fbpx

“إننا مسؤولون عن هندسة اختفائنا”: كيف أفنينا البشرية؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

العنصرية، العبودية، التعذيب، والحروب هي المصدر الأول لخسارة النوع الإنساني. هل هناك خلاص من هذه الممارسات الإنسانية المؤدية إلى إفناء النوع؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منذ انتشار فايروس “كوفيد-19″، يتردد سؤال على المستوى العالمي عن احتمال اختفاء الكائن البشري. ولا شك في أن انتشار الوباء، وإن لم يكن يبدو مؤشراً على انتهاء الحضارة الإنسانية، إلا أن الأحداث المترتبة عن انتشار الوباء دفعت المخيلة الإنسانية إلى التفكير بفنائها: هل النوع البشري مشرف على الاندثار؟ وإن بدت الإجابة على هذا التساؤل نوعاً من التنبؤ أو المعرفة بالغيب، إلا أن النظر إلى التاريخ يتيح لنا التعرف إلى بعض التأملات المتعلقة بهذا السؤال.

في كتاب “اختفاء الكائن البشري أرواح غافلة”، يعتبر المؤلف “بيري ساندرز” أن اختفاء الكائن البشري مرتبط بالأخلاقيات التي تطبقها الثقافة الإنسانية وتمارسها. ويعرض الكتاب للثمن المخيف الذي ندفعه عندما لا نهتم بحياة  الآخرين وموتهم، من الأقليات والفقراء والمشردين والملونين والهامشيين ومن يعدون من الأعداء ومن يعدون من الغرباء. وعلى صفحات الكتاب الـ400، يوضح المؤلف أن اختفاء الكائن البشري متعلق أولاً وأخيراً بممارساته، وبطبيعة القيم الأخلاقية التي تدافع عنها الحضارة أو تهملها لتتجاوزها.

“إننا مسؤولون عن هندسة اختفائنا. نحن نفعل ذلك بأنفسنا” (بيري ساندرز).

في القرن التاسع عشر، سقطت الرؤية الدينية للإنسان باعتباره مركز الخليقة، فتداعت السقالات التي تحمل الإيمان الديني والتي كانت ترفع البشر إلى موقعها المتسامي. تغيرت على مسار القرن فكرة الإنسان جذرياً وأخذت معها الحساسيات الإنسانية التقليدية. ومع نشر داروين كتاب “أصل الأنواع بطريقة الإنتخاب الطبيعي”، فقدت الرؤية الدينية زمام المبادرة. وتبنى الإنسان تعريفاً جذرياً وجديداً، فلم يعد مخلوقاً على صورة الرب كما نقرأ في سفر التكوين، بل بالأحرى، الإنسان تطور من خلال القوى المنافسة والتصادفية. حاول العلم والفلسفة أن ينعشا الإنسان، ولكن بلا جدوى، ثم تحملت الشركات الجديدة للنفط والسكك الحديد مسؤولية الحياة اليومية.

وبينما بلغ عدد الوفيات بفايروس “كوفيد-19” ما يقارب 200 ألف ضحية، فإن نيال فيرغسيون يخصص كتابه “حرب العالم” للتذكير بأن المئة سنة بعد 1900 كانت من دون جدال هي القرن الأشد دموية في التاريخ الحديث. وتبين الأرقام أن الضحايا الأكبر لم يكونوا حصيلة أمراض أو أوبئة بمقدار ما كانوا نتيجة أفعال البشر وجرائمهم، فارتفعت أعداد الضحايا على رغم تطور القطاع الطبي ووسائل استمرارية الحياة.

الحروب والصراعات الإنسانية

لم يعتبر النازيون أن اليهود بشراً، بل حشرات متطفلة. إن النظر إلى اليهود يماثل بالنسبة إليهم رؤية عدد من الحشرات الضارة التي هي بحاجة ماسة إلى فناء جماعي. وتكرر هذا المنظور المخيف نفسه، في الماضي الأكثر قرباً، فنقرأ عن قرى فيتنامية مسالمة وقرى ومدن فلسطينية يهجر سكانها بالترغيب أو بالترهيب أو يقتلون وتحتل أراضيهم، لتتحول ضحية الأمس القريب إلى جلاد ويتم تطهير قبائل التوتسي والصرب كلها عرقياً، وقد فقد رجال ونساء وأطفال في دارفور وتشاد في النزاعات الدينية. وعلى إثر هجوم 11 أيلول/ سبتمبر 2001 على برجي التجارة العالميين في نيويورك، انتشرت القوات العسكرية الأميركية في أفغانستان وأبيدت أحياء كاملة في العراق، تمت تصفيتها بسرعة. وأتت بعدها الحرب السورية و”داعش” وما تلى ذلك من عنف وحروب. بالنتيجة، إننا ندفع الثمن باهظاً بسبب تآكل الجوهر الإنساني، بأكثر مما ندفعه للكوارث والأوبئة. 

سيدة سورية تزور قبر احد افراد عائلتها الذي قتل في الحرب

التعذيب

النظرة الدونية التي تكونها مجموعة بشرية عن مجموعة إنسانية أخرى، أو التي تكرسها ثقافة عن أتباع ثقافة أخرى، كلفت الكائن البشري استمرارية الضحايا على مر التاريخ. في كتابه “تاريخ التعذيب” يثبت المؤلف بيرنهارت هيروود أنه تمكن قراءة التاريخ البشري على اعتباره تبادلاً في موقع التعذيب بين الجلاد والضحية. فالانتقام غالباً ما يدفع من كان ضحية في السابق إلى التحول إلى الجلاد الجديد. فيعيد المنتصر التنكيل بالخاسر عبر التعذيب.

يقوم الجوهر الأساسي لفكر التعذيب على إلغاء إنسانية الضحية، على إخراجها من نطاق التعاطف الإنساني، إلى نطاق الازدراء، الاحتقار، استلاب الهوية والحقوق، كل ذلك يسبق التنكيل الجسدي بالإنسان عبر وسائل التعذيب. هذه النظرة بين الإنسان والآخر تكلف البشرية باستمرار عبر التاريخ أكبر عدد من الضحايا.

التكنولوجيا لن تصلح وضعنا الإنساني، لأن التعذيب والقتل تحت التعذيب لا يزالان يمارسان على طول حدود الحضارة البشرية

وعلى رغم أن الإنسانية طورت التكنولوجيا واستخدمت الإنترنت لصنع التلاحم العاطفي بين الأمم. بيد أن التوجه نحو تدمير العدو لا يزال مستمراً، وما زال عدد الأعداء يتزايد، والتكنولوجيا لن تصلح وضعنا الإنساني، لأن التعذيب والقتل تحت التعذيب لا يزالان يمارسان على طول حدود الحضارة البشرية من سجن أبو غريب في العراق، إلى سجن غوانتامو، إلى السجون السورية والسجون في المنطقة العربية عموماً، التي تصدر منظمات حقوق الإنسان والمراقبة الدولية عشرات التقارير سنوياً تبين مقدار ممارسات التعذيب في السجون العربية. والحقيقة تقول مثلاًَ إن عدد المختفين قسراً في الحرب السورية واللبنانية يتجاوز حتى الآن واقع ضحايا لعنة “كورونا”.

إذاً، تستند فعالية التعذيب إلى مقدمتين على الأقل. تقتضي المقدمة الأولى أن واجب المعذِب النظر إلى ضحيته على أنها أقل من البشر، وتكون المهمة أسهل إن كان الضحايا من الملونين، وقد جرب الإنسان في القرن التاسع عشر إلغاء الناس الملونين من سلسلة الوجود البشري مستأصلاً إياهم من الحضارة كلها. قال الجنرال روبروت هيوز في شهادته أمام لجنة التحقيق التي شكلها الكونغرس عن التعذيب الذي مارسه الجيش الاميركي ضد الفليبينيين اواخر القرن الـ19: “إن هؤلاء الناس ليسوا متحضرين. ولو أنهم كانوا أكثر تحضراً لما توجب على أميركا اللجوء إلى مثل هذا التعذيب”. وبرر الطبيب العسكري هنري رولاند التعذيب بحجة القرف الذي يشعره الأميركيون عند النظر إلى وجوه الشعب الفليبيني: “إن شهوة الجنود الأميركيين للقتل كانت انعكاساً للوجوه التي كانت تحيط بهم في الفلبين”.

العنصرية

عام 1869، نشر “فرانسيس غالتون” كتابه الأول بعنوان “العبقرية الوراثية: بحث في قوانينها ونتائجها”. يجعل الكتاب من العرق الأبيض ذروة التطور البشري، ويحدد حصول هذه الذروة العرقية عند الأثينيين القدماء، ويؤكد أن الأرستقراطيين الإنكليز هم الأقرب لها. لقد عبر المؤلف في الكتاب عن تخوفه من نهاية العرق الأبيض، العالي التطور، وحدد العدو الذي هدد النظام المتوطد بأنهم “الأعراق الداكنة والمتدنية والفاقدة للمثل الأخلاقية”. فكيف لنا أن نتحدث عن اختفاء الكائن البشري من دون أن نتحدث عن هلاك القسم الأعظم من الهنود الأميركيين، وعن الممارسات المتعلقة بالعبودية التي عانى منها سكان القارة الأفريقية على مدى عقود من الحضارة الإنسانية؟

احتاج البيض إلى السود ليعلنوا عن رفاهيتهم. لقد حول الغزاة الأوروبيون الأفريقي إلى نوع أو عرق إنساني أدنى، وأخضعوا النساء الأفريقيات إلى الفحوص الطبية والاختبارات القاسية ليصلوا إلى أن الأرداف الضخمة والشفاه العريضة تؤكد الانحطاط الجنسي للأنثى ذات البشرة السوداء. أما مع الهنود الأميركيين فقد أجبروا على تقديم العروض على المسارح، كما في مسرحيات “بافالو بيل” الذي قدم عروضاً عن ترويض الهنود على المسرح، بمقدار عرضين كل يوم. عام 1835، جلب أحد أشهر مقدمي العروض ب.ت. بارنام، عجوزاً مسنة وعاجزة من الأميركيين الأفارقة اسمها جويس هيث، عرضها قرب برودوي وشارع برنس، معززاً حضورها بإعلانات وصور ومقالات في الصحف، كان كتبها بنفسه، وعندما توفيت في السنة التالية، استغل ولع الناس بأجساد الغرباء، وباع التذاكر لتشريحها علناً.

أما الطفلة الجنوب أفريقية سارة برتمان، فتم عرضها أيضاً على الزوار في المعارض في القرن الـ19، بذريعة أن تكوينها الجسماني غرائبي، وماتت سارة أثناء العروض، بعدما شرح الطبيب كوفير وزملاؤه جهازها التناسلي واستنتجوا أن الجهاز التناسلي الكبير و”البدائي” لبارتمان يقدم برهاناً فيزياوياً عن الرغبة الجنسية البدائية للمرأة الأفريقية. وحفظ كوفير الجهاز التناسلي والدماغ لبارتمان في حوض الكحول ووضعهما للعرض في متحف الإنسان في باريس. 

هكذا، أسس علماء اجتماع مثل مورتون إلى الاعتقاد بدونية السود في فترة هيمنة النظريات العرقية. وكتب جوزيف لي كونت: “الزنوج مخلوقات بشرية لا تزال في مرحلة الطفولة ولم تتعلم حتى الآن السير وحدها في ممرات الحضارة. ولهذا قدر لها إما الإبعاد أو يعاد وضعها لتكون في مكانة ثانوية في اقتصاد الطبيعة”. نظرية الطرد ترى أنك كلما استطعت إبعاد الآخر على أنه شاذ وغير عادي، أصبحت عادياً. كذلك آمنت السلطات الإسرائيلية لفترة طويلة بنظرية تقول إن الفلسطيني الجيد، هو الفلسطيني الميت.

صورة المهاجر الأشبه بالوباء

تبرز أيضاً ممارسات الحضارة الإنسانية المؤدية إلى فناء النوع في ما يتعلق بمسألة الهجرة. صحيح، أن الكثير من التشريعات الدولية تكفل حقوق المهاجرين بسبب الحروب أو الظروف القاهرة الأخرى، إلا أن سلوكيات الكثير من المجتمعات تجاه المهاجرين، يمكن عدها في إطار الممارسات التي تؤثر في استمرارية النوع البشري. لقد غرق مئات آلاف المهاجرين في البحر، ونفق منهم كثيرون وهم يجتازون الحدود الطبيعية أو الحواجز الاصطناعية التي صنعها البشر أنفسهم. وجرمت بعض الدول الأوروبية المنظمات الإنسانية العاملة في البحر لإنقاذ المهاجرين من الموت غرقاً، ووضعت القوانين التي تعتبر هذه الأفعال الإنسانية بمثابة جرائم يحاكم عليها القانون بالعقوبات. 

إنقاذ إنسان آخر يفرض العقوبة على المتعاطف. ومن ثم كرست الكثير من المجتمعات المستقبلة صورة نمطية عن اللاجئين والمهاجرين تجعلهم غزاة، مجرمين، أكثر جهلاً وأكثر عرضةً للأوبئة والأمراض، باختصار سعت إلى اعتبارهم كنموذج إنساني أدنى.  

النقد الذاتي أمل الإنسانية الأساسي

هكذا نرى أن بعض المعتقدات الإنسانية تسبب أضراراً في فناء النوع البشري أكثر مما تسببه الأمراض والأوبئة والكوارث. لذلك فإن سؤال اختفاء الكائن البشري هو سؤال أخلاقي بالدرجة الأولى، وإن النظر إلى التاريخ يبرهن أن مقدار الخسارة نتيجة النظريات العرقية، الاستعلائية، والشوفينية والتي تمظهرت بممارسات مثل العنصرية، العبودية، التعذيب، والحروب العرقية والدينية الساعية إلى إلغاء الآخر وإفناءه، هي المصدر الأول لخسارة النوع الإنساني. لكن السؤال الأساسي هنا: هل هناك خلاص من هذه الممارسات الإنسانية المؤدية إلى إفناء النوع؟

ليس لأحد القدرة على الإجابة عن هذا التساؤل، لكن لا شك في أن على الإنسانية إيجاد حلولها لهذه الممارسات. علينا أولاً التفكير في أن المشكلة موجودة، وهي إفناء النوع البشري من ممارسات الإنسان نفسه، وهكذا تصبح صياغة السؤال بأسلوب صحيح عامل مساعد للوصول إلى حلول. ربما يجيب البعض بأن الحل هو بالحب، بالصداقة، بالقيم الأخلاقية. وكما أن تاريخ الإنسانية يعج بممارسات إفناء النوع، إلا أن سعي الإنسانية لم يتوقف أيضاً للحيلولة دون بقاء هذه الممارسات، وفي السعي إلى إيقاف هذه الجرائم. إن المراهنة هي على أخلاق الناس الأحياء، يكتب ساندرز: “إن أي استجابة ستستند إلى إيمان عميق بالناس الحقيقيين الأحياء. لا يمكننا إيجاد الحلول لمشكلاتنا الكبيرة المعاصرة كالحرب، والإرهاب، وارتفاع حرارة الأرض، من دون المشاركة أولاً في المشروع الأساس، وهو استعادة الإنسان”.

إن الأمل الأساسي المتعلق بالخلاص من هذه الممارسات الإنسانية التي تفني النوع البشري هو قابلية الحضارة الإنسانية للنقد الذاتي، والرغبة في الاندفاع نحو التجديد. إن النقد الذاتي هو الميزة الأساسية التي تعطينا أمل باستمرار الحضارة الإنسانية. وهكذا، يبدأ فناء النوع البشري أو بقاؤه انطلاقاً من مجموعة آرائنا السياسية، وقيمنا الاجتماعية، وممارساتنا الثقافية والإبداعية، يكتب بيري ساندرز: “علينا توسيع الوحدة التي تجمعنا مع الآخرين”.