fbpx

البيئة والغذاء في عالم مصاب بالوباء

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هناك علاقة وثيقة بين انتشار الأوبئة المستجدة مثل سارس، إيبولا و”كورونا”، والنشاط البشري بالقرب من موائل الحيوانات التي تعتبر خزاناً للأمراض الحيوانية، ناهيك باستهلاك اللحوم البرّية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في مطعم محلي في شمال مقاطعة كيبيك في كندا، تُقدم فيه وجبات من اللحوم البرّية اللذيذة، لحم بايسن (الثور الأميركي) تحديداً، دفعني الفضول الصحافي إلى طرح سؤال على الجالسين عن إمكان الحصول على لحم بايسن في مطاعم المدن الكبيرة التي أتينا منها، مثل مونتريال وتورونتو. اقتصرت أجوبة الجالسين الذين كانوا من مشارب أكاديمية مختلفة حول الانثروبولوجيا والتداخل الثقافي، على طبيعة العلاقة بين المجتمعات المحلية والحياة البرّية: ولو تم السماح بتجارة لحم الثور الأميركي والحيوانات البرّية الأخرى وبيعها في المدن الكبيرة، لخلت طبيعة شمال أميركا من تلك الحيوانات التي لطالما تميزت بها. أما من جهة المجتمعات المحلية فهي جزء من النظام الطبيعي وتشكل اللحوم البرّية مصدر غذائها الأساسي، ولا يمكن تالياً، حظر صيد الثور الأميركي وعجل البحر والأسمال. 

أسوق هذا القصة في سياق سجال ساخن اليوم عن إمكان حظر اللحوم البرّية جراء انتشار وباء “كورونا” المستجد في العالم. ينطلق الحديث عن ضرورة حظر التجارة باللحوم البرّية وإغلاق الأسواق الرائجة لها في العالم من دراسات وبحوث علمية حول إمكان انتقال الأمراض الحيوانية إلى البشر من خلال أسواق الحيوانات الرطبة والتجارة العالمية غير القانونية بالحيوانات البرّية وتدمير موائلها الطبيعية. وأشارت نظرية علمية إلى أن كوفيد-19 انتقل من حيوان بنغولين إلى الإنسان في سوق شهير في مدينة ووهان الصينية، مركز تفشي الوباء، لبيع اللحوم البرّية. وتناولت دراسات علمية وبيئية أخرى العلاقة الوثيقة بين انتشار الأوبئة المستجدة مثل سارس، إيبولا و”كورونا”، وبين النشاط البشري بالقرب من موائل الحيوانات التي تعتبر خزاناً للأمراض الحيوانية Zoonotic diseases، ناهيك باستهلاك اللحوم البرّية. وقد حدث شيء مشابه أثناء تفشي فايروس “إيبولا” عام 2014 في الغرب الأفريقي للسبب ذاته بحسب العلماء. وصاحب الحدث عامذاك سجال آخر مشابه، إذ كان يرى الناشطون والخبراء البيئيون أن المرض أمر جيد لحماية الحياة البرية ما دام يؤدي إلى التوقف عن استهلاك لحوم الحيوانات البرّية. 

وتعود أسباب تفشي الفايروسات الحيوانية في المستوطنات البشرية بالدرجة الأساس إلى الاتصال المباشر بين الإنسان والحيوان، وذلك بسبب إزالة المساحات البرّية التي تفصل بينهما. أي أن المشكلة ترتبط إلى حد كبير بإزالة الغابات وتدهور موائل الحيوانات، الأمر الذي يؤدي إلى تقلبات بيئية تسهل انتقال الأمراض إلى البشر. ويعد النشاط الزراعي واتساع العمران وشبكات المواصلات وسكك الحديد والاتجار غير القانوني بالحيوانات، من الأسباب المباشرة في تهجير الحيوانات وتدمير مستوطناتها. ما يحدث بالتالي هو أن النشاط البشري بالقرب أو في خزان الفيروسات والقضاء على ملاجئ الحيوانات ومصادرها غذائها، يسبب نزوحها الى التجمعات البشرية. وبحسب المركز الأميركي لمراقبة الأمراض والوقاية منها CDC، إن الحيوانات هي مصدر 60 في المئة من الأمراض المعدية، أي أن ثلاثة من أصل كل أربعة أمراض معدية حيوانية المصدر. وانتقلت الأوبئة منذ القدم، مثل الموت الأسود في القرن الرابع عشر في أوروبا، طاعون مارسيليا في القرن الثامن عشر، فايروس إنفلونزا الإسبانية في القرن العشرين والأوبئة الأخرى في العالم، من الحيوانات إلى البشر. 

تعود أسباب تفشي الفايروسات الحيوانية في المستوطنات البشرية بالدرجة الأساس إلى الاتصال المباشر بين الإنسان والحيوان.

يعود سبب آخر من أسباب الأوبئة إلى جلب خزانات الفايروسات إلى البيئات التي يفضلها الإنسان لنفسه مثل أسواق الحيوانات الحية أو أسواق التجارة بالحيوانات الأليفة. وتعد هذه البيئات التي تسمى الأوعية الرطبة، وتقدر قيمة التجارة فيها بمليارات الدولارات، إضافة إلى أنها تخريب بفعل فاعل للطبيعة والتنوع الأحيائي، مصدراً مباشراً لانتقال الأمراض إلى البشر. ولا يتعلق الأمر هنا بحاجة المجتمعات المحلية للبروتين ومصادر غذائها فقط، إنما بتجارة عالمية غير قانونية بالحيوانات البرّية لا تعرف الحدود الوطنية للبلدان ولها أسواق لا تقل خطورتها عن أسواق المخدرات في العالم. 

على رغم ذلك، تشكل لحوم الحيوانات البرّية مصدر الغذاء والبروتين لملايين الأشخاص في العالم، المجتمعات المحلية الريفية تحديداً. وما يميز نمط استهلاك هذه المجتمعات للحوم البرّية عن المجتمعات الحضرية هو الفطرة في الحفاظ على التوازن الطبيعي بغية عدم استنفاد موارد غذائها وعيشها، فيما يتميز النمط الحضري بالمفاخرة الغذائية أو رغبة الاستمرار على النمط الغذائي الريفي التقليدي، وذلك على رغم وفرة مصادر اللحوم الأخرى وبأسعار معقولة في المدن. وقد يكون طبق لحم الثور الأميركي شهياً ونوعاً من المفاخرة الغذائية، ولكن ماذا عن تلك المجتمعات الفقيرة التي تلجأ إلى تربية الحشرات للحصول على الغذاء والبروتين، في بلد مثل كمبوديا على سبيل المثال؟

صفوة القول، من شأن حظر الأسواق الرطبة بيع الحيوانات البرّية والاتجار بها، حماية للنظام الطبيعي وتنوع الحياة البرّية، إنما على الدول الموقعة على معاهدة التجارة العالمية لأصناف الحيوان والنبات البرّي المهدد بالانقراض، أن توقف الاتجار بالحياة البرّية والحيوانات في المدن، إنما ليس على حساب المجتمعات المحلية. وفي هذه الأيام، حيث يحتل السجال حول حظر التجارة بالحيوانات البرّية مساحة واسعة في السجال الدولي جراء الوباء، ترى منظمات دولية مهتمة بحفظ الطبيعة وتنوع الحياة البرّية أن الاستغلال المستدام لموارد الطبيعة يعود بالفائدة للمجتمعات المحلية والطبيعة معاً. وبحسب هانا رضا، وهي باحثة بيئية من كُردستان العراق وعضوة في منظمة الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة IUCN، “إن الإدارة الجيدة للسياحة البيئية والصيد المستدام تفيد المجتمعات المحلية والطبيعة معاً”، ذاك أن النهج الذي تعتمده المجتمعات المحلية في استغلال الطبيعة والحياة البرّية والغابات للحصول على مصادر عيشها، يعد طريقة ناجحة في حماية البيئة والطبيعة. 

ويشير باحثون في جامعة أوكسفورد في مقال نشره موقع كونفيرزَيشن إلى استغلال الحياة البرية بشكل يومي على مستوى العالم، من النباتات الطبية والفطريات الصالحة للأكل، إلى اللحوم البرية في أوروبا وأميركا الشمالية والجنوب الأفريقي وأماكن أخرى. وتُمكّن تجارة الحياة البرية بحسب المقال، الناس في أنحاء كثيرة من العالم من تلبية احتياجاتهم الأساسية ويمكن أن توفر منافع كسب العيش من الحصاد أو الزراعة واللحوم.

من شأن حظر الأسواق الرطبة بيع الحيوانات البرّية والاتجار بها، حماية للنظام الطبيعي وتنوع الحياة البرّية.

ولكن لا يخلو هذا الاستغلال اليومي للحياة البرّية والبحرية من آثار مدمرة على الطبيعة إذ تكثر فيها الحرائق ومساحات التصحر واجتثاث الغابات العذراء. وفي هذا السياق، يكتب باحثان فرنسيان في مقال نشره موقع مركز البحوث الحرجية الدولية، كيف أن الكثير من الغابات الاستوائية يواجه متلازمة “الغابات الفارغة”، أي أنها غابات في وضع جيد، إنما مستنفدة من الحيوانات الكبيرة بسبب الصيد الجائر والمرض وتأثير تغير المناخ وإزالة الغابات وتدهورها. ويشير كاتبا المقال كل من روبير ناسي وجون فا، إلى ضرورة الحفاظ على حيوانات البرية في موائلها وتمكين المجتمعات المحلية من استخدام هذا المورد، إنما تواجه المجتمعات التي تستهلك اللحوم البرية بشكل مستدام كمصدر للبروتين الغذائي، منافسة متزايدة من إزالة الغابات، فقدان التنوع الأحيائي بسبب التجارة القانونية وغير القانونية من قبل شركات وجهات تستولي على الأسواق البرّية والحضرية معاً. 

وسيكون من المفيد أن أنهي مقالي هذا بجملة يقول فيها الكاتبان المذكوران: يجب استكشاف العلاقة المتداخلة بين استهلاك اللحوم البرية والأمن الغذائي وتخفيف وطأة الفقر في وقت واحد عند اتخاذ القرارات، من دون الاعتماد على خطاب استعماري عفا عليه الزمن يفضل الحياة البرية على الناس.