fbpx

مرحباً أيتها المكتبة المهجورة… مساء الخير يا كونديرا!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الكتّاب كالأصدقاء. هناك من تطول علاقتك به وهم قليلون. وهناك كتّاب موقّتون وكتب موقّتة. يرافقون قارئهم في مرحلة ما، ثمّ يعجز عن اصطحابهم معه إلى مرحلة أخرى

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تسنّى لي في هذه العزلة أن ألقي نظرةً على مكتبي. انتبهت أنها مستوحدة جداً، تجلس في الصالون الواسع بمفردها، ذلك أنني ما عدت أزورها، حتى أنني لم أمسح غبارها منذ وقت طويل. لقد خنت مكتبتي منذ سنوات مع الكتب الإلكترونية، وقد هجرت الورق، سوى في رحلات السفر أو في الانتظارات الطويلة في مطار أو محطة قطار. ذهبت إلى الـpdf بقدمين رشيقتين، ونسيت طريق العودة إلى الورق، حتى فقدت حنيني إلى رائحته.

أشعر بأننا صرنا مختلفتين، مكتبتي وأنا. أنا أشبه سيّدة ما أمشّط شعرها كل يوم وأنتبه إلى الشيب الذي يتكاثر فيه ببطء، وهي تشبه طفولتي ومراهقتي وفتاةً ما كُنتها. أماكن بعيدة أزورها بالذاكرة وأعجز عن لمسها بيدي، ومهما حاولت سأبقى أسير في اتجاه آخر، قد يكون معاكساً.

“نسيان. كوم” لأحلام مستغانمي، “الكيميائي” لباولو كويلو، “قالت لي السمراء” لنزار قباني، “اسمع يا رضا” لأنيس فريحة، “دمعة وابتسامة” لجبران خليل جبران، “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ، “نساء بأقفال” لهيفاء بيطار، “أثر الفراشة” لمحمود درويش…

أشعر أنها كتب انتهت مع كتّابها في رأسي. أتذكّر تماماً شعوري حين قرأتها، لكنّ المشاعر التي نلتقطها من الكتب، نفقدها أحياناً. بالنسبة إليّ، دمّر ميلان كونديرا الجميع. حين قرأته، عزلني عن كل ما قرأته سابقاً، ومنحني شيئاً من العداوة مع كل ما عداه. مسكني كونديرا من شعري، من يديّ، من قلبي، وكونديرا الفتّاك ينجح في أخذ مساحة الآخرين، بلا تردد أو رحمة. كونديرا مرحلة طويلة تعيشها قارئة مثلي، فيما يمكن أن يُنسى كتّاب كثيرون أو يصبحوا مكروهين أو غير كافين أو أقلّ مما ينبغي.

المشاعر التي نلتقطها من الكتب، نفقدها أحياناً. بالنسبة إليّ، دمّر ميلان كونديرا الجميع. حين قرأته، عزلني عن كل ما قرأته سابقاً، ومنحني شيئاً من العداوة مع كل ما عداه.

ثمّ أتى تشارلز بوكوفسكي، الذي يشبه اللعنة. كتب هذا الرجل كل ما كتبه برغبة عارمة في لعن كل شيء، وهو بغاية الثمالة. وما زلت أهدّئ نوبات غضبي حين أتذكّر ترّهاته في “أجمل نساء المدينة”، أو حين قال “ما دام بمقدورك إدارة ظهرك للعالم كلّه فأنت على ما يرام”. مع بوكوفسكي بنيت علاقة أخرى. أنا أستخدمه بكل ما للكلمة من معنى، لتخفيف وطأة الحياة ومشاركته السخرية والمتاهة. كان كتاب “أجمل نساء المدينة” آخر الكتب الورقية التي قرأتها، قبل أن أهجر مكتبتي.

الكتّاب كالأصدقاء. هناك من تطول علاقتك به إلى سنوات وأحياناً إلى الأبد، وهم قليلون. وهناك كتّاب موقّتون وكتب موقّتة. يرافقون قارئهم في مرحلة ما، ثمّ يعجز عن اصطحابهم معه إلى مرحلة أخرى، فيمضون وقتهم في مكتبة قد تتحوّل إلى دار رعاية مجانيّ.

تماماً كما قرأت أحلام مستغانمي في الجامعة، ثمّ أقلعت عن ذلك كلياً، وشعرت بأنّ علاقتي بها انتهت إلى الأبد، باستثناء ما غنّته من شعرها المنثور، الفنانة جاهدة وهبي. “أيها النسيان أعطني يدك، كي أسير في مدن الذكرى معك”، تبدو هذه صورةً شعرية عادية، لكنّ صوت جاهدة ينجح في جعلها تحفة. 

القصة ذاتها تتكرّر مع نزار قبّاني الذي قرأته كلّه تقريباً أيام المراهقة والحبّ الأول. ثم انتهت علاقتنا يوم انتهى ذاك الحبّ الأول. لكنني ما زلت أحبّ أن أسمع قصائده مغنّاةً بصوت كاظم الساهر. “الويل لي يا مستبدة، الويل لي من خنجر طعن المودة، الويل لي كم نمت مخدوعاً على تلك المخدة، الويل لي من فجر يوم ليتني ما عشت بعده”. ليس في كلمات هذه القصيدة إعجازاً، لكنّ الموسيقى تجعلها أشبه بمعجزة، أنفعل معها كلّما سمعتها وأنا أقود السيارة في زحمة السير، أو عند إشارة حمراء. فتمرّ في رأسي قصيدة أخرى لنزار “الحب لا يقف عند الضوء الأحمر”. “لا تفكر أبداً… فالضوء أحمر… لا تكلم أحداً… فالضوء أحمر”.

ربما تنجح الأغنيات في إنقاذ النصوص التي أكاد أهجرها، لكنّ الأمر لا يحصل دائماً مع الأفلام المقتبسة عن روايات أحبّها. أنطونيو سكارميتا منحني رواية “ساعي بريد نيرودا”، لكنّ الفيلم الإيطالي الذي اقتبس عنها كان كفيلاً بإثارة غضبي. كان على سكارميتا أن يوقف ذلك، ولو كنت أملك رقم هاتفه لاتّصلت به لأسائله. أشعر دائماً أنني أملك ترف مساءلة كتّابي ومعاقبتهم. وأظنّني عاقبت الكثير من الكتّاب الكلاسيكيين، حين ضقت ذرعاً منهم، واحد منهم كان باولو كويلو الذي ما زلت أشتري كتبه، لكنني لا أقرأه، عقاباً له. 

بالعودة إلى مكتبتي المهجورة، أنا بغاية البحث عن كاتب جديد أبني معه علاقة مختلفة. لقد صرت مسكونةً بكونديرا، حدّ الحاجة إلى استراحة في كاتب آخر. تصعب عليّ القراءة الممتعة بعده، تماماً كما قد يصعب على المرء أن يقع في حبٍّ جديد بعد قصة مدوّية.

لا شكّ في أنها مسألة شخصية مزاجية لا يمكن تعميمها، وأعتقد أنّ مزاجي في الكتب غريب كمزاجي في الحب والصداقات. أنا أغضب على الكتّاب كغضبي على رجلٍ يستحقّ الهجر. حتى أنني لا أمنحهم فرصاً كثيرة. غالباً ما أتوقّف عن قراءة روايات “مهمّة” وعالمية بعد أول صفحة أو مقطع. وكان توقّفاً نهائياً. حتى أنني لم أسمح بعدها بأي نوعٍ من المصالحات أو المصافحات. أنا أتطرّف في كل شيء، في الحب، في النسيان، في الغضب، في الكتابة، وحتى في الحكم على الكتب ومرتكبيها.

أمّا مكتبتي المهجورة، فأفكّر بالاستمرار في هجرها الآن،. أفكّر بشراء مكتب صغير وطاولة للعمل من أمامها، حتى تراقبني وأنا أتصفّح الكتب الإلكترونية التي تروق لي. سيعرف حينها الكثير من الكتّاب القابعين فيها أنهم معاقبون وأنني لم أعد أحبّهم. لكنّني أعرف أن بوكوفسكي سيكون هناك من أجلي ومعه زجاجة خمر رديئة لنتقاسمها معاً، هو وكونديرا وأنا… وربّما ينضمّ إلينا كاتب آخر على شاكلتنا.

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!