fbpx

أُصبتُ بـ”كورونا” في مصر: عُزلة ومحسوبية وموت وخراب ديار

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هذه رحلتي مع ذاك الفايروس الذي لا يتعدى حجمه النانومترات القليلة الذي طرحني في البيت وأرعب المنطقة كلها مني ومن عائلتي. هذه رحلتي مع “كورونا”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“من سيتولى الإنفاق على أسرتي؟ وكيف ستتدبر زوجتي تكاليف الحياة الباهظة ومصاريف أطفالي الدراسية بخاصة أنني رفضت مراراً أن تعود إلى عملها السابق؟ ما مصير والدتي التي سينفطر قلبها حزناً على فلذة كبدها؟ كيف سأغادر الحياة من دون ترك بصمة تدلل على أنني مررت من هنا؟”. أسئلة لا متناهية دارت في خلدي بعدما بدأت أعاني من أعراض تشبه تلك المصاحبة للإصابة بفايروس “كورونا”، من ارتفاع درجة الحرارة وضيق تنفس وكحة شديدة وآلام في الرأس إضافة إلى صداع مستمر.

قلق زوجتي وهلع جارتي 

القلق يبدو ظاهراً على زوجتي، على رغم محاولاتها المستميتة لإخفائه، كلانا يخشى أن ينطق بالأمر أو مجرد التفكير فيه، إنه احتمال قاتل. تحاول زوجتي أن تبث الطمأنينة في نفسها قبلي عبر التأكيد أنه مجرد “دور برد” عادي، بسبب تغيّر الفصول، وأن ضيق التنفس ناتج عن تراكم الأتربة في الهواء والرياح الخمسينية التي تهب كل عام في هذا التوقيت، وأنه لا داعي للقلق. وفور ارتفاع درجة حرارتي سارعت زوجتي إلى جارتنا الصيدلانية كي تأتي لرؤيتي ووصف علاج لي، وبعد سؤالها عن الأعراض، قالت لزوجتي “اذهبي وسآتي خلفك”. وعندما تأخرت ذهبت إليها زوجتي مرة أخرى وأجابتها جارتنا من دون أن تفتح الباب، ورفضت المجيء وتعللت بطفلها الرضيع، وقالت إنها تخشى على رضيعها من الإصابة، وطلبت منها أن ترسل لها مقطعاً لصوت سعالي عبر تطبيق “واتس آب”. وبالطبع لم تفعل زوجتي ذلك غضباً منها، واتصلت بإحدى صديقاتها الطبيبات ووصفت لها الأعراض ودلتها على بعض الأدوية التي تناسب حالتي، وبعد يومين من عدم التحسن وتزايد حدة نوبات ضيق التنفس نصحت الطبيبة زوجتي بزيارة أقرب طبيب، غير أنني رفضت الأمر تماماً. كثر من المرضى يترددون على الأطباء في ظل هذه الظروف الطبية الحرجة ومن الوارد أن أحتك بعدد كبير من المواطنين في عيادة الطبيب الخاصة، وهو ما سيزيدني قلقاً لا طمأنينة، فرفضت الاقتراح جملة وتفصيلاً. “لازم نتصرف لو مش خايف على نفسك خاف على عيالك”، تحاول زوجتي ووالدتي التي تقطن في محافظة أخرى الضغط علي للذهاب إلى الطبيب، وأخبرتني والدتي أنها سترسل لي شقيقي لمرافقتي قبل أن أرفض الاقتراح بحدة. لا أريد الاختلاط بأي شخص خوفاً على نفسي وأسرتي وخوفاً عليه أيضاً، لا أعلم قد يكون شقيقي نفسه مصاباً وينقل العدوى لي ولأسرتي، وقد أكون أنا مصاباً، أنقل العدوى إليه ومن ثم إلى عائلتي، إنه اقتراح سيئ جداً.

سر رفضي الذهاب إلى المستشفى 

خوفي من عيادات الأطباء والمستشفيات سببه الرئيسي هو تردد أعداد كبيرة من المرضى إلى هناك، بخاصة ممن قد يكونون مصابين بـ”كورونا”، ويسارعون إلى المستشفيات أو العيادات لإجراء الفحوص والاطمئنان على أنفسهم، ويتكدسون في مساحات لا تتعدى الأمتار القليلة، وهو ما ينذر بانتشار الفايروس بين جميع المترددين، حال إصابة شخص واحد من الموجودين بالفايروس المستجد. لكن مع تزايد حدة نوبات ضيق التنفس لجأت زوجتي إلى شقيقي ليقنعني بالذهاب إلى المستشفى لإجراء الفحوص اللازمة، وبعد مكالمة هاتفية استمرت دقائق رفضتُ اقتراح أخي تماماً، وأقنعته بأنني سأصاب بالفايروس هناك إذا لم أكن مصاباً به بالفعل، بسبب التكدس والزحام، وأخيراً أقنعته وتركني لشأني هو وزوجتي. وفور انقضاء ساعات الليل وجدت هاتفي يرن ويخبرني شقيقي بأنه أسفل العمارة التي أقطن فيها.

مخاوف العزل والفراق من دون وداع 

أرسلت ابني ليفتح له ورفضت مصافحته وسألته بلهجة حادة: “ماذا جاء بك في ظل ظروف الحظر هذه، والمخاطر الأمنية والصحية التي تعانيها البلاد؟”، ليجيبني بجملة هدأت ثورتي: “جيت أطمن عليك، أنت مش راضي تطمن على نفسك وإحنا قلقانين عليك”. طلب مني تغيير ملابسي للذهاب إلى أقرب مستشفى للكشف والاطمئنان على حالتي، غير أنني رفضت وأعدت شرح المخاطر التي سأواجهها هناك، فإذا كنت مصاباً سيتم عزلي عن عائلتي وأسرتي لمدة أسبوعين ولن أراهما إلا إذا تمكنت من التغلب على المرض، وإذا لفظت أنفاسي الأخيرة فلن نحظى بلقاء الوداع في أي حال، والاحتمال الثاني فإذا كنت غير مصاب بـ”كورونا”، سألتقط الفايروس من أي شخص من المترددين على المستشفى. ووزيرة الصحة كانت أكدت أنه ربما تكون هناك حالات مصابة وتشفى من دون أن تكتشفها الوزارة، فبالتأكيد سيكون وسط الجموع أشخاص مصابون وسينقلون العدوى للمحيطين، وبعد محادثة صغيرة بين أمي وأخي، سارع شقيقي بالاتصال بالخط الساخن (105) الذي حددته وزارة الصحة للإبلاغ عن حالات الإصابة بفايروس “كورونا”.

برودة خط الوزارة الساخن!

3 ساعات كاملة أمضاها شقيقي وزوجتي وهما يحاولان الاتصال بالخط الساخن من دون جدوى. حيث رد أحدهم، شرح شقيقي حالتي، وطلبوا التحدث معي مباشرة، وبعدما سألوني عن الأعراض التي أشعر بها واستفسارات أخرى لا متناهية عن مواعيدها وصوت الكحة التي أطلقها وغيرها، سألوني إن كنت أخالط أشخاصاً اتوا من خارج البلاد خلال الفترة الماضية أو يعملون في قطاع السياحة أو أشخاصاً مصابين. وكانت جميع إجاباتي بالنفي، لكنني أخبرته أنني أنزل لشراء احتياجات منزلي من الطعام والعلاج، وأتبادل العملات الورقية مع البائعين وأخالطهم ولا أدري ربما التقطت الفايروس بطريقة أو بأخرى، غير أنه أخبرني أنه ما دمت لم أخالط أياً من الذين تتوافر بهم الشروط السابقة، فأنا بخير وجميعها أعراض إنفلونزا موسمية وعلي أن أتناول العلاج ووجبات ترفع مناعتي. وأمام دهشتي من إجابت غير المتوقعة سألته: هل أنت طبيب؟ فقال لي “لا”، فأغلقت الهاتف مباشرة، إذ إنني سأخوض نقاشاً غير مجدٍ… وما هي إلا دقائق وأخبرني شقيقي أنه يمكنه طلب سيارة إسعاف لي لفحصي وتشخيص حالتي غير أنني رفضت الأمر أيضاً، فبدأ إقناعي بالذهاب إلى المستشفى لإجراء الفحوص، وبعد توسلات والدتي عبر الهاتف خضعت لرغبتهم، أخرج شقيقي من حقيبته كمامة وقفازين من أجلي.

تكدس المستشفى وسر موافقة الوزيرة على إجراء تحاليل

ذهبت مع شقيقي إلى مستشفى “حميات العباسية”، وهو من أكبر مستشفيات الحميات وسط العاصمة القاهرة، وفوجئت بوجود مئات الأشخاص داخل حجرة الاستقبال التي لا تتعدى مساحتها الـ20 متراً مربعاً. لم أستطع الوقوف وسط ذلك الزحام غير المحتمل، ذهب شقيقي لتسجيل اسمي بين صفوف المترددين وأخذ رقم انتظار، فيما بقيت خارج مبنى المستشفى كي أتنفس هواء نقياً، بعيداً من غرفة الاستقبال التي لا تطاق. وبعد 6 ساعات كاملة من الانتظار وعشرات الاتصالات الهاتفية لمعارف وأصدقاء توسط أحدهم أخيراً لنا بالدخول وإجراء الفحوص بعد دخولي في نوبة ضيق تنفس جديدة، وأخضعتني طبيبة إلى جلسة تنفس صناعي وبعدها أجرينا بعض الصور الإشعاعية على الصدر وتحاليل دم، وأخبرتني بأنني بحاجة إلى إجراء اختبار “بي سي آر”، وهو الفيصل في تحديد إصابتي بـ”كورونا” من عدمها. وقالت إنها ستخبر مديرها للتواصل مع الوزارة وشرح حالتي لهم لأخذ الموافقة على إجراء التحليل لي، وبعد ساعتين أخريين من الانتظار عادت الطبيبة لإخباري بأن الوزارة ترفض إجراء التحليل لأنني غير مخالط لأي حالات سبق التأكد من إيجابيتها. وبعد جدال بينها وبين وشقيقي أخبرتني الطبيبة أن الوزارة يجب أن توافق على إجراء التحليل كي تتمكن من سحب مسحة من أنفي وحلقي لتحليلهما. وهنا سارع أخي للاتصال ببعض المعارف ذوي النفوذ للتوسط لإجراء التحليل، غير أن بعضهم أخبره أن الأمر يحتاج إلى موافقة وكيل أول الوزارة شخصياً، وأمام عجزنا عن إجراء الاختبار طلبنا نصيحة الطبيبة التي أجرت الفحوص لي، فأخبرتني أنها تشك في إصابتي بـ”كورونا”، وأن علي أن انعزل عن العالم وأسرتي بشكل خاص، مع تناول بعض الأطعمة التي تزيد المناعة وأن أكثر من تناول الثوم والليمون والبروكلي وعسل النحل، إضافة إلى البنجر والخضروات وفيتاميني “سي” و”دي”.

منديل الضابط الورقي!

خرجت من المستشفى وقدماي بالكاد تحملانني وكأن أثقال الدنيا استقرت على كتفي، أسير في الشارع مشتت الذهن كتائه بلا وجهة، كادت تصدمني سيارة وأنا أعبر الشارع ولم تنقذني إلا العناية الإلهية ويقظة شقيقي الذي أطبق فمه ولم يتفوه بكلمة واحدة… لم يقطع حالة الصمت التي خيمت علينا غير كمين الشرطة الذي أوقف سيارة “أوبر” التي نركبها، وسأل عن سبب سيرنا في الشارع في توقيت الحظر وأخبرنا الضابط أنه يجب احتجازنا وتحرير محضر ضدنا ودفع غرامة بسبب خرقنا قرار حظر التجول، ولم ينقذنا من الأمر سوى نتائج التحاليل والأشعة التي بحوزتنا، التي تدلل على أننا كنا في مستشفى الحميات نجري بعض الفحوص والتحاليل. وما أن علم الضابط باحتمال إصابتي بفايروس “كورونا”، عدل من كمامته التي سقط جزء منها بعيداً من أنفه، وعاد إلى الوراء خطوات وأخذ منا صور الأشعة والتحاليل التي أمسكها بمنديل ورقي من جيبه، وتوجه بها إلى ضابط آخر فوق كتفه “نسر ونجمتان”، وكأنه يشرح له الأمر، ثم جاء إلينا وسمح لنا بالذهاب من دون تحرير محضر بالمخالفة، وتكرر الأمر مع 5 كمائن أخرى، قبل أن أصل إلى منزلي في مدينة 6 أكتوبر.

إجازة مفتوحة غير مدفوعة الأجر

طوال الرحلة التي اقتربت من ساعتين ونصف الساعة بين المستشفى وشقتي، راودتني الكثير من الأفكار حول موقف أسرتي وعائلتي وجيراني وأصدقائي في العمل، أنا أعمل من المنزل منذ فترة، لكن ذلك ليس إلى الأبد، بخاصة أن المدة التي حددتها الحكومة لتخفيض أعداد العاملين في مواقع العمل قاربت على الانتهاء. هل سيوافقون على عودتي إلى العمل والتعامل معي بشكل طبيعي أم أنهم سيتجنبونني تماماً، وتأكدت شكوكي بعدما أخبرني مديري أنني في إجازة مفتوحة حتى تماثلي التام للشفاء، بعدما اتصلت به لإخباره بأنني لن أتمكن من الذهاب للعمل بعد أسبوع كما كان مقرراً، وقال إن الشركة ستتحمل الفترة السابقة من رصيد إجازاتي السنوية لكن الفترة المقبلة ستكون على نفقتي الخاصة وسُتقطع مع راتبي الشهري، وعلى رغم أن الأمر غير قانوني وغير دستوري لكنني لا أملك رفاهية الرفض أو الشكوى.

العزلة تحاصر عائلتي 

عدت إلى المنزل وعلمت زوجتي بما حدث في المستشفى، فدخلت في نوبة بكاء حادة وبعد محاولاتي لتهدئتها أنا وشقيقي، أخبرتني أن البواب رفض شراء احتياجات المنزل لها ورفض الجيران أن تستخدم المصعد برفقتهم وتوقف “المكوجي” عن التعامل معها، بعدما علم الجميع باحتمال إصابتي بـ”كورونا”، بعدما حذرت جارتنا الصيدلانية بقية السكان مني… الآن أصبحت زوجتي مضطرة أن تشتري جميع الاحتياجات والأدوية التي نحتاجها، علاوة على عبء رعايتي أنا وأبنائي الثلاثة… لكنها تخشى مواجهة شبح أكثر قسوة وألماً… شبح الفقدان.

هذه رحلتي مع ذاك الفايروس الذي لا يتعدى حجمه النانومترات القليلة الذي طرحني في البيت وأرعب المنطقة كلها مني ومن عائلتي. هذه رحلتي مع “كورونا”.