الغسل والمعقمات، اختناقها في الكفوف، حرمانها دورها الطبيعي في التحسس والملامسة. صرتُ أتعامل معها وكأنها عدو محتمل،

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

سابقاً، قبل أن يبدأ الدمار نهش بلادنا، علمني صديق قديم وأبدي لعبة الأصابع، أن نُغلق أعيننا، ثم نحاول البحث عن الأشياء في الفراغ المحيط بنا، برؤوس أصابعنا الوحيدة، نتحسس الأشياء، مُحاولين إعادة تعريف تفاصيلها.

كانت لعبة متخيلة وحياة مُعاشة، تختصرك كلك في أصابعك، تعيد تكوين الضجر المحيط بك كما تشاء، وكأنك للحظة ملك الوقت والقدر والإرادة، تترك أصابعك الخمس في حوار لا ينتهي، عقيم وأخرس.   

كان ذلك قبل الحرب، كانت أصابعنا غضة، هشة، ولم تعرف من قسوة الفقدان شيئاً، كانت تشبه أحلامنا في بلاد. أدركنا في ما بعد أن لا مجال للحلم فيها. في ما بعد، خلال أيام الظلام الطويلة في سنوات الحرب، صارت أصابعنا، بمعنى ما، أعيننا وحواسنا، أداتنا، وذاكرتنا، محاولتنا لتجاوز التوتر والفوضى والألم. سعينا لاكتشاف ذواتنا العمياء، بوصلة أجسادنا، مرشدها في غياب النور.   

لاحقاً، وحيدة كانت أصابعي ملكة المشهد، كما هي اليوم، في زمن “كورونا”، أفتقد أصابعي في الفزع المحيط، أخشى أن تمحى بصماتي، وأخسر معها ذاكرتها، بكل حواسها وحساسياتها، أخشى منها على نفسي وعلى من أحب. 

أحاول أن أعدّ أصابعي الآن، أن أشعر بها أكثر، جفافها نتيجة كثرة الغسل والمعقمات، اختناقها في الكفوف، حرمانها دورها الطبيعي في التحسس والملامسة، عزلتها المضاعفة في هذا الحظر المفروض. صرتُ أتعامل معها وكأنها عدو محتمل، الجاني الأعظم، وسم العار الذي يمكن أن يُعدي جسداً كاملاً. 

أداري أصابعي عن عيوني وأنفي وفمي، محاولات غير مجدية في غالبيتها، محاولات التحكم في حركات لا إرادية اعتدتها خلال 29 سنة فائتة. يبدو أمراً متعباً وقاسياً، محاولة لترويض ما هو غريزي ووجداني وسلوكي، وأولاً بدهي.

أعدّ أصابعي مجدداً، وأتفهم حرمانها المتزايد، أخفف عنها من حين إلى آخر، بممارسة لعبتي ( لعبة الأصابع)، أشغل الأغاني وأترك لها حرية الرقص، وكأنها قدماي. لا أراقبها وأضبطها وأقمعها، أنفصل عنها وأترك لها حرية شرودها.

الأصابع هي نحن، هي خوفنا الأبكم، سبيلنا الوحيد للنجاة، في بلاد تصيبك مشافيها بالمرض والغثيان حالما تفكر بها أو تتخيلها. أقرأ تعليقاً مكتوباً فوق صورة مقارنة على “فايسبوك”، بين غرفة في أحد مستشفيات الدول المتقدمة، وغرفة في مستشفيات البلاد: “الزموا بيوتكم، فالفارق آلاف السنين من التطور”. أعقم يديّ ذعراً، وأتابع عملي وأنا أفكر في ما بعد “كورونا”، عندما تنهار عتبة خوفنا الحالية، وتغدو سلاماتنا الباردة عناقا أقل هلعاً.

في أيام حظر التجوال المفروضة علينا حالياً، في بلاد مخنوقة من الحرب، بات الوقت رفاهيتنا، ملكنا، والملل سمتنا، نتلهى عن الوقت والخوف باصطناع الوقاية، نلزم بيوتنا ونهلك أصابعنا بقيود النظافة والانضباط، نعقم كل قشة تدخل منازلنا، بمعقمات ندرك تماماً إنها مغشوشة. شخصياً، أستغرب هذا الخوف المستحدث في حياتنا، من كائن لا مرئي، نحن من رتبنا للخوف عتباته بوحشية مفرطة، وقدمنا للعالم “كاتلوكاً” مبدعاً للقتل. إذ ما الذي قد يعنيه أن نموت بفايروس ما، ونتجاهل حديث وزير صحتنا وهو يطمئن الشعب قائلاً: “الجيش طهر البلاد من الجراثيم والفايروسات، على مدار السنوات العشر الفائتة!”، هل من عدمية أكثر من ذلك؟ 

أراقب عن كثب انهماك والدتي في التعقيم، ساعاتها الطويلة في غسل الخضروات، مداراتها لأصابعها – كأحد أطفالها- عن ارتكاب خطأ ما، وملامسة المحظور من وجهها. أراقب المرأة الستينية التي أمضت العقد الأول من عمرها في أعمال القرية، من زراعة وتربية للحيوانات، الأعمال التي تركت آثاراً واضحة على تضاريس يديها، جعلتها بأصابع متجهمة وكأنها تصرخ في وجهك دوماً، وندبات جروح قديمة كعمرها، أسمع همهمة ضجرها من الحالة الجديدة المفروضة عليها “شو هالكورونا إلي طلعتلنا بآخر هالعمر!”.

أسأل صديقي العطار عبر “واتسآب” – صديقي الذي راهنت عليه سابقاً بأنه الشخص الوحيد في هذا الكوكب الذي سيخشاه “كورونا”- عما تعني له الأصابع في هذا الوقت من عمرنا، يجيبني بصعوبة في التعبير، الأصابع هويتنا الفاضحة، تسرد تفاصيل حياتنا من دون حياء، من دون إذن، حاستنا المهمشة في بلاد تتطلب منا الشقاء دوماً، لم تؤثر حالة التعقيم الكوروني في أصابعي التي اعتادت الكحول ورائحة العطور خلال 10 سنوات فائتة، ولكنه – أي “كورونا”- علمني أن أحب روتين حياتي الممل.

ترسل لي صديقتي رابطاً لمقال يتحدث عن المواعدة في زمن “كورونا”، يتحدث عن الـ”blind date” وكيف تكيفت المواعدات الغرامية مع حالة “كورونا” والعزلة الاجتماعية المفروضة، لتجرى هذه المواعدات افتراضياً، عبر شبكة الإنترنت. أعود لأفكر بحالة الأصابع في تقديم المتعة المجهدة وغير المشروطة، وأمتن لـ”كورونا” لأنه أبقى للأصابع وظيفة حيوية تخفف عنها وطأة الحجر المفروض عليها.

الأصابع عكازة الأعمى، العكازة الذي باتت عمياء أيضاً، العكازة الذي نخرها “كورونا”.

 في زمن “كورونا”، أفتقد أصابعي في الفزع المحيط، أخشى أن تمحى بصماتي، وأخسر معها ذاكرتها، بكل حواسها وحساسياتها، أخشى منها على نفسي وعلى من أحب. 

خلال أيام الخوف المكثفة الماضية، أعدت محاولة ملامسة الفراغ بالأصابع ذاتها التي كانت أداة بهجتي أيام الطفولة. أغلق عيناً، وكأن حفرة ترابية باردة تحتويني لليلة أخيرة، وأمضي لأحلامي مسرعة، ألتهم بأصابعي كل الأشياء الحسية المحيطة بي، الوقت الحب الوجود الأماني، وأولاً الخوف. أصابعي التي لا تكل ولا تتعب، التي بقيت تحرسني في لحظات القسوة، وتدللني في أحيان الحب.

أصابعي الوفية، لن تتخلى عني بسهولة، أنا المذعورة في مواجهة وحش “كورونا” المخيف. مرة، أخبرني صديق، بعد أشهر من فقدانه يده نتيجة الحرب، بأنه ما زال يشعر بحكة في أصابعه.

سابقاً، قبل أن يبدأ الدمار نهش بلادنا، كانت أصابعي رشيقة، لم تكن مجهدة من ساعات العمل الطويلة على الموبايل والكمبيوتر، كانت أصابعي ذات ذاكرة أخف وحساسية ألطف، أكثر حرية وأقل حرماناً وخضوعاً للقمع. كانت تسرح في رقص غير مرصود، تلامس وتكتشف كل تفصيل محيط بي وتتعرّف إليه.

الجو في الخارج ربيعي ماطر، أمسك بيد سيجارتي، في حين تراقص يدي الثانية أمطار آذار/ مارس، تشرد أصابعي ببهاء حبات المطر المنهمرة من السماء. بالتقادم، يأخذها مزيج من الإغواء والطمأنينة الطافحة، تركض يميناً وشمالاً، محاولة غور تفاصيل الفروق بين حبات المطر، أشكالها وثقلها، حرارتها وسرعة هبوطها.

أنظر إليها مبللة بحبات المطر، أراها تناظرني، تقول شيئاً من مثل: “ما أجمل الحرية!”.

.