fbpx

المدن والأوبئة… الحلول في رؤية العالم السفلي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ربما علينا التفكير في أساليب علائقية جديدة مع الكائنات غير البشرية التي تعيش معنا بشكل دائم ولم تفد محاولاتنا بإخراجها من حياتنا.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

استطاعت المدن منذ الثورة الصناعية، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر تحديداً حيث التطور العمراني والمواصلات، أن تُنسي البشرية من أين يأتي غذاؤها. يملأ المستهلك سلته باللحوم والفواكه والبقوليات والخضر والخبز والقهوة والشاي، من دون أن يعرف شيئاً عن منبع تلك المواد الغذائية كلها، من ينتجها وكيف؟ حياة المدينة بصخبها وضجيجها واحتياجها المفرط إلى الغذاء والطاقة والمياه، افترضت وجود طبيعة لا نهائية في عطائها، فجعلت أمر استنفاد الموارد الطبيعية من المنسيات في ثقافتها ونمط الحياة فيها.

يا ترى ماذا يقول هذا الفايروس وماذا يظهر لنا؟ يعيدنا هذا السؤال إلى تشابك حياتنا البشرية والاجتماعية مع حياة جميع الكائنات الحية غير البشرية التي تشكل جزءاً من حياتنا

وهي بذلك جعلت من المدينة كمركز بذاتها ولذاتها، لكن في اللحظة التي أدى فيها تفشى وباء “كورونا” إلى إقفال المدن، وبدا “العزل” الاجتماعي خياراً اجتماعياً ذاتياً أكثر منه حكومياً، أعاد القلق على سبل الحصول على الغذاء، الناس إلى جهلهم حول العالم الذي يعيشون فيه، مثلما أعاد صور المزارعين إلى ذاكرة سكان المدن. 

من أين نأكل وهل تستمر مراكز التسوق في تلبية احتياجاتنا؟ لم تفكر البشرية بمثل هذه الأسئلة في زمن بدا فيه تحميل التطبيقات الذكية على أجهزة الهواتف المحمولة كفيلاً بتوفير الغذاء، لكن إقفال العالم بوجه الفايروس والبشر معاً، جعله سؤالاً يومياً، مثلما ولّد سؤالاً حول مسؤولية المدينة المحتملة عن الوباء وسرعة تفشيها القياسية. فبعد ظهور فعالية “العزل” الجسماني، على رغم احتمال صعود عدد الضحايا إلى مئات الآلاف، بدأ العلماء البحث عن منشأ الفايروس وهويته، ومسؤولية المدينة عن ظهورها. من هنا يسأل علماء البيئة والجغرافيا، هل المدينة مسؤولية عما حصل، هل الوباء هو رد فعل طبيعي تجاه توسع حركة العمران على حساب النظام الأيكولوجي؟ 

تكفينا نظرة سريعة كي نلاحظ الاختلال الحاصل في الأنظمة البيئية لمصلحة الغذاء والحيوانات الزراعية. ففيما يلامس عدد سكان الأرض اليوم 8 مليارات إنسان اليوم، يشكل عدد الحيوانات الزراعية، الأبقار تحديداً، 20 في المئة من الكتلة الحيوية الحيوانية على الكوكب، تحتل المزارع 30 في المئة من المناطق التي كانت تشكل جزءاً من التنوع البيولوجي في السابق، وتهدد اليوم ما يقارب 40 في المئة من المناطق الطبيعية المحمية. 

ويتصاعد هذا التهديد في العقود المقبلة (بحلول عام 2050) حين يلامس عدد سكان المدن ما يقارب 70 في المئة في المناطق الحضرية، مقارنة بالوضع الراهن حيث يعيش 55 في المئة، وفقاً لإحصاءات الأمم المتحدة عام 2018. ويزداد بذلك سكان المدن بنسبة 59 في المئة، وسيصبح عددهم حوالي 6.7 مليار شخص مقابل 4.2 مليار اليوم، بينما كان العدد 751 مليوناً عام 1950. وستشكل سرعة هذا النمو في حجم المدن وسكانها واحتياجها الهائل إلى الموارد الطبيعية ضغطاً غير مشهود على الأرض والأنظمة الأيكولوجية. 

يعتبر عالم الجغرافيا الفرنسي ميشيل لوسو، أن وباء “كورونا” هو سمة من سمات العولمة التي أثبتت أنها هشة وضعيفة.

ويرى أن انطلاقة العمران مع الثورة الصناعية في أواسط القرن التاسع عشر، والعولمة في النصف الثاني من القرن العشرين، “صدمتنا بمدى تطوير البشر التقنيات والوسائل والمهارات والمعارف التي تهدف بشكل منهجي إلى اعتبار الطبيعة كمجموعة من الموارد خارج المجتمع البشري ويمكننا الاعتماد عليها بطريقة تلبي احتياجات التنمية”، والتي ارتبطت على وجه الخصوص بالعمران والموارد الطبيعية التي يستوجبها، ناهيك بتوفير الغذاء والمياه والطاقة لأكثر من سكان العالم من الطبيعة ذاتها.

إن العمران المتزايد، وبخاصة بالقرب من المناطق الرطبة بدافع استغلالها للأغراض الزراعية، وذلك بسبب خصوبتها وإنتاجيتها، يعرض السكان لمخاطر ميكروبيولوجية كبيرة ويسبب توتراً عالياً في النظام الطبيعي. ويتركز النشاط العمراني المُعَمَم بالقرب من المناطق الرطبة والغابات وهي تشكل خزان الكائنات الحية الدقيقة، وكذلك في أطراف المدن الكبيرة، ما يساهم في ربطها بالحياة البرّية. إن نظرة المدينة إلى الطبيعة كمخزون من الموارد خارج المجتمع البشري ونوع من المناجم يمكننا استخراج ما نتمناه منها باستمرار، أظهر ضعفاً هائلاً أثناء تفشي الوباء الذي ولّد أشياء لم يكن الوعي البشري مستعداً لها وكذلك التكنولوجيا الحيوية. 

إن الحياة التي نراها ونعيشها مُنظمة حول تنوع أحيائي لا مرئي يتكون من كائنات دقيقة تؤدي وظائف أساسية في النظم البيئية التي سوف تنهار من دون الميكروبات، الفطريات والطحالب، أو تكون أقل مقاومة للأخطار والأزمات البيئية والاصطناعية. وبما أن حياتنا منظمة بفضل هذه الأحياء الدقيقة التي لا تعد ولا تحصى ولا ترُى بالعين المجرّدة، فما المسؤولية الناتجة عن الأنشطة البشرية في الاضطرابات البيئية الحالية؟ هل قمنا بفتح غطاء صندوق باندورا، ما سمح بتدفق أكبر من الأحياء الدقيقة للهروب، مع عواقب وخيمة محتملة؟

قد يوقف عقار جديد الوباء الحالي وتعود المدن المُعَولَمة إلى نشاط محدود، إنما الحديث عن استمرار “التباعد الجسماني” لعامين أو أكثر كما يشير الباحثون في جامعة هارفارد، يعني أن العالم لن يعود إلى ما قبل كانون الأول/ ديسمبر 2019

يجيب العلماء على هذا السؤال بنعم، ذاك أننا من خلال ممارساتنا وتداخلنا المجتمعي، نتفاعل اليوم بشكل أقوى مع النظم البيئية الطبيعية وتنوعها البيولوجي. إن إزالة الغابات والبحث عن أراض جديدة للزراعة وتوطين السكان، كلها عوامل تعرضنا إلى ميكروبات جديدة ويجعلنا نتدخل في الدورات الطبيعية للأحياء الدقيقة.

تالياً، لم تأتِ الفايروسات من الفضاء الخارجي أو اللاشيء، بل هي كائنات مرتبطة بالنشاط البشري وهي جزء من منظومة حياتنا الكلية، يرتبط وجودها بوجود الأرض. وتتكون هذه المنظومة بحسب الباحث الفرنسي جان فرانسوا غيغان من عالم علوي مرئي لنا جميعاً بما في ذلك محيط التنوع الحيوي والبشري بأكمله، وعالم سفلي غير مرئي يتكون من المليارات من الأحياء الدقيقة. يتعايش هذان العالمان ويتداخلان في نظام بيئي خلاّق ولا يمكن فصلهما عن بعضهما بعضاً. 

يا ترى ماذا يقول هذا الفايروس وماذا يظهر لنا؟ يعيدنا هذا السؤال إلى تشابك حياتنا البشرية والاجتماعية مع حياة جميع الكائنات الحية غير البشرية التي تشكل جزءاً من حياتنا ومن مجتمعاتنا وهي نشطة للغاية في عالمنا. ويجعلنا الوباء الناتج عن التصاق البشر بمستوطنات الأحياء الدقيقة، ندرك أننا لن نتمكن من فصل أنفسنا عن هذه الأحياء التي سيتعين علينا التعامل معها. ربما علينا التفكير في أساليب علائقية جديدة مع الكائنات غير البشرية التي تعيش معنا بشكل دائم ولم تفد محاولاتنا بإخراجها من حياتنا. تالياً، سيتعين علينا أن نفهم طريقة علائقية جديدة نتعايش من خلالها مع جميع الأحياء وليس انتزاع الأرض منها. 

كان هدف الإنسان بالنسبة إلى العبرانيين كما جاء في التوراة هو أن يسود الإنسان على الأرض وعلى كل ما خلق الخالق. وقَالَ الله: “نَعملُ الإِنسانَ على صورَتِنَا كشبهِنَا، فَيَتَسَلَّطونَ عَلَى سمك البحرِ وعلى طيرِ السمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ، وعلى كل الأرضِ، وعلى جمِيعِ الدباباتِ التي تَدِبُّ على الأرض”. (تكون 1: 26). وتوالت هذه الرؤية التوراتية في الديانات المتعاقبة لجهة تسخير الطبيعة من أجل الإنسان وتعظيم شأنه، حيث يبدو فيها العالم العلوي (المرئي) منفصلاً عن العالم السفلي (غير المرئي). وبدت هذه الرؤية التي عظّمت الإنسان على حساب الطبيعة وكائناتها غير البشرية، كقطيعة كاملة مع إرث البابليين، إذ لم يغب عنهم العالم السفلي كما تخبرنا نصوصهم وأشعارهم.

لا يعيش في قصص الخلق البابلية العالم العلوي دون العالم السفلي، انهما مترابطان ويحافظان على التوازن الطبيعي ولكل منهما قوانينه وآلهته، انما تبقى الأوبئة السلاح الفتاك بيد آلهة العالم العلوي ضد الناس كلما زاد عددهم وصخبهم. لقد عقد الإله البابلي انليل على التخلص من الناس بعدما كثر عددهم وعلا ضجيجهم في الأرض. وقد اختار انليل إنزال الأوبئة والأمراض على الناس لتفتك بهم وتقضي عليهم. من هنا يتدخل بطل قصة الطوفان البابلية (اتراخاسيس)، وهو منقذ التنوع الأحيائي، إذ يحمي زوجاً من كل نوع من الحيوانات في سفينته، ويدعو إله الحكمة والمياه السفلية (أيا) أن ينقذ الناس من الوباء. استجاب أيا الى دعوات اتراخاسيس وأرشده في الوقت ذاته الى طريقة يمكنه بواسطتها تخليص الناس من البلايا التي يعانون منها. يعود انليل في فترة لاحقة إلى فرض الأوبئة على الناس من خلال القحط والجفاف، ذاك أن العلاقة بين عالم الآلهة والبشر تعود إلى سابقها إذ يزداد عدد البشر على نحو لا يتحمله إنليل.

قصارى الحديث، قد يوقف عقار جديد الوباء الحالي وتعود المدن المُعَولَمة إلى نشاط محدود، إنما الحديث عن استمرار “التباعد الجسماني” لعامين أو أكثر كما يشير الباحثون في جامعة هارفارد، يعني أن العالم لن يعود إلى ما قبل كانون الأول/ ديسمبر 2019 ما لم تتغير الاستجابة للتغيرات الحاصلة في البيئة، الممارسات الزراعية، العمران المفرط وكذلك العولمة. فالمرض هو تطور في استجابة عالم الأحياء الدقيقة تجاه الضغط الهائل الذي يتعرض له بحسب العلماء، ولا يمكن إيقافه تالياً من دون تطور في استجابة البشر للتغيرات الحاصلة في الأنظمة البيئية؛ ومن دون التعايش مع عالم الكائنات اللامرئي.