fbpx

“سندفنكم قبلهم”: لا مقابر لضحايا”كورونا” العراق

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يعاني ذوو ضحايا “كوفيد 19” من بُطء الإجراءات المتبعة، الأمر الذي خلق مشكلات دفن الجثامين وزاد ألم ذوي المتوفين

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في الثانية والنصف صباح الأحد 22 آذار/ مارس 2020، دق “كورونا” جرس انتصاره على مناعة سميرة شمال، لتفارق الحياة وتبدأ من رقادها الأبدي رحلة المعاناة الثانية بانتظار الدفن.

رقد جثمانها سبعة أيام في برّاد الموتى، فيما محاولات الدفن في محافظة النجف ومدينتي الحسينية والنهروان باءت بالفشل. انطلق كادر الدفن وذووها في محاولة أخيرة إلى صحراء محافظة ديالى شرق العراق، لكن المكان أشبه بمكب نفايات والأرض غير صالحة بحسب زوجها الذي رفض دفنها هناك قائلاً: “أدفنها في حديقة منزلي أفضل من هذا المكان”، لتعود إلى ثلاجة الموتى في مستشفى الصدر.

سميرة شمال (40 سنة) من سكان منطقة الحبيبية في جانب الرصافة في بغداد، دخلت المستشفى نتيجة آلام في المفاصل وارتفاع الروماتيزم في الدم، وخرجت في اليوم نفسه، بعدما أشيع عن وجود حالات مصابة بـ”كورونا” وانتشار المرض في المستشفى.

عجز كثيرين عن دفن موتاهم بشكل لائق واستمرار معاناتهم دفعا عائلات الضحايا إلى مناشدة المرجعية الدينية وأصحاب التأثير في القرار السياسي، لإيجاد حلٍ لهذه الأزمة

تدهورت حالتها الصحية بعد يومين لتُنقل إلى المستشفى مرة ثانية، لكن بسبب أعراض “كورونا” هذه المرة، إذ يؤكد زوجها عدم مخالطتها وملامستها مصابين، ويرجح شقيقها انتقال الفايروس إليها من المستشفى، حيث صادف دخولها في المرة الثانية إغلاق المستشفى 3 ساعات من أجل عمليات التعفير والتعقيم بعد انتشار الفايروس وهروب الناس خوفاً من العدوى بحسب قوله.

عامر شقيق المتوفية يحمّل الدولة مسؤولية عراقيل الدفن ويقول: “الدولة وعناصرها ليسوا أهلاً لهذهِ المرحلة، لو كانوا حريصين على ألمنا ومعاناتنا لوفروا أرض الدفن في اليوم نفسه”.

تضاف إلى موقف الدولة الخجول وفشلها في فرض إجراءات الدفن وتوفير الأرض المناسبة، الإخفاقات المالية في دعم القطاع الصحي وغياب التحضيرات المسبقة لمثلِ هذهِ الكوارث، الأمر الذي أكدتهُ عضوة نقابة أطباء العراق د.شيماء الكمالي بقولها: “بسبب الفساد المالي والإداري عدد المؤسسات الصحية والمستشفيات لم يتغير منذُ عام 1984 وحتى اللحظة”، وبحسب “منظمة الصحة العالمية” يوجد في المستشفى الواحد 14 سريراً لكل 10 آلاف نسمة في العراق.

متطوعون يدفنون ضحية وباء كورونا في مقبرة شرق النجف

لا سلطة على العشائر

اتجه جثمان مالك كاظم مع 3 جثث أخرى برفقة ذويهم وكادر الدفن إلى مقبرة محمد السكران في منطقة الحسينية شمال شرقي بغداد، إنما اعترض طريقهم مسلحو إحدى العشائر بثلاث سيارات مدنية وهددوهم بالقول: “إذا دفنتم الضحايا هنا، سندفنكم قبلهم”، كل ذلك من دون تدخل دورية الشرطة المرافقة لهم، فالسلطة العشائرية توازي بقوتها سلطة الدولة وتتجاوزها أحياناً، ما اضطرهم إلى مغادرة المكان.

غيّر ذوو الضحايا والكادر مسارهم باتجاه أطراف مدينة النهروان، إلا أنهم فوجئوا بخروج الأهالي في تظاهرة، رافضين جعل مدينتهم مطمراً صحياً لضحايا الوباء، وخوفاً من تفشي العدوى بين أبناء المنطقة، بحسب قولهم.

مدير مستشفى الصدر د.مصطفى الموسوي يقول لـ”درج”: “ضعف الدولة في فرض سلطة القانون، والثقافة التقليدية عند الأهالي، كانا السبب وراء عراقيل الدفن”.

القصة ذاتها تتكرر بالنسبة إلى مقبرة السلام (أكبر مقابر العراق) في محافظة النجف، فقد رفض المحافظ إعطاء تصريح الدفن لعائلة مالك كاظم وبقية المتوفين، على رغم تأكيد وزارة الصحة إمكان دفن الضحايا في المقابر الرسمية وفق إجراءات معينة.

مالك كاظم (67 سنة) من سكان بغداد، منطقة الكمالية، توفيَ بفايروس “كورونا” في مدينة الطب ونقل إلى مستشفى ابن القف ليبقى 8 أيام في براد الموتى بانتظار الدفن.

ابن الضحية يوسف يتوقع أن تكون إصابة والدهِ بفايروس “كورونا” حدثت أثناء زيارة مرقد الإمام الكاظم. ويقول: “لم نستطع توديعهُ، ولا إقامة مأتم لهُ وقبول التعازي بوفاته”، معبّراً عن مدى حزنهِ وألمهِ بوفاة والدهِ من دون أن يستطيع دفنهُ.

18 يوم معاناة

يعاني ذوو ضحايا “كوفيد 19” من بُطء الإجراءات المتبعة في وزارة الصحة العراقية والمديريات التابعة لها، إضافة إلى غياب الاستعداد في مواجهة الوباء، الأمر الذي خلق مشكلات دفن الجثامين وزاد ألم ذوي المتوفين، فعلى رغم أن “إكرام الميت دفنه” بحسب المعتقدات الدينية الشائعة، بقيت الجثث قرابة 10 أيام في ثلاجات الموتى.

18 يوماً بين أول وفيات “كورونا” في العراق بتاريخ 4 آذار 2020 ووفاة سميرة شمال بتاريخ 22 من الشهر نفسه، إلا أن عراقيل الدفن كانت ما زالت قائمة، إذ يعزو عامر مشكلات الدفن ومعاناة ذوي الضحايا إلى بُطء الإجراءات في مراكز الصحة ويقول: “أعداد الوفيات بكورونا في العراق لم يتجاوز المئة، وهي نسبة قليلة مقارنةً بأعداد الوفيات الكبيرة في أوروبا والعالم، لكن إجراءات الصحة بطيئة عموماً، ما فاقم معاناتنا”.

عجز كثيرين عن دفن موتاهم بشكل لائق واستمرار معاناتهم دفعا عائلات الضحايا إلى مناشدة المرجعية الدينية وأصحاب التأثير في القرار السياسي، لإيجاد حلٍ لهذه الأزمة، فوفرت المرجعية أرضاً بعيدة من التمركز السكاني في محافظة النجف ووجهت بانطلاق حملات طوعية من الحشد الشعبي والفصائل المنضوية تحت لوائه.

هيأت فصائل الحشد الشعبي كوادر عمل تكفّلت بإجراءات الدفن عبر مكاتبها الموجودة في جميع محافظات العراق ودفنت معظم ضحايا “كورونا”.

مسؤول الحملة الطوعية في الحشد الشعبي باقر الشوكي يقول: “وزارة الصحة لم تكن مستعدة لمواجهة الوباء، لذلك بادرنا إلى المساعدة والقيام بإجراءات الدفن، تلبيةً لمناشدات ذوي الضحايا الذين لم يتمكنوا من دفن موتاهم”. 

طقوس دفنٍ جديدة

أصدرت “منظمة الصحة العالمية” دليلاً إرشادياً عبر موقعها الرسمي، أكدت فيه استحالة العدوى من جثث المتوفين بـ”كورونا”، باعتبار الفايروس ينتشر عبر الرذاذ المتطاير من السعال والعطاس. وأوضحت أن حرق الجثث من المفاهيم المغلوطة الشائعة التي تتعلق بالطقوس الدينية والعادات والموارد المتاحة للدول، إضافة إلى ضرورة مراعاة إجراءات الوقاية لكوادر الدفن، وهو الأمر الذي أكدتهُ وزارة الصحة العراقية عبر المتحدّث باسمها سيف البدر، الذي اعتبر “قضية انتشار المرض من الأموات غير مستندة لحقائق علمية”.

وزارة الصحة العراقية شرعت مجموعة إجراءات احترازية لدفن ضحايا “كورونا”، تمثلت بغسل الجثة وتعقيمها بمحلول الكلور عالي التركيز (الكلورين) بنسبة 0.05 في المئة وإمكان الوضوء الجاف (التيمم) على ألا يتجاوز الدقيقتين، ثم وضع القطن والكافور أو العطور، بعد ذلك توضع الجثة في كيس سميك لا يسمح بمرور السوائل ويتحمّل من 100 إلى 125 كلغ، ولهُ أربع مسكات تمكّن من حمله. وتلف الجثة بثلاثة أشرطة الأول حول الرأس والثاني حول البطن والثالث حول الساقين، ثم ترش مرة ثانية بمحلول الكلورين المعقم، إضافة إلى تعقيم المكان بعد رفع الجثة.

توضع الجثة المعقمة والمغلّفة بالكيس في صندوق خشبي (التابوت) محكم الإغلاق، ثم تُرش مادة الكلورين على التابوت وينقل إلى مكان الدفن المحدد بالتنسيق مع ذوي المتوفى، ليتم إنزال النعش إلى القبر بهدوء، على ألا يقل عمق الحفرة عن 4 أمتار، وأخيراً توضع على القبر علامة دالة على وجود أمراض وبائية.

فريق العمل الطبي يتكون من 4 أشخاص يرتدون بدلات وقائية عند تعقيم الجثة، ثم يخلعونها ويرتدون بدلات جديدة عند الدفن.

ثقافة سلبية

على رغم تأكيد “منظمة الصحة العالمية” ووزارة الصحة العراقية استحالة تفشي العدوى من جثث ضحايا “كورونا”، إلا أن تقاليد أهالي الأحياء المجاورة وأعرافهم، دفعتهم إلى الوقوف بوجه إجراءات الدفن.

منع الدفن والخوف من تفشي الفايروس يأتيان بالتزامن مع خروج الآلاف لزيارة الإمام الكاظم في ذكرى وفاته، كاسرين بذلك حظر التجوال ومتجاهلين خطورة الوباء وسرعة انتشاره.

يلفت الدكتور مصطفى الموسوي إلى أن “الأخبار السلبية التي تبثها وسائل الإعلام حول جائحة كورونا، والإشاعات المتداولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كانت السبب وراء منع الأهالي من دفن الجثث في المناطق المخصصة”.

من ناحية أخرى، رفضت بعض عائلات المتوفين إجراءات الدفن وفق معايير الصحة لاختلاف بعض بنودها والشريعة الإسلامية، من حيث غسل الجثة وتكفينها والصلاة عليها، حتى جاءت فتوى المرجع الديني (علي السيستاني) والتي أكدت وجوب تطبيق المعايير والتكفين وحرّمت حرق الجثث.

تُعتبر أعداد الوفيات المسجلة في العراق مرتفعة مقارنةً بوفيات دول الجوار باستثناء إيران التي تفشى فيها الوباء، إذ تنسب د.سارة هاشم (الطبيبة في مستشفى العلوم العصبية) الأعداد المرتفعة لوفيات “كورونا” إلى غياب ثقافة المراجعة المبكرة عند ظهور الأعراض، والخوف من الحجر الصحي.

يُذكر أن العراق لا يزال عدد إصاباته الاجمالي دون الـ2000، في ظل توقعات بوجود الكثير من الإصابات غير المسجلة في العراق، إذ بلغ المجموع الكلي للفحوص منذ بداية الأزمة 59055 في بلدٍ يبلغ عدد سكانه قرابة الـ40 مليون نسمة.