fbpx

“بحب الموت”: عالمية حضور الموت: أي معنى ستدركه الحضارة الإنسانية المعاصرة؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الموت أقرب إلى المخيلة والتقبل البشري من الوباء. الموت أزلي، الوباء طارئ. لذلك ترد أنباء عن ممارسات حرق جثث المرضى في أماكن بعيدة من المدن.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم يعد الموت محصوراً في منطقتنا التي تعج منذ سنوات بالحروب المسلحة والصراعات، فمع تفشي “كورونا”، تلمسنا تجربة أن يمتد الموت ليشمل العالم كله. في غرف المستشفيات على مدار الكوكب تتزايد أعداد الموتى، يضطر العاملون في القطاع الصحي في الكثير من الدول إلى الاختيار بين حياة مريض وموت آخر. هذه القدرة على رسم الحدود بين الحياة والموت تبدو نظرياً خارقة، ولكن حدوثها في الواقع بيّن أنها نقمة. في إيطاليا تنقل الجثث بالشاحنات العسكرية من المستشفيات إلى خارج المدن، لتدفن في مقابر جماعية، من دون أن يراها الأهل أو المقربون، لا نظرة وداع أخيرة ولا مراسم تشييع ودفن. ليس الموت هو المقلق، بل الوباء، الموت متخيل قبلاً، لكن الوباء وصمة تستمر في جثة المريض حتى بعد وفاته. لم يتوقف الموت عن الحضور أبداً، بين مجتمع وآخر، بين منطقة وأخرى. لكنه الآن، يحضر على كامل مساحة الخريطة، وبطريقة متشابهة إلى حد كبير. إننا في مرحلة حضور موت عالمي.

الموت والمعرفة

منذ نص غلغامش البابلي، يتساءل الإنسان عن سر الخلود. ربما أنهت حكاية غلغامش احتمالات الخلود بشكل قاطع. إن رحلة الحياة تحتمل حقيقة واحدة، هي حتمية الموت. بالنسبة إلى كل منا، الموت دوماً هو موت الآخرين، لا يبحث غلغامش عن عشبة الخلود لنفسه، بل لصديقه أنكيدو، لكن رحلة البحث عن الخلود تقوده لاكتشاف حتمية الموت، ليس موت الآخرين، بل موت كل منا. ولذلك ارتبط الموت بالمعرفة. لقد أكدت الأساطير، والديانات، والحكايات الشعبية، والفنون، على العلاقة المتلازمة بين الموت والمعرفة. في اللحظة التي عرف فيها آدم وحواء طعم التفاحة، تحولاً من النورانية إلى الجسمانية، امتلكا وعياً جديداً، لكنهما دخلا في مجال الزمن، الفناء، الموت. هذا هو التحول من الملائكية إلى الإنسانية. لا بد من الموت للدخول في مجال الحياة. 

في كتابه “موجز تاريخ الموت”، يعتبر الكاتب دوغلاس ديفيس أن إدراك الموت وحده يمكن الإنسان من تجاوز حدود الذات، والتأمل أو التفكر بشرط الوجود من حولها. إن حضور الموت اليوم على كامل الجغرافيا الأرضية، وبتنوع الحضارات الثقافية يدفع للتساؤل عما ستولده هذه المرحلة، هذه المواجهة مع الوباء في الوعي الإنساني– الحضاري.

القلق من عبث الوجود

لدى الإنسان رغبة متأصلة في أن يمنح هذا العالم معنى، وألا يكون الوجود مجرد عبث. هذا السعي المستمر للعثور على معنى هو أعمق ما تقوم عليه الديانات، التي تمنح الإنسان المعنى الذي ينشده، فيلمع الإيمان الديني براقاً، بعالم آخر يتضمن الجزاء والعقاب. كل ذلك أرحم من خواء الحياة، من عبث الوجود. فيسلم “التسليم هو الإيمان بلا قناعة”. إن المسيح الذي بعث بعد الموت، والأرواح التي تبعث من الرماد إلى عالم آخر من الجنة والنار، أفكار أكثر منطقية من خواء العبث. لكن الفايروس اليوم يعيد للإنسان التذكير ببعده الحيوي، الجسدي، ويشدد على احتمال العبث، ليس عبث كل منا، بل عبث الحضارة الإنسانية كاملةً. هل تفنى الحضارة البشرية بفايروس جرثومي؟ تبدو نهاية مثيرة للشفقة إذا ما قورنت بانقراض الديناصورات جراء نيزك، يعادل مئات آلاف المرات حجم الجرثومة. لكن لا لن يحدث هذا؟ هناك من يؤكد أن ذلك ليس مصيرنا. احذروا من؟ الديانات طبعاً. 

الجنازات الافتراضية

اليوم، نفقد أحباءنا بسبب فايروس غير مرئي، يدفنون، وسندفن معهم بصمت، حتى تلك القداسة أو الهالة التي أحاطت بالموت لم تعد موجودة. الوباء لا يفرض علينا خسارة المعنى وحسب، بل أيضاً خسارة الآخرين. ترتفع الأيدي بالدعاء إلى السماء، لكن الأعين والترقب الحقيقي يركز على جهود المختبرات الطبية– العلمية. بالنسبة إلى العلم، الجسد بيولوجي، يعيش باستمرارية الفناء، بالنسبة إلى الدين حتى لو تحلل الجسد تحت التراب عبر آلاف السنين، فإن الروح قادرة على الاستقلال عنه، ويبعث من خلالها. وإن فُرض علينا اليوم متابعة جنازات أحبائنا عبر الإنترنت، الخدمة التي تقدمها بعض المستشفيات؛ “الجنازات الافتراضية”، فإن لقاء من ودعناهم بصمت مضمون في العالم الآخر، الذي يعجز الفايروس عن العبور إليه. فالعالم الآخر أولاً روحاني، وثانياً غير خاضع لإدارة وزارات الصحة أو المستشفيات الخاصة.

ليس الموت هو المقلق، بل الوباء، الموت متخيل قبلاً، لكن الوباء وصمة تستمر في جثة المريض حتى بعد وفاته.

منذ 200 سنة قبل الميلاد، كتب الفيلسوف الإغريقي أبيقور الفكرة الدقيقة التالية: “عندما نكون نحن هنا، فإن الموت لا يوجد. وعندما يوجد الموت فلن نكون”. وبهذا يختلف الموت عن المنام. نحضر المنام أو نراه، الموت غير قابل للإدراك باللغة، هو فعل: مات. بعد أقل من أسبوع من وفاة جده، خشي صديقي الإيطالي فريدريكو بيناري رؤية جده في المنام، ليس لأن رؤية الميت أو لمسه دعوة إلى العالم الآخر، بل خوفاً من انتقال الفايروس: “سأرتبك في الحلم، ليس خوفاً من لمس الميت، بل الموبوء”. الموت أقرب إلى المخيلة والتقبل البشري من الوباء. الموت أزلي، الوباء طارئ. لذلك ترد أنباء عن ممارسات حرق جثث المرضى في أماكن بعيدة من المدن.

جثة المريض، وجثة المختلف سياسياً

منذ عام 2012، روي عن حدائق عامة، في حمص تحديداً، تحولت إلى مقابر. كثرة الضحايا، اكتظاظ المقابر، صعوبة نقل الجثث بين منطقة وأخرى، دفعت الناس إلى دفن الجثث في الحدائق العامة. كتب نبراس شحيد تحت عنوان “الحديقة بين قبلتين” عن مشهد العشاق في الحدائق يتبادلون القبل فوق حضور الموت. كما سجل صحافي شهادة مصورة يؤكد فيها ممارسات حرق الجثث في معمل السكر في إدلب. لكن ما هو أكيد، أن القبور في الحدائق نبشت بعد فترة، ونقلت الجثث إلى أماكن أخرى مجهولة. وإذا كان لضحايا الكورونا مكان احتراق أو تحلل معروف على وجه البسيطة، فإن المعارض السياسي يختفي دون معبر بين الوجود والعدم، الاختفاء القسري. مؤخراَ، انتشرت فيديوات جديدة تبين ممارسات المنتصرين على قبور المهزومين. إن طريقة التعامل مع جثث مرضى الفايروس تفترضه رغبة الحفاظ على النوع الإنساني من الفناء، أما في الحروب السياسية فإن رغبة إفناء الآخر- المختلف هي المحرك الأساسي.

الفرجة على الموت

تحت عنوان “عندما مات الموت”، يكتب بيري ساندرز عن الحرب الأهلية الأميركية التي دامت 4 سنوات، ونشرت الموت حتى أصبح متوسط العمر أربعين عاماً، ووصلت نسبة وفيات الأطفال عشرة أضعاف ما هي عليه اليوم. وعام 1842 أصابت الكوليرا نيويورك. كتب التاجر الثري جون بنتارد إلى ابنته، عن وجهة نظر الطبقة العليا في الطبقة الدنيا “الوباء ينحصر تقريباً في الطبقات الدنيا، أولئك المدمنون والفاسقون والفاحشون الذين يحتشدون معاً كالخنازير في عاداتهم الملوثة”، مما يذكر في خطاب الإعلام اللبناني الذي يحمل الناس مسؤولية انتشار الوباء، ويصفهم بـ”بلا مخ”.

إن الحضور القوي للموت في القرن 19 و20، نتجت عنه ابتكارات تقنية جديدة غايتها استنساخ الواقع. لقد كان القرن 19 ومن بعده 20 الأكثر دموية في التاريخ، فتشكلت ظواهر جديدة متعلقة بالموت. أصبحت ميادين الحروب مكاناً للبحث عن المفقودين، وتحولت غرف الجثث المكدسة إلى فرجة. لقد جذبت غرف الجثث الجمهور في باريس، أحب الناس زيارتها. وأقيمت معارض الموت الجماعي. كان ماثيو برادي هو الأب لما ندعوه اليوم بالتصوير الصحفي الحربي، اختار برادي لمعرضه الأول المئات من الصور للمعارك الأكثر دموية، فقد أكبر دليل صوري على القتل الجماعي الذي حدث في الحرب إلى الآلاف والآلاف من الناظرين. أحب الأميركيون التحديق في الموت. لم يتمكنوا أن يغضوا الطرف ولم يتمكنوا من الابتعاد من الموت. أما في أميركا فإعادة هيكلة المقابر، وبروز مفهوم الجندي المجهول: فمنذ الثلاثينات من القرن 19 خضعت أميركا إلى إعادة هيكلة للمقابر حتى أن المعاصرين يسمون هذه الفترة “الحركة القبرية”. فقد تحولت المقابر التقليدية إلى منتزهات كبيرة ذات أشجار ومروج متموجة وبحيرات. وبيعت أعداد كبيرة من الصور لهذه المقابر التي تشبه المتنزهات، حيث يتمكن الزوار من المجيء للتنزه والتأمل.

الموت “اللايف”

وتفرج العالم على الحرب الأهلية اللبنانية، وحروب البوسنة والبلقان، وأخيراً على المجازر السورية، عبر التلفاز، بشكل مباشر وحي. وتهافت الناس إلى فيديوهات اليوتيوب التي تنشرها منظمات التشدد الديني، من حرق، قطع رؤوس، وتنكيل، كانت تبث بعد لحظات من وقوع الحدث. ربما اعتادت العين الإنسانية على دمار مدن بأكملها، لكننا تفوقنا على أي خيال قبلنا، حين استوعبنا أن يتعرض المئات للقصف الكيماوي. في البداية، اعترضت الدول الكبرى من هول الصدمة الأخلاقي، لكن تشابك العلاقات الدولية كان مسكناً حتمياً، لأي حمية طويلة الأمد وفعالة. 

فإن الوفيات من جراء الكوارث البيئية والأمراض الحيوية تخدم استمرار النوع، لكن الموت بالحروب يخدم خطابات مثل هذه: ” أمتنا سوف تستمر، لابد أن تستمر. الموت ليس معيقاً للتقدم. يمكننا أن نبني مقابر لدفن الموتى. يمكننا أن نتلو صلواتنا، ونلقي خطاباتنا القصيرة جداً، بعد ذلك يتوجب علينا أن نتحرك إلى الأمام”، هو خطاب ابراهام لينكولن خلال الحرب الأهلية الأميركية، لكنه يصح على أي سياسي آخر في حروب أي بقعة من العالم. 

بداية القرن العشرين، جدد التيار الوجودي في كتابات جان بول سارتر، وألبير كامو، وعبد الرحمن البدوي تأكيد اعتبار الإدراك الفكري للموت أساساً للوعي. إن الوعي بالموت هو جوهر الوجود، والمحرك الأساسي لأفعالنا. وكما هو متعارف عليه فإن لحظة الوعي تراجيدية على الدوام. يترافق اكتشاف عيوبنا مع شعور بالعار والخجل، ولكن بدونه كانت ستستمر الأمور على غشاوتنا. إن الوعي مخزي للبرهة الأولى عن الجهل أو الغشاوة التي كنا عليها، لكنها لحظة مهمة للمستقبل.

فالسؤال الذي ينطبق على حضور الموت في الحرب الأهلية اللبنانية، ومن بعد تكاثر تنويعاته الوحشية في المأساة السورية، وصولاً إلى حضوره على المستوى العالمي مع وباء “كورونا”، يتكرر: ما هي المعرفة أو الوعي الذي تدفع الإنسانية ثمنه من الضحايا؟ وبالأدق إن الموت يشكل صدمة ولا بد أنها تثير الأسئلة والوعي. لا شك في أن حضور الموت في كل النماذج السابقة فرض التأمل والتفكر في كل مرة بطريقة مختلفة، ولكن أحداً لا يمكنه أن يدعي القدرة على تحديد نتائج التجربة. 

لكني أرغب أن أورد في النهاية، كلمات أغنية أبدعها مجموعة من الفنانين السوريين العام 2014، بعنوان “بحب الموت”. لا يمكن تخيل كلمات الأغنية وأفكارها سابقاً. تسخر الأغنية من الموت، وتصف بدقة تنوع الأسلحة التي استعملت في حصد الجثث. تتمنى المغنية أن تعيش الموت بكل الأسلحة الخلاقة والمبتكرة معاً. 

بحب الموت برصاصة من روسية أو قناصة

تفتح راسي تفضح عيني بدي أتشهد يبطل فيني

بحب الموت وأنا صافن، هيك بالصدفة بشي هاون.

تطير الفكرة تيجي السكرة متل رجلي ما عاد في بكرة.

بحب الموت بالسكين من هويتي بإسم الدين

يقطعوني يوصلوني بتسلوا بدمي يسبحوني

بحب الموت بالتفجيرين شوا جلدي أشلاءي تطير

بحب الموت بالكيماوي     شو ظريف ألاوي.

الأغنية من كلمات: بتول محمد.

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!