fbpx

“سنقفز فوق الحطام”:الباركور تستيقظ في الموصل بعد أن كان منعها”داعش”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

اللعبة التي تندر ممارستها في العراق، سبق ظهورها الأول في الموصل سيطرة تنظيم “داعش” عليها بسنوات قليلة. ومع سطوة التنظيم وتحريمه مختلف أنواع الرياضات اختفت لتعود اليوم مجددا…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تبادل أربعة شبان القفز من على جدار مرتفعٍ أكثر من مترين ثم انطلقوا متسلقين جداراً نصفه منهار، قبل أن يهبطوا مجدداً وبشقلبات في الهواء وفي خط متوازٍ على الأرضية الترابية، ليتفرقوا بحركات متناسقة في المحيط الممتد على مساحة بضع عشرات من الأمتار المربعة، هي بقايا منزلين مدمرين.

هم مجموعة مؤلفة من حوالى عشرين شاباً منحتهم الجاذبية استثناءً استحقوهُ نتيجة التمرين المتواصل، لاكتساب مهارة أداءِ الحركات البهلوانية المتقنة لـ”رياضة الباركور”، محاولين تجاوز واقعهم والتحليق من فوق أنقاض البيوت التي دمرتها الحرب، وتخطي جدار مجتمع شديد التحفظ ينظر بعين الريبة إلى كل ما هو جديد.

الشبان يشكلون الفريق الأول من نوعه في الموصل لـ”الباركور”، وهي “لعبة” أو “رياضة نادرة”، يعد ظهورها غريباً في محافظة نينوى التي شهدت حرباً مدمرة امتدت أكثر من عام بدءاً من منتصف 2016، حولت نحو ثلث أحياء مركزها إلى ركام قبل استعادتها من قبضة تنظيم “داعش” الذي حكمها “بالنار والحديد” لنحو ثلاث سنواتٍ، وسبقته في السيطرة عليها قوى إسلامية متشددة تعتبر الرياضات الشعبية تسلية محرمة.

يقول مدرب الفريق، باسم العزاوي (35 سنة) إن “الدمار الذي يحيط بنا لم يحبط عزيمتنا في ممارسة لعبتنا المفضلة والتي تثير استغراب كثيرين، على العكس بحثنا عن حياة جديدة وتحفزنا على المضي لتطوير قدراتنا والتعريف بهذه الرياضة الغريبة عن المجتمع العراقي”.

يسميها البعض رياضة الهروب أو تطويع العقبات وأسميها أنا رياضة اكتشاف الذات

ويصف العزاوي، اللعبة التي انخرط في تدريباتها لاعباً عام 2009 تحت إشراف مدربها السابق ومؤسس الفريق جودت صالح، قبل أن يأخذ مكانه، بأنها “رياضة مسلية تمنح لاعبها القوة والسرعة والرشاقة والتوازن”.

ولا تعد الباركور رياضة أولمبية، على رغم ما تتضمنه من حركات رياضية وروح تنافسية، وهي تعتمد على السرعة والمرونة العالية وتصنف في خانة الفنون القتالية وتشمل حركات متنوعة، كالقفز مع الالتفاف والزحف والهبوط على أطراف الأصابع.

مخترع اللعبة هو الفرنسي ديفيد بيل، واشتق اسمها من تدريب عسكري شاق يجريه الجيش في فرنسا. طور مهاراتها ومزجها بخفة الفنون القتالية وظهر يؤدي حركاتها في فيلم أنتج عام 2005 عنوانه “المقاطعة 13”.

اللعبة التي تندر ممارستها في العراق، سبق ظهورها الأول في الموصل سيطرة تنظيم “داعش” عليها بسنوات قليلة. ومع سطوة التنظيم وتحريمه مختلف أنواع الرياضات اختفت وانكفأ لاعبوها في منازلهم هاربين من احتمالات الملاحقة، قبل أن يفاجأ بعضهم بمحاولات التنظيم الاستفادة من مهاراتهم لتدريب عناصره.

التغلب على الخوف والألم

إدريس واحد من لاعبي فريق باركور الموصل، انضم إليه عام 2015 وكان في الثالثة عشرة من عمره وقتها. وصف اللعبة بالأجمل ولفت إلى أنها حررته من خوفه ومنحته الشجاعة حتى باتت شغفاً بالنسبة إليه. 

يتمرن مع باقي زملائه بعد ظهر كل يوم ويتابع بمفرده كلما سنحت له الفرصة: “نتدرب في مكان شبه مهدم، لكن لا بأس، بوسعنا القفز فوق الحطام حالياً لكننا نتطلع إلى أن تتوفر لنا في المستقبل القريب قاعة تدريب ومستلزمات خاصة. فنحن الآن نكاد نعتمد على أجسادنا فقط!”.

وينظر المدرب العزاوي بعين التفاؤل إلى مستقبل الباركور في البلاد، مؤكداً أنها ليست محصورة بالذكور فقط كما يعتقد البعض، إذ بوسع البنات ممارستها أيضاً. وهي لا تقتصر على الشباب فقط بل بإمكان الأطفال وحتى الذين تخطوا مرحلة الشباب ممارستها، مشترطاً أن يكون ذلك بإشراف مدرب متمرس.

ويعدد مزاياها بقوله: “تمنح لاعبها جاهزية بدنية للتعامل مع أي طارئ والتغلب على الخوف والألم. وتساعد على التركيز والوصول إلى الهدف. وهي تحمي الجسم من الإصابات الظهرية (الفقرات) وتقوي عضلة القلب والأوعية الدموية وتُكسِب الجسم لياقة بدنية ومرونة عضلية ومهارات حركية للقفز والتسلق والتوازن”.

ويدعو العزاوي وزارة الشباب والرياضة إلى الاعتراف باللعبة رسمياً ودعمها، لا سيما بعد تناميها في مدن عدة، كبغداد والبصرة والنجف وكربلاء وديالى.

ويلفت إلى أن الفرق في هذه المدن تسعى إلى عقد لقاء مشترك بين ممثليها في العاصمة بغداد لغرض توحيد مطالبها ورفعها إلى وزارة الشباب والرياضة من أجل طلب الدعم أسوة بالفرق الرياضية الأخرى للتمكن من الاستمرار والتطور وتنظيم البطولات والتنافس فيها.

“داعش” حاول استغلالهم

تقوم الباركور على حركات متنوعة كالقفز مع الالتفاف حول محور أفقي بزاوية 360 درجة، إلى جانب تدريبات الزحف و”الاسكوات” والهبوط على أطراف الأصابع، وما يصطلح المعنيون على تسميته بـ”القفزة الدقيقة” وهي قفزة بين نقطتين متباعدتين بمسافة معلومة.

وهناك القفزة السريعة التي تكون من فوق جدار أو حاجز يستند إليه اللاعب بإحدى يديه قبل أن يُتِم قفزته ليستطيع حفظ توازنه، والقفزة الخلفية والدحرجة التي يقوم بها اللاعب بعد الهبوط لتقليل أثر الاصطدام بالأرض، فضلاً عن الجري على الجدران وتسلقها، وهي كلها حركات تصلح لتسلق الحواجز ذات الارتفاعات الكبيرة.

ويبدو أن هذا تحديداً ما سال لعاب “داعش” لأجله وحاول عقب سيطرته على الموصل في حزيران/ يونيو 2014 الاستفادة من مهارات فريق الباركور الموصلي لتدريب عناصره، وربما للترويج دعائياً لقدرات مقاتليه بخاصة من الفتية.

ويروي العزاوي كيف تعرض وأعضاء فريقه لمضايقات بعد رفضهم الامتثال لتلك الرغبة والتزامهم بيوتهم، وقرروا التوقّف عن ممارسة رياضتهم حتى وصل الأمر بالتنظيم الى توجيه تهم لأعضاء الفريق بالتورط في عمليات سرقة منازل لابتزازهم، نجوا منها بالتواري فترة من الزمن متنقلين من مكان إلى آخر خفية.

التدريب في بيت مهدم

بعد تحرير الموصل من تنظيم “داعش” منتصف عام 2017، عاود الفريق تدريباته في عقار في منطقة الحدباء شمال الموصل، كان يشغله التنظيم وأحاله صاروخ هبط عليه من السماء خلال الحرب إلى ركام.

هناك يُنصت اللاعبون باهتمام إلى توجيهات مدربهم الذي أضطر بسبب ضعف الإمكانيات إلى اعتماد مفارش الإسفنج بدلاً من الأرضيات المطاطية وأدوات أخرى بدائية، تعمل كمصداتٍ لمنع ارتطام اللاعبين بالأرض وتعرضهم للإصابات.

مثل بقية الرياضات، تنطوي الباركور على بعض الخطورة إذا مورِست من احتياطات أو ندريبات كافية، وقد تعرض غير الماهرين إلى كسور والتواءاتٍ أو التهاباتٍ في المفاصل أو الأوتار أو إصاباتٍ في الفقرات وتمزق في العضلات.

يطلق على لاعب الباركور تسمية “ترايسور”، ويمر في ثلاث مراحل عند ممارسته اللعبة، أولها الاستعداد وهي تمارين لرفع اللياقة البدنية وتقوية العضلات، والثانية مرحلة التدريب على جميع حركات الباركور، والأخيرة مرحلة الاستعراض وتكون بين متنافسين، يقوم كل واحد منهم باستعراض كفاءته ومهاراته الجسدية.

التكيف مع مجتمع الموصل

احتاج أعضاء فريق باركور الموصل إلى بعض الوقت لكي يتكيف معهم مجتمع الموصل الذي تستغرب شريحة واسعة منه إذا ما رأت شخصاً يمارس رياضة الجري على طريقٍ أو رصيفٍ، فكيف بمجموعة من الشبان يقفزون من فوق الجدران والحواجز ويتسلقون الأعمدة ويتشبثون بالسقوف.

وحدث أن أشارت النميمة الشعبية إليهم بعد 2009 عندما حصلت سرقات في منازل قريبة من مكان تدريبهم في الجانب الأيسر من الموصل.

“من غيرهم بوسعه تجاوز جدران عالية من دون أن ينتبه إليه أحد؟”، كان هذا لسان حال البعض هناك، لكن بمرور الأيام والتزام اللاعبين وانضباطهم انقلبت حفيظة المجتمع إلى تقبل واهتمام وتزايد الإقبال على ممارسة اللعبة.

ويستذكر اللاعب عبد الرزاق علي (28 سنة) طفولة اللعبة في الموصل قبل نحو عشر سنوات والصعوبات التي واجهها شخصياً للإبقاء على وفائه لها: “الناس ينظرون إلى الباركور على أنها مجرد قفزات من فوق أماكن عالية مع شقلبات في الهواء، ولذا يعتبرونها لعبة صبيانية خطرة وعلى محبيها التوقف عن القيام بذلك. وهذا اعتقاد غير صحيح”.

وتابع بحماسة قبل أن يلتحق بثلاثة من زملائه كانوا يستعدون لأداء حركة جماعية: “يسميها البعض رياضة الهروب أو تطويع العقبات وأسميها أنا رياضة اكتشاف الذات، فمن خلالها أدركت القدرات التي أمتلكها فتعززت ثقتي بنفسي وتغيرت نظرتي للأشياء من حولي”.

انتهاء حقبة “داعش” وعودة الحياة إلى الموصل، أخرجت مواهب أعضاء فريق الباركور من نطاق التواري إلى العلن وأخذوا يستقطبون زملاء جدداً، بخاصة مع الانفتاح الذي شهده المجتمع الموصلي وتقبله الكثير مما كان موضع انتقاد واستغراب، ليجد المدرب باسم العزاوي نفسه أمام طلبات انضمام كثيرة لشبان يريدون تنمية روح تحدي المصاعب في دواخلهم.

ولحين الإقرار باللعبة وفرقها وتنظيم بطولات خاصة بها على مستوى البلاد، يُجري الفريق منافساتٍ داخلية بين أعضائه في أماكن عامة، كمتنزه المثنى وساحة الاحتفالات في جانب المدينة الأيسر. يقول العزاوي عن ذلك بنبرة واثقة: “في كل مرة يقدمون فيه أداءً تنافسياً في مكان خارجي، تزداد ثقتهم بأنفسهم ويتحلق المزيد من الناس حولهم متفاعلين مع ما يقدمونه”. 

أنجز التقرير بدعم من شبكة “نيريج” للصحافة الاستقصائية