fbpx

كيف يصبح سعر برميل النفط تحت الصفر؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

النفط دينمو الكثير من حروب الجيوش بالأصالة أو الميليشيات بالوكالة في منطقتنا، وثمّة الكثير من الدول التي لن تقوى على تمويل عمقها الاستراتيجي إذا ظلّت أسعار النفط عند مستويات تقل عن ثمن إنتاج البرميل لديها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

مع انتهاء مداولات يوم الإثنين 21 نيسان/ أبريل 2020، كانت أسعار العقود الآجلة لنفط غرب تكساس تسليم شهر أيار/ مايو، بلغت مستوى الـ37.63 دولار تحت الصفر للبرميل الواحد، مع العلم أن أسعار العقود نفسها كانت تدنّت إلى ما دون الـ40 دولاراً تحت الصفر في وقت سابق خلال النهار نفسه. ما يعنيه ذلك ببساطة هو أنّ مشتري هذه العقود الأميركيّة باتوا يتلقون المال بدل دفعه، مقابل براميل النفط التي سيتم تسليمها في أيّار المقبل. وفي أماكن أخرى من العالم، كان يتم تسجيل الظاهرة نفسها: العقود الفوريّة لخام أورال الروسي بيعت عند مستويات 3 دولارات تحت الصفر للبرميل، فيما بيعت عقود خام برنت بحر الشمال عند مستوى 3.5 دولار تحت الصفر للبرميل. 

سيحتاج العالم إلى الكثير من الوقت لهضم تداعيات ما يحصل في سوق النفط الآن، سواء لناحية آثار هذه الأسعار على البلدان المنتجة للنفط، أو على البلدان الصناعيّة المستوردة له، خصوصاً أنّ ما حصل من وصول الأسعار إلى مستويات سلبيّة كان سابقة تحدث للمرّة الأولى في تاريخ الأسواق. لكنّ التنبّؤ بمسقبل مسار الأسعار وتداعيتها، يستدعي أوّلاً فهم الظروف التي تلاقت لتؤدّي إلى هذه الظاهرة، من أزمة انخفاض الطلب إلى حرب الأسعار وصولاً إلى أزمة التخزين. 

السوق تضيق والموردون يتوسّعون

مع تفشّي وباء “كورونا”، دخل أكثر من نصف سكّان العالم في نطاق أشكال مختلفة من إجراءات العزل، التي استهدفت الحد من النشاط الاقتصادي والتنقلات والسفر. كانت النتيجة الطبيعيّة لكل هذه الإجراءات انخفاض الطلب على مصادر الطاقة إلى أدنى مستوياتها، بالنظر إلى تعطّل عجلة الحياة الاقتصاديّة وحتّى الاجتماعيّة في معظم الدول. في منتصف الشهر الحالي، كانت وكالة الطاقة الدوليّة توقّعت انخفاض الطلب العالمي على النفط بنحو 23.1 مليون برميل يوميّاً، بينما كان المعدّل العالمي يبلغ نحو 100 مليون برميل يوميّاً قبل انتشار الوباء. وبذلك، تكون الوكالة قد توقّعت خسارة أكثر من 23 في المئة من الطلب الموجود على النفط في العالم. 

كان من البدهي في هذه الظروف أن تتلاقى مصلحة المنتجين على تخفيض الإنتاج بالتوازي مع انخفاض الطلب، لكن ما حصل عملياً كان العكس تماماً. فخلال الفترة نفسها، انتهى باتفاق دول أوبك+ على خفض الإنتاج، وهو ما فتح الباب أمام حرب أسعار شعواء بين المملكة السعوديّة وروسيا، وهي حرب استهدفت بالدرجة الأولى التسابق على أسواق النفط وبالأخص السوق الآسيويّة. وفي مطلع آذار/ مارس، أعلنت شركة آرامكو تلقّيها توجيهات من وزارة الطاقة السعوديّة برفع مستوى الإنتاج بنحو المليون برميل يوميّاً، فيما أعلنت الإمارات الوقوف إلى جانب المملكة بإعلانها تسريع التقدّم للوصول إلى سعة إنتاجيّة تبلغ 5 ملايين برميل يوميّاً من النفط. في المقابل، كانت روسيا تؤكّد أنّها لن تضع قيود على إنتاجها النفطي بعد انتهاء الإتفاق. 

أدّى هذا التسابق إلى إغراق السوق العالميّة بالإنتاج، فبينما كانت رقعة الطلب تتقلّص، كانت الدول المنتجة تتوسّع في تزويد الأسواق بإنتاجها النفطي، وهو ما أدّى إلى دخول الأسعار مرحلة التدهور السريع. تمكّنت دول أوبك+ من التوصّل لاحقاً إلى إتفاق لإعادة الحد من الإنتاج، لكن الاتفاق لم يتمكّن من تأمين المعالجات المطلوبة على المدى القصير لأسباب عدّة. فالاتفاق لن يدخل حيّز التنفيذ قبل شهر أيار 2020، وحتّى بعد دخوله حيّز التنفيذ فهو لن يقلّص المعروض النفطي سوى بمقدار 10 ملايين برميل يوميّاً، وهو ما لا يتجاوز نصف الفائض الحالي في الإنتاج. وحتّى إذا افترضنا أن الاتفاق سيقلّص الإنتاج إلى الحدود المطلوبة، فمن المتوقّع أن تحتاج الأسوق إلى أشهر قبل استعادة توازنها والتخلّص من فائض العرض الذي تسببت به حرب الأسعار بين المنتجين. 

أزمة التخزين في الولايات المتحدة

خلل التوازن في السوق طوال الفترة الماضية أنتج تراكماً يومياً من المخزون غير المباع، قدّرته وكالة الطاقة الدوليّة بنحو 12 مليون برميل يوميّاً. ثمّة إشكاليّة كبرى هنا، فالشركات المنتجة لا تستطيع إيقاف العمل في الحقول التي تستثمرها، على رغم خسائرها جرّاء انخفاض سعر النفط، كون إيقاف العمل في هذه الحقول سيرتّب خسائر أكبر من خسائر تدنّي الأسعار. ولذلك، بدأ الفائض المتراكم من الإنتاج النفطي يضغط تدريجاً على المخازن العائمة في البحار ومراكز التخزين على اليابسة، وهو ما شكّل مقدّمة للانهيار الذي حصل في الأسواق.

في مركز تسليم النفط الخام في كوشينج في ولاية أوكلاهوما، بلغ حجم المخزونات نحو 55 مليون برميل، بينما بلغت أعلى مستوياتها على الإطلاق نحو 69 مليون برميل من النفط. بمعنى آخر، تبقّى لمراكز التسليم نحو14 مليون برميل قبل الوصول إلى مستوياتها القياسيّة، وهي مستويات ستصل إليها خلال فترة ثلاثة أسابيع، بحسب وتيرة الارتفاع الحاليّة. ومع وصول مراكز التخزين الاستراتيجيّة في الولايات المتحدة إلى مرحلة تلامس التخمة، تزايد الضغط لبيع النفط الخام بأي سعر.

سيحتاج العالم إلى الكثير من الوقت لهضم تداعيات ما يحصل في سوق النفط الآن.

وهكذا، بدأ الضغط بقوّة على عقود خام غرب تكساس تسليم شهر أيّار، خصوصاً مع اقتراب انتهاء صلاحية هذه العقود (الثلاثاء 21 نيسان). وفي ظل الضغط على مراكز التخزين، بدأ المستثمرون حرق أسعار هذه العقود للتخلّص منها قبل يوم الثلاثاء، وهو ما أدى إلى الانهيار الكبير في أسعار هذه العقود تحديداً. وعملياً، يفسّر هذا الشرح للموضوع عدم وصول عقود أخرى لخام غرب تكساس (بمواعيد تسليم أخرى) إلى المستويات السلبيّة ذاتها التي وصلت إليها عقود الخام الآجلة تسليم شهر أيار. 

عانت أسعار النفط في أماكن أخرى من العالم من الأزمة ذاتها، في كل ما يتعلّق بارتفاع مستويات المخزون واستمرار الإنتاج وفي المقابل انخفاض الطلب. لكنّ الأزمة لم تتجلَّ في أماكن كثيرة، بظاهرة الأسعار السلبيّة ذاتها التي شهدتها أسعار الخام الأميركي، لعدم وصول مراكز التخزين بعد إلى حالة تلامس التخمة كحالة المخزون الأميركي. لكنّ استمرار العوامل الضاغطة نفسها، ينذر بظواهر شبيهة. فعلى سبيل المثال، ما زال خام برنت يشهد مساره الانحداري، حيث بلغ أخيراً مستوى 21.47  دولار للبرميل، وهو ما يعني خسارته لأكثر من 60 في المئة من سعره منذ بداية العام.

كيف سيؤثّر ذلك في النشاط البترولي اللبناني؟

في الحالة اللبنانيّة، يتركّز البحث في البلوكات البحريّة عن الغاز الطبيعي بالدرجة الأولى، لكنّ ذلك لا يعني عدم وجود أثر كبير لهذه التطوّرات على مسار التنقيب عن الغاز في المياه البحريّة اللبنانيّة. فبعد الخضّات التي شهدها القطاع على المستوى العالمي، والخسائر الماليّة الكبيرة التي منيت بها شركات النفط العالميّة، اتجهت الغالبيّة الساحقة من هذه الشركات إلى تأجيل أنشطتها الاستثماريّة الجديدة، والابتعاد قدر الإمكان من الانخراط في عقود جديدة. فعلى سبيل المثال، اتخذت الشركات البتروليّة العاملة في الجزائر والمغرب وتونس أخيراً قرارات كبيرة، قضت بتقليص إنتاجها وتجميد مشاريع تطوير حقولها القائمة، إضافة إلى تأجيل توقيع عقودها الجديدة للمشاريع الجديدة.

لبنان لم يكن بعيداً من المشهد، ويمكن من هذه الزاوية تحديداً فهم قرار وزارة الطاقة والمياه الأخير الذي قضى بتأجيل الموعد النهائي لقبول طلبات الشركات المهتمّة بدورة التراخيص الثانية، لغاية شهر حزيران/ يونيو المقبل. مع العلم أن جميع التقديرات تفيد بأرجحيّة تأجيل هذا الموعد مجدّداً، خصوصاً أن المشهد الحالي على مستوى الأسواق العالميّة لا يوحي بتعافي قطاع النفط حتّى ذلك الوقت. وحتّى إذا تعافت أسعار برميل النفط في حدود شهر حزيران –وهذا مستبعد في ظل استمرار انتشار الوباء حاليّاً- فالشركات التي سيحتاج لبنان إلى استقطابها لدورة التراخيص ستحتاج إلى المزيد من الوقت قبل التعافي والانخراط في مشاريع استثماريّة كبرى جديدة.

أما السؤال الأكبر فسيتعلّق تحديداً بمستقبل أنشطة الاستكشاف القائمة حاليّاً في البلوك رقم 4. فهذه الأنشطة تستهدف البحث عن مخزون الغاز بالدرجة الأولى من خلال البئر الاستكشافي، ومن المفترض أن تدرس الشركات المنخرطة في حفر البئر نتائج الحفر الاستكشافي وتقيّم جدوى تطوير الحقل، بالإستناد إلى كميات الغاز الموجودة (إذا وجدت). لكنّ تعرّض هذه الشركات إلى نكسات كبيرة في الخارج، والضغوط الماليّة الكبيرة التي تشهدها ميزانيّاتها، ستؤدّي إلى التشدد أكثر في معايير موافقتها على تطوير الحقل.

كيف سيستوعب العالم هذه المغيّرات؟

سيحتاج العالم إلى مزيد من الوقت لاستيعاب هذه المتغيّرات. النفط دينمو الكثير من حروب الجيوش بالأصالة أو الميليشيات بالوكالة في منطقتنا، وثمّة الكثير من الدول التي لن تقوى على تمويل عمقها الاستراتيجي إذا ظلّت أسعار النفط عند مستويات تقل عن ثمن إنتاج البرميل لديها. تمكّنت هذه الدول في السنوات الماضية من تجاوز انخفاضات معيّنة لفترات محدودة، لكن هل تقوى على الاستمرار في تمويل توسّعها إذا امتدّت الأزمة على فترة زمنيّة طويلة؟ 

والنفط رافعة ميزانيّات الكثير من الدول التي لم تطوّر بعد اقتصاداتها بما يضمن تقليص إدمانها على البترودولار، وميزانيّات هذه الدول تكيّفت مع تدفّقات الماليّة التي سخي فيها الذهب الأسود. فهل ستستطيع هذه الدول التكيّف مع واقع جديد قد تضطر فيه إلى التقشّف وتحمّل العجز لفترات زمنيّة معتبرة؟ 

وتكثر الأسئلة على هذه النحو، لكنّ المسألة في النهاية ستقف عند حدود سؤال واحد: كم سيستمر الوضع على هذا النحو في السوق النفطية؟ سيحيلنا السؤال إلى سؤال آخر عن مستقبل أزمة “كورونا”، وهذا ما لا تمكن الإجابة عنه بمؤشّرات الاقتصاد المعروفة. فمهما اتفقت الدول على تقليص إنتاجها، ستحتاج دوماً على إبقاء هامش من الإنتاج للحفاظ على حقولها على قيد الحياة طالما أن كلفة إقفال الحقول مؤلمة على المدى الأطول. وبالتالي، بالعامل الحاسم سيبقى عامل الطلب على النفط هو الأبرز، وهو ما يتوقّف على مستقبل أزمة وباء “كورونا”.