fbpx

مقاربات دينية للشرّ: “يولد مع الأطفال وهم في بطون أمهاتهم”!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

السؤال الأصحّ، هو: “من اين يأتي أننا نصنع الشر”؟ فالشرّ ليس “كان”، ولكنه “فعل”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عند كل جريمة تقع، يخرج النقاش حول “إنسانية” الفاعل. تنزع عنه فوراً إنسانيته، ويصار إلى نعته بالحيوان أو الوحش. 

لكن أليس الشرّ إنسانياً؟ ألا يحضر في التركيبة النفسية لكل إنسان؟ ومن أين يأتي الشرّ بحسب السرديات الدينية؟ هل يولد معنا؟ هل هو من يحركنا أم نحن من نحرّكه؟ وكيف تقارب الأديان السماوية الشرّ؟

في المسيحية، كما في اليهودية، يخبرنا العهد القديم عن الخطيئة الأولى لآدم وحواء في سفر “التكوين”، حيث خلق الله آدم وحواء في حالة البر والقداسة، أي على صورته الإلهية البارة المقدسة، ثم وضعهما في جنة عدن وأوصاهما أن يأكلا من شجر الجنة ما عدا شجرة معرفة الخير والشر إذ قال لآدم “يوم تأكل منها موتاً تموت”، وعلى الرغم من ذلك، نجد أن الشيطان بهيئة أفعى يغري حواء فتأكل وتعطي زوجها أيضاً “فأخذت من ثمرها وأكلت، وأعطت رجلها أيضاً فأكل”(من سفر “التكوين”) وهكذا أخطأ آدم إذ عصى وصية الله وأكل من الشجرة وهكذا دخلت الخطيئة إلى العالم.

و بخطيئة آدم، أصبحت الخطيئة ميلاً طبيعياً في البشرية كلها، بحسب السردية المسيحية، وانتشرت في دمائهم فانزلقوا في الشر والإثم لهذا يقول بولس الرسول في رسالته إلى أهل روميه: “ليس بار ولا واحد، الجميع زاغوا وفسدوا معاً”. 

الشر والشيطان حاضران في الإسلام

في المقابل، يحضر الشرّ في أركان الإيمان بالديانة الإسلامية وهي ستة: “الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشرّه”، فالقدر يحتمل الخير والشرّ، والمسلمون يبدأون تلاوة قرآنهم بعبارة “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم”، وبهذا يبدو أن الشرّ والشيطان حاضران في الدين الإسلامي بشكل متجذر، ويتقدم التعوذ منهما على البسملة في كثير من الأحيان، ولهما مكانتهما “الخطيرة” في تركيبة الإيمان الإسلامي، وهو ما يؤكده ورود  كلمة الشرّ في القرآن الكريم مرات عديدة، وكذلك كلمة الشيطان، واسم ابليس. ويحضر الشرّ في القرآن بوصفه “امتحاناً”، وقد ورد في معوذتين تعوذان بالله “من شرّ ما خلق” (سورة الفلق) ومن “شر الوسواس الخناس” (سورة الناس). وعاقبة الشرّ الشرّ في الإسلام، وقد ينقلب الخير شراً: “وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ”، والعكس بالعكس: “كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرّ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون”.

وفي تفسير محمد حسين الطباطبائي، صاحب “الميزان في تفسير القرآن”، لسورة “الفلق”، يقول إن العوذ بالله يكون من “شر من يحمل شرا من الإنس والجن والحيوانات وسائر ما له شر من الخلق فإن اشتمال مطلق ما خلق على الشر لا يستلزم الاستغراق” . وهو ما يأخذنا إلى أن الشرّ في البشر ليس محتوماً، ولا موجوداً حكماً في حياتهم، ويستطيعون العيش من دون الشرّ إذا تمكنوا من طرده والتعوذ بالله منه.

أما بول ريكور، الفيلسوف الفرنسي، فينطلق في كتابه “صراع التأويلات” من أحد “إعلانات الإيمان” لكنيسة الإصلاح، والذي فيه أن “إرادة الإنسان أسيرة تماماً للخطيئة” لمحاولة تأويل الشرّ وتفسيره، ويعتبر الإعلان أن “كل سلالة آدم قد تفشت فيها هذه العدوى والتي هي الخطيئة الأصل، ونزعة الشرّ موروثة”. هكذا يلخص الإيمان المسيحي الشرّ بنقطتين: خطيئة أصلية، ونزعة موروثة. ويخلص الإعلان في بنده الحادي عشر إلى أن نزعة الشر موجودة لدى الأطفال في بطون أمهاتهم! 

الخطيئة إذاً، في المسيحية، دخلت العالم مـن خلال إنسان واحد هـو آدم وبالتالي يصبح الإنسان لـيس هـو المصـدر الأول للشر في العالم، بل هو عبارة عن نقطة لظهور الشر في هذا العالم، ويرى ريكور أن ما ينقله رمز آدم في الكنيسة، “إن لم يكن الأصل المطلق فهو على الأقل نقطة انبثاق الشرّ في العالم. فلقد دخلت الخطيئة عن طريق إنسان واحد إلى العالم”.

الآباء اليونانيون واللاتينيون، كما يقول بول ريكور، يجمعون على ان ليس للشر طبيعة، وليس الشر شيئاً، ولا مادة، ولا جوهراً ولا عالماً، ولا يكون في ذاته، إنه “منا”. ويجمعون ايضاً على رفض السؤال نفسه عن ماهية الشرّ، أو “ما يكون الشرّ؟”، بل السؤال الأصحّ، هو: “من اين يأتي أننا نصنع الشر”؟ فالشرّ ليس “كان”، ولكنه “فعل”.

هذا التفسير للشر يقترب في شيء منه من تفسير الطباطبائي للشر كما يقدمه القرآن الكريم. فبالنسبة إلى الطباطبائي، الشر موجود وهو إرادي، يستطيع الانسان ان يختار بينه وبين الخير، وأعمال الإنسان تدل عليه، وإن فعل خيراً، خيراً يلقى، وإن فعل شراً، شراً يلقى. وبالتالي فإن الشرّ في الإسلام ليس مخلوقاً في الإنسان، كما هي الحال في المسيحية، والخطيئة ليست متوارثة ولا ترافق الطفل في بطن أمه، بل إن الخطيئة التي ارتكبها آدم جاءت بعدما وسوس له الشيطان ولزوجه، وكان الله قد حذره كما جاء في سورة طه “فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك”، ويقول الطباطبائي إن الشيطان كان يتراءى لآدم وحواء، فعرفاه وشاهداه، ولم يكن يوسوس لهما “مثلما يوسوس لنا بني آدم على نحو إلقاء الوسوسة في القلب من غير رؤية الشخص”. ويحسم الطباطبائي ان الشرّ ليس من صنع الله، فالله خير خالص، ولا مكان للشرّ في النظام العام الجاري في الكون، وهو أمر مختلف عن تعريف الشر “الأصلي” لدى اغسطين كما يشرحه ريكور، وهو ليس الخطايا التي نرتكبها، بل “حالة الخطيئة التي نعثر على أنفسنا موجودين فيها ولادة”.