fbpx

سعر صرف الليرة اللبنانية: هكذا بتنا جميعاً أفقر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

المؤشّرات كلها تقود إلى حقيقة واحدة، مفادها أن التدهور في سعر الصرف مستمر، ومعه يستمر واقع التدهور المعيشي لدى الغالبيّة الساحقة من اللبنانيين.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يخبرك الصرّاف في منطقة الغبيري أنّ سعر الصرف بلغ 3260 ليرة مقابل الدولار، قبل أن يغيب دقيقة ثم يعود، ويصبح السعر 3270. الزحمة قاتلة هنا، و”كورونا” ليس الهاجس الأوّل لطابور المنتظرين. كل تردد أو انتظار ثمنه المزيد من المخاطرة إمّا بصحّتك، أو بسعر صرف أعلى. توافق على السعر المستجد وبسرعة، تحت ضغط الهاجسين معاً، وبينما تهم بالمغادرة تسمع صوت الصرّاف ينادي بمن تبقّى من زبائن “وقّفنا بيع دولار اليوم، خلص الدولار، اللي بدو نشتري منو بس يضل”. معظم الصرّافين أوقفوا بيع الدولار تباعاً ذلك اليوم، على وقع توقّعات بمزيد من الارتفاع في سعر الصرف خلال الأيام المقبلة. وعلى قارعة الطريق، يصطف “تجّار الرصيف” الذين أغرتهم السوق المتذبذبة والملتهبة، يحملون رزمات النقود ويلوّحون بها للتعريف عن غاية وقوفهم، وأغلبهم من الذين يشترون الدولارات لا العكس، ربّما للسبب ذاته الذي دفع الصرّافين إلى التوقّف عن بيع الدولار.

قد يبدو المشهد مثيراً، على طريقة المشاهد التي تعرض انفعال الوسطاء وفوراتهم في بورصات الدول الأجنبيّة، لولا أنّنا نتحدّث هنا عن العملة التي تحدد قيمتها القوّة الشرائيّة للبنانيين، وبالتالي مستواهم المعيشي. فكل تقهقر في سعر صرف الليرة يعني تلقائيّاً تقهقر قيمة مداخيل اللبنانيين المقوّمة بأغلبيتها الساحقة بالعملة المحليّة، مقابل أسعار السلع المستوردة التي ترتفع قيمتها بالليرة بشكل هستيري. وفي الوقت الحالي، لا يبدو أنّ ظاهرة ارتفاع سعر الصرف في طريقها إلى الانحسار، وذلك بالنظر إلى جميع المؤشرات الضاغطة سواء من ناحية العرض أو الطلب.

مصادر الدولار تنقطع تدريجيّاً

كانت الشرارة الأولى التي أطلقت العنان لارتفاع سعر الصرف في السوق الموازية هي بداية امتناع المصارف عن صرف الدولار مقابل الليرة وفق السعر الرسمي قبل اندلاع الثورة في شهر تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي. في ذلك الوقت، وضعت المصارف شروطاً قاسية لعمليات الصرف هذه، مثل تجميد المبلغ لفترات طويلة بعد إجراء العمليّة، وهو ما دفع التجّار إلى اللجوء للسوق الموازية لشراء الدولار. وقبل يوم واحد من اندلاع الثورة، بلغ سعر الصرف في السوق الموازية حدود 1620 ليرة. لكنّ مسار الارتفاع الأقسى بدأ فعليّاً بعد فتح المصارف لاحقاً وفرض قيود قاسية على عمليات سحب الودائع بالدولار الأميركي، فهذه الإجراءات حصرت عمليّاً أكبر مصادر العرض للسيولة بالدولار الأميركي، مع إبقائه ضمن حدود ضيئلة جدّاً تحددها سقوف السحب نصف الشهريّة التي وضعتها المصارف لعملائها.

حملت الخطّة بصمات شركة “لازارد”، وهي الشركة الماليّة الاستشاريّة للحكومة، من دون أن تحمل الخطة أي طابع اقتصادي متين، يضمن إنتاجيّة الاقتصاد اللبناني على المدى الأطول. وبغياب هذه المعالجة تحديداً، سيدفع اللبنانيون ثمن هذا الانهيار

لكنّ السوق ما لبث أن تلقّى ضربة أقسى هذه المرّة منذ منتصف آذار/ مارس، حين أعلنت المصارف الإقفال التام ووقف السحوبات بالدولار كلّياً، بما فيها تلك التي يتلقّاها أصحابها حديثاً من الخارج، والتي لم تكن تخضع حتّى ذلك الوقت لأي قيود. تحججت المصارف في ذلك الوقت بإجراءات التعبئة العامّة التي أعلنتها الحكومة اللبنانيّة، على رغم أن هذه الإجراءات استثنتها بشكل صريح وواضح. وفي كل الحالات، أدّت هذه الإجراءات إلى قطع هذا المصدر من مصادر عرض الدولار بشكل تام، بما فيها الدولارات التي كان يتمكّن أصحابها من سحبها بعد تحويلها إليهم من الخارج.

بحسب جميع المؤشرات، يرتبط هذا القرار تحديداً بتطوّر شديد الخطورة شهدته ميزانيّات المصارف. فالمصارف اللبنانيّة استنزفت بين شهري تشرين الأوّل وآذار الماضيين الجزء الأكبر من سيولتها الموجودة في المصارف الأجنبيّة، والتي كانت تلجأ إليها لشراء الدولار النقدي. وما تبقّى من هذه السيولة اليوم تقابله التزامات خارجيّة لا تقل حجماً عنها، وهو ما يعني عدم قدرتها على استعمال هذه الحسابات لتوفير السيولة الدولاريّة في الأسواق. ما يعنيه هذا باختصار، هو أنّ انقطاع الدولار من ناحية السحوبات النقديّة من المصارف لن يكون مسألة ظرفيّة أو قصيرة الأجل. وبانتظار “ترميم” الميزانيّات المصرفيّة، سيكون على اللبنانيين التأقلم مع فكرة انسداد هذا المصدر من مصادر السيولة بالعملة الصعبة.

المصدر الثاني للدولار المصرفي موجود لدى مصرف لبنان، ضمن احتياطي العملات الصعبة. أرقام المصرف المركزي كانت تشير إلى بلوغ هذه الاحتياطات مستوى الـ28.3 مليار دولار أميركي، حتّى نهاية شهر شباط/ فبراير الماضي. لكنّ وكالة “فيتش” أشارت في تقرير سابق إلى أنّ هذا الرقم لا يعكس بدقّة حجم الأموال القابلة للاستخدام عند الحاجة، بالنظر إلى تضمينه موجودات مشكوك بإمكان استخدامها مثل سندات خزينة صادرة عن الدولة اللبنانيّة. بعد إعلان الدولة اللبنانيّة امتناعها عن سداد سندات اليوروبوند، تبيّن بحسب تقرير لوزارة الماليّة أن الاحتياطي الفعلي توازي قيمته نحو الـ22 مليار دولار، بينها 14 مليار دولار غير قابلة للاستخدام لكونها احتياطات إلزاميّة من أموال مودعي المصارف، ما يجعل الهامش الذي يستطيع مصرف لبنان التحرّك فيه نحو 8 مليارات دولار فقط. 

هذه القيمة الضئيلة من الاحتياطات لا تتجاوز نسبتها الـ42 في المئة من قيمة البضائع التي استوردها لبنان عام 2019، وهو ما يجعل المصرف المركزي يتشدد في الحفاظ عليها. وبالتالي يمكن اعتبار أن هذه الاحتياطات باتت خارج الحسبان في ما يتعلّق بسوق القطع، باستثناء حالات تأمين الدولار لاستيراد المواد الحيويّة مثل القمح والدواء والمحروقات. وعلى رغم انتشار بعض الصور التي ادعت أنّ مصرف لبنان تدخّل لتوفير الدولارات لدى الصرّافين، سرعان ما تم نفي هذه الادعاءات من قبل كبار الصيارفة، الذين أكّدوا أنّ مصرف لبنان تدخّل منذ فترة لكن لشراء الدولار من الأسواق لا لبيعه. وفي كل الحالات، من المستبعد أن يكون أي تدخّل مشابه لمصرف لبنان ذات أثر أو حجم كبيرين، كون هذا النوع من التدخلات يناقض ما يقوم به من إجراءات موازية مثل مصادرة الدولارات الناتجة من التحويلات الخارجيّة.

في النهاية، كان المصدر الأخير للعرض يأتي من الدولارات التي يقوم المغتربون بتحويلها من خارج النظام المصرفي، عبر شركات تحويل الأموال. لكنّ هذا المصدر بدوره تلقّى ضربتين: الأولى حين تراجعت موارد المغتربين في دول الاغتراب، بالتوازي مع حلول أزمة “كورونا” فيها. أما الضربة الثانية فكانت حين قرر المصرف المركزي مصادرة دولارات هذه التحويلات وصرف قيمتها بالليرة اللبنانيّة. قرار المصرف المركزي كان يعني ببساطة حرمان السوق المحلّي من آخر مصدر يمكن الاعتماد عليه لتأمين الدولارات النقديّة، وتحويله إلى مصدر لضخ المزيد من السيولة بالليرة اللبنانيّة التي تضغط على سعر صرف الليرة بشكل سلبي.

الطلب مستمر ويزداد قسوة

تشح مصادر عرض الدولار في السوق، وفي المقابل يستمر الطلب على حاله. في شهر شباط/ فبراير الماضي، بلغ عجز ميزان المدفوعات نحو النصف مليار دولار، أي بمعدّل سنوي يصل إلى نحو 6 مليارات دولار. وهذه القيمة تلخّص صافي التحويلات الماليّة بين لبنان والخارج، بما فيها تلك التي تحتاجها البلاد للاستيراد. وخلال الفترة الماضية، ازداد الطلب حدّة مع قرار مصرف لبنان القاضي بالسماح بسحب قيمة الودائع التي تقل قيمتها عن ثلاثة آلاف دولار بالليرة اللبنانيّة، ووفق سعر صرف بلغ حدود الـ2600 ليرة مقابل الدولار الواحد. القرار الأخير، كان يعني ببساطة ضخ المزيد من الليرات في الاقتصاد اللبناني، التي ستتحوّل لاحقاً إلى طلب على الدولار من خلال الاستهلاك أو من خلال تحويلها للدولار للادخار.

المؤشّرات كلها تقود إلى حقيقة واحدة، مفادها أن التدهور في سعر الصرف مستمر، ومعه يستمر واقع التدهور المعيشي لدى الغالبيّة الساحقة من اللبنانيين. المعالجة البدهيّة المطلوبة منذ سنوات كانت تفعيل القطاعات الإنتاجيّة بشكل طارئ، أوّلاً بهدف تحييد عامل سعر الصرف قدر الإمكان، من خلال تقليص نسبة البضائع المستوردة في سلّة اللبنانيين الاستهلاكيّة، وثانياً بهدف تخفيف القدر المتدفّق من العملة الصعبة إلى الخارج من خلال الاستيراد، وثالثاً للتخلّص من ظاهرة إدمان الاقتصاد اللبناني على التحويلات الخارجيّة، هي ظاهرة كان لها الدور الرئيسي في الأزمة النقديّة تحديداً. لكنّ معالجات الحكومة حتّى اللحظة ما زالت بعيدة من التعاطي مع هذا الجانب من الأزمة، فيما ركّزت خطّة الإصلاح الحكومي على المعالجات الماليّة حصراً. 

بالتأكيد، لدى الحكومة أسبابها لتجاهل المعالجات المطلوبة هذه، فالسعي وراء صندوق النقد الدولي يستلزم خطّة ذات أولويّات ماليّة متينة، من النوع الذي يضمن للدائنين الجدد أن الدولة ستستعيد قدرتها على الإيفاء بالتزاماتها لاحقاً. ولذلك، حملت الخطّة بصمات شركة “لازارد”، وهي الشركة الماليّة الاستشاريّة للحكومة، من دون أن تحمل الخطة أي طابع اقتصادي متين، يضمن إنتاجيّة الاقتصاد اللبناني على المدى الأطول. وبغياب هذه المعالجة تحديداً، سيدفع اللبنانيون ثمن هذا الانهيار من خلال الأزمة النقديّة القائمة، ولن تكون هذه الأزمة عقبة أمام الخطة التي تذهب إليها الحكومة، التي تؤكّد أساساً اتجاهها نحو تحرير سعر الصرف.