fbpx

خيانات زمن “كورونا”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم تتملكني الشجاعة للاقتراب منه، بل ولم يبدر مني أي تشجيع له لقطع بضع خطوات لجهتي كي أحتضنه، أي أنني مسؤول وحدي عما حصل. هكذا غادر ابني من دون أن أودعه، سوى بدمعتين

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قصّتي مع ابني غريبة، ومتعبة، وقد سمّيته سلام، لكن بعد أسابيع قليلة من مجيئه إلى هذه الدنيا حصلت حرب لبنان (1982)، باسمها الإسرائيلي عملية “سلام الجليل”، التي أفضت إلى ما أفضت إليه. ربما أن الاسم لم يكن موفقاً، أو لم يأت في وقته، أو لم يلائم وضعنا، مثل الكثير من برامج الفصائل والحركات السياسية.

والحاصل أن سلام من يومها لم يعرف حالة سلام ليس في المنطقة فحسب، وإنما السلام الشخصي أو العائلي أيضاً، فبعد حرب لبنان تلك، حدثت حرب الخليج الأولى والثانية (مطلع التسعينات). وفي تلك الأجواء عقد اتفاق أوسلو (1993)، ثم اندلعت الانتفاضة الثانية (2000- 2005)، التي اتسمت بطابع الصراع المسلح والعمليات التفجيرية، والحدثان أفضيا إلى انقلاب في الحياة السياسية الفلسطينية. وفي الغضون، جاء الهجوم الإرهابي للقاعدة في نيويورك وواشنطن (2001)، وبعدها غزت الولايات المتحدة العراق (2003)، ثم التحولات الدراماتيكية في لبنان، إثر اغتيال الحريري، وخروج الجيش السوري من لبنان، وحرب لبنان الثانية (2006). أما بعد ذلك فاندلعت ثورات “الربيع العربي”، من تونس، وشملت مصر وليبيا واليمن وسوريا، والتي تحولت في سوريا إلى نوع من حرب أهلية مدمرة، ومأساوية.

قهرنا “كورونا”، بخاصة نحن الذين تعودّنا التمرّد على كل شيء، على العائلة، وعلى السلطات، على التقاليد، والسائد من البدهيات، والأيدولوجيات، والهويات، قهرنا هذا الفايروس التافه

على الصعيد العائلي، لم يعرف سلام العيش بسلام، أيضاً، إذ غادرنا في وقت مبكّر، من سني شبابه، للدراسة الجامعية (صحافة وإعلام في تونس)، وعندما تخرّج وعاد فرحاً إلى دمشق، مع كل الحماسة والحنين للعيش في كنف العائلة، أصيب بإحباط إذ لم يجد ما أراده، أو تخيله، فقد تفرّق شمل تلك العائلة. فأخته الكبرى باتت تقيم في لندن مع زوجها، وأمه مع أخته الأخرى وأخوه الأصغر كانوا غادروا سوريا إلى الولايات المتحدة، الأميركية، للدراسة، ونيل الجنسية (لأخته وأخيه)، كحال أي فلسطيني، في هذا الزمان التعيس. ما زاد الطين بله أن سلام ما كاد يعود ليمكث معي، في دمشق، لأشهر معدودة، حتى جاءته فرصة عمل في دبي، فغادرني مرة أخرى، فالعمل في ظروفنا ضرورة لا يعلى عليها، وهي بمثابة “وطن” أو بمثابة بيت.

وباختصار، فبعد كل ترحال ثمة ترحال جديد، وقد شاءت الظروف أن يترك سلام عمله لفرصة عمل أخرى في أوروبا، بحيث بات بالإمكان جمع شمل بعضنا، على الأقل، مجدّداً (أنا وهو مع أخته الكبرى) في بريطانيا، بحكم عمله، لكن تلك الفرصة سرعان ما تبخّرت، بدورها، لكن هذه المرة ليس بسببنا وإنما بسبب “كورونا”، هذا الوافد التافه والبغيض، إذ اضطر سلام لمغادرة لندن للالتحاق بمكان عمله الأساسي في مدينة ليون في فرنسا (في قناة أورونيوز). 

طبعاً، تلك كانت مفاجأة خارج كل التوقعات، فهذا ما أحدثه “كورونا”، على صعيد الدول والجيوش والشركات الاحتكارية، كما على صعيد المجتمعات والعائلات والأفراد، كأنه يريد تغيير نمط حياتنا، ومفاهيمنا، ومشاعرنا أيضاً. 

في تلك اللحظة الصعبة، لحظة الافتراق من جديد، كنت أود من كل قلبي أن أحتضن ابني، الذي سيتركني إلى بلد آخر، لكنني خنت نفسي، والأهم أنني خنت نظراته إلي بعينين فيهما أكثر من معنى: الترقّب والحيرة والتردّد والرجاء، إذ كان هو يريد الأمر ذاته، أيضاً، وليس مهمّاً من منّا كان يرغب في ذلك أكثر من الآخر. 

لا أعرف مكامن تلك القوة الخفيّة التي أحالتني إلى جبان غصباً عني، فجمدتني في مكاني، وجمدت مشاعري، فجأة، بحيث لم تتملكني الشجاعة للاقتراب منه، بل ولم يبدر مني أي تشجيع له لقطع بضع خطوات لجهتي كي أحتضنه، أي أنني مسؤول وحدي عما حصل. 

هكذا غادر ابني من دون أن أودعه، سوى بدمعتين حبستهما في عيني، لخّصتا كل القهر، والحزن، والخذلان، والعجز، إلى حين غاب عن ناظري واختليت بنفسي. وهي لحظة لا أعرف كيف أصف ما أحسست به حينها، فقد كنت في حالة تقارب الانهيار بمعنى الكلمة، كأن كل قهر الدنيا، وكل قهر مرّ بي في شريط حياتي، في أعوامي الـ65، تجمّع في تلك اللحظة. 

كنت أتمنى، فقط، لو أن عينيه لم تريا عينيّ، تلك البرهة من الزمن، أو لو أنه لم ينظر إلى تلك النظرة المعبّرة، فنظرات كتلك، تصدر من القلب، وتفطر القلب، أيضاً، وهي لا يمكن أن تنسى، بدليل أنها لا تبارح مخيلتي. 

المشكلة أنني كنت اختبرت مثل تلك الواقعة لكن في ظروف أخف، فمع أصدقاء، مثلاً، كان ينشأ نوع من تواطؤ متبادل، بأن نلتقي من دون عناق، أو من دون مصافحة، وأن نحفظ مسافة أمان. 

 كنت أود من كل قلبي أن أحتضن ابني، الذي سيتركني إلى بلد آخر، لكنني خنت نفسي، والأهم أنني خنت نظراته إلي بعينين فيهما أكثر من معنى

بيد أن أقرب شيء إلى تلك الحكاية حصل بعدما غادرت تركيا، مكان غربتي الثانية، والتي مكثت فيها أربعة أعوام، إلى بريطانيا، مكان غربتي الثالثة، للإقامة عند عائلة ابنتي في بريستول، موقتاً، في حين كانت غربتي الأولى، ولأربعة أعوام، في الولايات المتحدة، بعد مغادرتي سوريا (2012). هكذا، فعلى رغم أنني هيأت نفسي، قبل وصولي إلى بريستول، بناء على أحاديث مسبقة، عن ضرورة التحوّط المتبادل، وقابلت ابنتي وصهري وحفيديّ، العزيزين الصغيرين، من دون احتضان أو حتى مصافحة، إلا أنني ظللت أشعر أن ثمة شيئاً ناقصاً أو غريباً قد حصل، أو أننا لم نعد ما كنا عليه، وما زلت، وانا أقيم عندهم منذ أسابيع، لا أستطيع التعايش مع الأمر.

عموماً، جعلتني الأقدار أترك إسطنبول في ظلّ خطر جائحة “كورونا”، لذا كنت غادرتها على عجل، من دون وداع الكثير من الأصدقاء، وحتى الطائرة التي كنت حجزت فيها ألغيت، بسبب تقليص رحلات الطيران، ما اضطرني إلى حجز رحلة بديلة، في فترة أبكر، وكان منظر مطار إسطنبول الفارغ غريباً، وهو الذي كان يعج بالمسافرين في كل الأوقات. أيضاً، عندما وصلت إلى لندن اضطررت لمغادرتها في اليوم ذاته إلى بريستول، من دون لقاء أحد، فجميع الأصدقاء في حالة حجر طوعي، وهو الوضع الذي لم أعشه، أو لم تعشه إسطنبول، إلى فترة وجودي فيها، ما جعلني أحس بأنني انتقلت فجأة من عالم إلى آخر.

في بريستول، تلك المدينة الجميلة والوديعة، التي تبعد مسافة ساعتين من لندن (الجنوب الغربي)، حيث أقيم حالياً مع عائلة ابنتي، والتي كانت تعج بالحياة، تشعر وكأنك جئت إلى مدينة هجرها سكانها، فثمة حجر طوعي، إلى درجة أنك بالكاد ترى سيارة، أو عابر سبيل، في حين كانت حوانيتها ومطاعمها ومقاهيها وباراتها ومولاتها وحدائقها تعج بالناس، سابقاً. في هذه الأجواء لم يبق لي سوى الخضوع لقوانين المدينة، للحجر الذاتي. طبعاً، لا يخلو الأمر من مشوار، على سبيل الحركة، لكنه مشوار حذر، إذ يجب أن تحافظ على مسافة أمان بينك وبين أي مار آخر، أو ربما يجب أن تنتقل إلى الرصيف الآخر. هذا يحصل في السوبر ماركت أيضاً، مع تنبيه بعدم لمس أي شيء، ومع غسل اليدين جيداً عند العودة إلى البيت، ويفضل أن تغسل بدنك كله، أيضاً. 

قهرنا “كورونا”، بخاصة نحن الذين تعودّنا التمرّد على كل شيء، على العائلة، وعلى السلطات، على التقاليد، والسائد من البدهيات، والأيدولوجيات، والهويات، قهرنا هذا الفايروس التافه، الخفي، الذي لا نراه، بل إنه قلب حياتنا، وجعل كل ما كناه، أو ما عرفناه، أو ما اعتقدناه، كأنه لا شيء.

هكذا أخضع “كورونا” كل شيء لجبروته، الأفراد والمجتمعات والشركات والجيوش والدول، حتى علاقة الأب بابنه باتت مقننة وفق “قانون” “كورونا”، الذي يهدد إنسانيتنا، وحاجتنا للآخر.

في كل ذلك يبدو “كيرونا” كما أحبّ أن أسمّيه، كموفد لسلطة الطبيعة، فهو فوق كل السلطات، وأقوى من أي جيش، ولا يعترف بأي حدود، والاقتصادات والشركات والتكنولوجيا تتهاوى أمامه، بل إنه تمكن من تحديد العلاقات بين البشر، أكثر من أكثر الأنظمة شمولية وطغياناً وقمعاً في تاريخ البشرية، فمعه أضحى العالم بمثابة سجن كبير، يسجن الناس فيه أنفسهم طواعية، ويعزلون أنفسهم حتى عن أكثر أحبابهم، محولاً الإنسان إلى شيء، مثله كأي شيء آخر.

لعل ما يحصل رسالة من الطبيعة تكشف للبشر محدوديتهم، ومخاطر جشعهم وتجبرهم، تقول لهم فيها: يمكنكم شق الجبال لكنكم لا تستطيعون أن تصنعوا جبلاً، ويمكنكم أن تمخروا عباب المحيطات لكنكم لا تستطيعون أن تصنعوا بحراً، ويمكنكم أن تصلوا إلى القمر ولكنكم لا تستطيعون أن تصنعوا نجمة… تستطيعون فعل أي شيء لكنكم لا تستطيعون وقف ثورات البراكين وزلزلة الأرض وهبوب العواصف ومد ّالبحار والمحيطات، بل ولا درء خطر فايروس تافه…هكذا كشف “كورونا” خذلاننا وعجزنا وجبننا… يا للهول!

سلام للبشرية ولك يا سلام…