fbpx

تشريع الحشيشة في لبنان: فخّ نصب لفقراء السهل

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يمكننا أن نسأل نفسنا: ألا يمكن أن يكون في هذا التشريع وفي هذه الظروف الاستثنائية التي نعيشها التقاء بين مصالح الدولة ومصلحة المزارع؟ للأسف إنّ الجواب بحسب الظروف الحالية هو النفي المطلق.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

فليكُن الأمر واضحاً بلا مقدّمات: إنّ أي تحسين مهما صغر حجمه في حياة الفقراء هو بمثابة مسمار في نعش عصابة الأثرياء الحاكمة. وبالتالي، لا يمكن أن يصدر عن الدولة اللبنانيّة بكلّ مؤسساتها أيّ قرار يصبّ في مصلحة الفقراء ويحسّن من أوضاعهم بالمجّان، أبداً. كلّ ما هو غير ذلك مجرّد مسرحيّات خبيثة النيات والغايات. إنّ السيد الذي يشتري العبد من سوق النخاسة والسوط بيده لن يسمح له بالأكل على الطاولة نفسها، لن يهبه الحريّة أبداً!

يمكننا وفي هذا السياق وحده قراءة القانون الجديد الذي أقرّه البرلمان اللبناني في جلسته الاستثنائية في “قصر الأونيسكو” حول تنظيم زراعة القنّب الهندي- الحشيشة للاستخدام الطبي بعد شهور أمضتها الدولة في التمهيد له وجسّ نبض ردّ الفعل عليه. (تجدر الإشارة أنّ عقد الجلسة في الأونيسكو جاء لتأمين المسافة الجسمانية الآمنة بين النوّاب في ظلّ خوفهم من فايروس كورونا، بينما كان الفقراء متكدّسون كالنعاج في اليوم نفسه من دون أيّ مسافة احتياط أمام أبواب المدارس بانتظار دورهم لتعبئة استمارة الحصول على مساعدة مالية لا قيمة لها من الحكومة).

لنفهم أنّنا أمام فخّ جديد تنصبه الدولة، وإن وقعنا فيه لن نكون سوى مجموعة حمقى بعقول مخرّبة.

هذا في القصر الفاخر، أمّا في السهل البائس فالمشهد مختلف تماماً. هناك في قرى البقاع الشمالي شبه المعزولة عن العالم، يتكرّر السيناريو المؤلم نفسه كلّ عام وفي كلّ موسم. مداهمات مسلّحة وكمائن تنصبها القوى الأمنية اللبنانية لقتل واعتقال وحرق محاصيل مزارعي النبتة المبروكة الذين لا يملكون سوى الدفاع عن وجودهم باللحم الحيّ. لم يكن اختيارهم هذا الدرب “سروداً” ورفاهيّة يحظون بها، هي كأس مرّة لم يجبرهم على تذوّقها سوى الكأس الأكثر مرارة. هي زاوية مظلمة رمتهم بها سياسات الدولة المجحفة منذ عقود ولم تترك أمامهم سوى بنادق العسكر الموجّهة إلى صدورهم حرفيّاً وليس في ذلك أي تشبيه ومجاز. محافظة كاملة رُمي أهلها في أحضان أحزاب الأمر الواقع للمتاجرة بجوعهم ودمائهم. سلطة رسمية غائبة تماماً حين يتعلّق الأمر بالتنمية والخدمات الصحيّة والثقافيّة، ويقتصر وجودها بمظهرين لا ثالث لهما: جباية الضرائب والثكنات.

لماذا ترفض الدولة مطالب التشريع؟

العائق الأوّل أمام التشريع كان تسلّط “حزب الله” على المنطقة ومحاربة أيّ أمل في تحسين ظروف ناسها كي لا يخرجوا من تحت جناحه. إنّ وجود احتمالات متعدّدة لدى الشباب المنتج في هذه القرى سيصعّب مهمّة تجنيدهم للقتال ضمن صفوفه والموت فداء حذاء الزعيم وحلفائه. يمكن أن يفسّر هذا المأساة التي تعيشها المنطقة على الصعيد التربوي التعليمي، في ظل غياب الجامعة الوطنية وانتشار المؤسسات التربوية الخاصة التي تساهم في غسل الأدمغة وتسطيحها على الدوام. إنّ النتائج الباهرة المتوقّعة لتشريع زراعة الحشيشة على شباب المنطقة ومستقبلها سيصعّب على الحزب مهمّة إغرائهم بزواج هنا وأثاث بيت هناك، أو راتب شهري بسيط يستر العائلة. إنّ رفض الحزب المطلق إذاً هذا المطلب يندرج في إطار السعي على إبقاء الناس في الظلمة ومنعهم من رؤية النور خارج العباءة الإلهية.

سيقلّ ربّما الخطر الأمني على بعض المزارعين، لأنّ عملهم سيصبح شرعيّاً بحسب المعايير القانونية، لكنّهم على الأغلب سيترحمّون على أيّام الخطر والبنادق حين تنتقل الأخيرة من يد العساكر المدجّجين بالسلاح إلى يد رجال الأعمال المدجّجين بالمال والنفوذ والغطاء الرسميّ لتمرير أكثر صفقات التاريخ فساداً.

الكلمة المفتاح الثانية للإجابة عن هذا السؤال هي، قطاع الخدمات. في ظلّ غياب أي دعم بالحدّ الأدنى للقطاع الزراعي والصناعي في لبنان نقرأ دائماً المعلّقات والغزل بقطاع الخدمات بمعناه الواسع الفضفاض وما يدرّه من أرباح هائلة على خزينة الدولة وسارقيها. حتّى أنّه صار من الروتيني سنويّاً رؤية المحاصيل الزراعية المحلية تتلف في الشوارع أمام المزارعين الباكين فيما تحتفل الدولة ووزراؤها المبتسمون ببلاهة بافتتاح مركز تجاري ضخم هنا أو فرع جديد لمصرف هناك.

الشقّ الثالث وهو الأكثر تشويقاً من أسباب الرفض المطلق للتشريع، هو أنّ منع زراعة القنّب الهندي في لبنان يفتح للفساد بابين على مصراعهما: الباب الأوّل هو قدرة الدولة على التحكّم بالأسعار ورفعها في السوق السوداء عبر التجّار المحسوبين عليها، أمّا الثاني فهو فتح باب الاستيراد غير الشرعيّ أمام المخدرّات الثقيلة المصنّعة وهي الأغلى سعراً والأكثر ربحاً في ظل غياب منافستها المسمّاة “كَيف الفقراء”. حينها سيحقّق تلف محصول القنب وبضربة معلّم خدمة سحريّة للدولة ومافياتها بكلّ حلقات السلسلة من التاجر إلى الموزّع إلى المصدّر والمورّد إلى المهرّب… وهذا ما يفسّر حماسة الإعلام اللبناني الرسمي الدائمة للسعي إلى تشويه سمعة منطقة بعلبك الهرمل ولصق تهم الإجرام والوحشيّة بأهلها لتأمين الأرض الخصبة للدولة للقيام بمهمّتها على أكمل وجه. وهكذا حين تغتال الدولة أحد المطلوبين وهو يقود السيارة بعائلاته كما يحصل في بعلبك والهرمل سيصفّق الجمهور الأبله لها، وسيُعتَبر البيت المحتلّ وسط بعلبك رمزاً فولاذيّاً لهيبة الدولة.

كان بإمكان هذا المنع أن يكون منطقيّاً بوجود أيّ بديل منطقي للمزارعين يضمن لهم العيش الكريم، سنقول حينها إنّ زراعة الممنوعات هي خيار فردي على صاحبه تحمّل مسؤوليّاته والعواقب الناجمة عنه. لكنّ الدولة تحاسب مزارعي الحشيشة وتجرّمهم بينما تحرمهم في الآن عينه من أي دعم أو مساعدة أو تأمين تصريف لمنتجاتهم “الشرعيّة” البلديّة. وفوق ذلك تتاجر بمأساتهم بسفالة وتسرق مساعدات برامج الدعم الزراعي العالمي المزعوم كما حصل مطلع التسعينات حين شفطت المليارات وأرسلت للمزارعين بضع بذور لا قيمة إنتاجيّة لها كالورد الجوريّ ودوّار الشمس والشمندر السكريّ. حينها رضي المجتمع الدولي عن الحكومة أشدّ رضا وتخلّص السوق العالميّ من البذرة الأكثر طلباً في العالم: حشيشة بعلبك.

لماذا إقرار هذا التشريع الآن؟

تأتي الإجابة على لسان أحد النوّاب المتحمّسين الذي لم يترك لنا المجال لتوقّع الأسباب، قائلاً إنّ “القرار يأتي في إطار تأمين الواردات الإضافية للدولة ولتأمين فرص العمل للشباب اللبناني”. لنتغاضَ عن القسم المتعلّق بتأمين فرص العمل فهو محض هراء كما نعلم، ولنتمعّن في بيت القصيد: الواردات الإضافية للدولة. الدولة الفاشلة نفسها التي تمرّ بأسوأ أزمة ماليّة في تاريخها ودفعت أكثر من ثلثي شعبها إلى أكل لحم أكتافه من جوعه والإذلال على أبواب المصارف، تأتي الآن بحلّ عبقري سريع: تشريع زراعة القنّب الهندي لأغراض طبيّة! 

لم يرفّ لهذه الدولة جفن خلال عقود طويلة من الحرمان الذي عشناه في محافظة بعلبك- الهرمل حين كان الناس وما زالوا يموتون ببطء من دون معين. تركتنا تحت رحمة الأحزاب الفاشيّة وسلطة العشائر والتجّار فاحشي الثراء لننجو بأنفسنا. أوكلت مهمّة تمثيلنا إلى نوّاب متعالين لا مهمّة لديهم أبدى من مهمّة التحويم كالغربان في المآتم والمصائب لتقديم العزاء للأمهات المفجوعات بأبنائهن. مسكونا من أمعائنا لسنوات مردّدين لنا مقولة إنّ الحرمان في بعلبك الهرمل هو مجرّد ثمن زهيد ندفعه لتحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي. لا تذكرنا هذه الدولة حين نكسّر ما تبقّى من أثاث بيتنا ونحرقه بغرض التدفئة في ظلّ غلاء المحروقات وقطع الكهرباء عن بيوتنا. لا تعرفنا حين يموت مرضانا على الطرق، لأن معدّل المستشفيات بالنسبة إلى القرى هو واحد على سبعة. تحاسبنا حين نأكل بعضنا بعضاً، محاولين تحصيل حقوقنا من طريق الثأر البشع في ظلّ غياب القانون وفساد القضاء. لا تذكر الدولة اللبنانيّة فقراءها حين يعيشون ذلك كلّه، لكنّها ستذكرهم حتماً حين يتعلّق الأمر بالواردات الماليّة الإضافية. حينها فقط ستسارع لسنّ قوانين كهذه من دون أن تقدّم مجرّد دراسة جدوى اقتصادية علميّة بسيطة تثبت فعاليّة المخطّط وفائدته بالأرقام والتفاصيل عليها وعلى الناس. هو مستقبل مشرق ينتظر أهل بعلبك الهرمل، يضاهي بإشراقه المستقبل الذي عاشه أهالي بيروت حين أقرّ مشروع إعادة إعمار العاصمة على يد “سوليدير”. إنّه موسم القطاف السافل، النوّاب يأكلون الحصرم، والمزارعون يضرسون.

هل سيستفيد المزارعون حقّاً من هذا القانون؟

إن كنا متفّقين على أنّ الدولة لم ولا ولن تفعل أبداً ما يصبّ في مصلحة المزارع (أو الفقير أو المودع الصغير أو المريض الذي لا يملك تأميناً…) من دون أن تنهش لحمه، يمكننا أن نسأل نفسنا: ألا يمكن أن يكون في هذا التشريع وفي هذه الظروف الاستثنائية التي نعيشها التقاء بين مصالح الدولة ومصلحة المزارع؟ للأسف إنّ الجواب بحسب الظروف الحالية هو النفي المطلق. لأنّ ما يخفيه حيتان المال هو أكثر بكثير ممّا يراه المزارع في أرضه. يقف الأخير اليوم بحيرة أمام قرار يمسّ صلب حياته ويقلبها رأساً على عقب من دون أن يكون له أيّ رأي بهذا الخصوص!

النتائج الباهرة المتوقّعة لتشريع زراعة الحشيشة على شباب المنطقة ومستقبلها سيصعّب على الحزب مهمّة إغرائهم بزواج هنا وأثاث بيت هناك، أو راتب شهري بسيط يستر العائلة.

يعمل المزارعون اليوم لحساب عدد قليل من التجار المحتكرين الكبار. يخاطرون بحياتهم ويحملون دمهم على أكفّهم في سبيل تأمين لقمة عيش كريمة لعائلاتهم. لكنّهم وبسحر ساحر سيبدأون العمل غداً لحساب محتكر واحد أثبت لسنوات جشعه وفشله في إدارة أي استثمار إنتاجي في أي قطاع، بخاصة في ما يتعلّق بالقطاع الزراعي. ولنا في تجارب إدارة حصر التبغ والتنباك “الريجي” المحتكرة أسوة (يعاني مزارعو التبغ في لبنان من الاستنسابيّة في توزيع الرخص والأذونات الزراعية وفوضى الأسعار وتقسيم الحصص…).

سيقلّ ربّما الخطر الأمني على بعض المزارعين، لأنّ عملهم سيصبح شرعيّاً بحسب المعايير القانونية، لكنّهم على الأغلب سيترحمّون على أيّام الخطر والبنادق حين تنتقل الأخيرة من يد العساكر المدجّجين بالسلاح إلى يد رجال الأعمال المدجّجين بالمال والنفوذ والغطاء الرسميّ لتمرير أكثر صفقات التاريخ فساداً.

هو ليس تشاؤماً ورفضاً مسبقاً للتجربة. هو تأكيد أنّنا ومزارعينا في بعلبك الهرمل بشر لنا حقوق وعلينا واجبات. لسنا فئران تجارب في مختبر إيرادات الدولة المالية الإضافية. وبخاصة حين نلحظ غياب الدراسات العلميّة التي تؤكّد أن نوع القنّب المزروع في سهول البقاع الشمالي سيصلح للاستعمال الطبّي أكثر من الاستهلاك الشخصي، لأنّ معظم الدراسات والأبحاث السابقة تقول العكس.

بعد أن نتأكّد من هذه النقطة الأخيرة ستبرز أمامنا حينها مشكلتان أشدّ تعقيداً: تكمن المشكلة الأولى في كون المزارع سينتج في سبيل الاستعمال الطبّي للحشيشة المادة الأولية منها فقط وهي الأرخص على الإطلاق في سلسلة الإنتاج. من سيعوّض له خسارته؟ وحينها ستبرز المشكلة الثانية: إنّ الأراضي المزروعة اليوم ستنتج بحسب مساحتها أكثر من الحاجة الطبيّة المتوقّعة بأضعاف مضاعفة. ماذا ستفعل دولتنا بهذا الخصوص؟ ستحدّد على الأغلب المساحات المزروعة بحدّها الأدنى وتحصر التراخيص الزراعية بالمحسوبين عليها، بينما تحرم النسبة الأكبر من المزارعين المتقين من مورد عيشهم الوحيد وتزيد على همّهم ألف همّ.

سيقول البعض الآن، ماذا دهاكم؟ أهذا هو موقفكم بعد كلّ هذه السنين من الغناء والكتابة والمطالبة بتشريع زراعة الحشيشة في بعلبك- الهرمل؟ ألا يعجبكم العجب؟ بلى يا سادة يعجبنا العجب، ولكن العجب لا يأتي على يد حكومة ساقطة ولو منحتنا الذهب. يكفينا أنّ من أقرّ القانون هو نبيه برّي نفسه رئيس مجلس النوّاب اللبناني لثلاثين عاماً خلت، الذي يحبّ تكرار مقولة إنّ “من جرّب المجرّب كان عقله مخرّباً”. يكفينا هذا لنفهم أنّنا أمام فخّ جديد تنصبه الدولة، وإن وقعنا فيه لن نكون سوى مجموعة حمقى بعقول مخرّبة.