fbpx

لبنان : الانهيار دخلناه من بابه العريض هذه المرّة….

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هذه اللحوم المثلّجة، اشتراها والدي حينها بما يعادل الـ60 ألف ليرة. هذه اللحوم المثلّجة، تساوي اليوم 300 أو 400 ألف ليرة. جدّيّاً، أفكّر أن أبيع ما تبقّى منها في السوق السوداء! هل يُؤَنّبني ماركس على فعلتي هذه؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أكتب هذا المقال وأمقت نفسي، لأنّني أقلّه أملك حاسوباً كي أكتب مقالي عليه. وقد يبدو هذا الأخير متشائماً، لكنّه ليس كذلك. إن بحثتم جيّداً، ستجدون أنّ فيه دعوة، ولو خجولة، إلى الأمل. دعوة ولو خجولة، إلى البناء ما بعد الهدم. إنّه مقال ينقل خواطر نفس- سياسيّة لشابٍّ اعتاد أوضاع هذه البلاد وانغمَس فيها، وحاوَلَ، بهذا القدر أو ذاك، أن يتدخّل، ولو قليلاً، كي يأتي الصبحُ جميلاً.

ولبنان، كان على امتداد قرونٍ خلت، مساحة خصبة لصراعاتٍ سياسيّة عنيفة، وتركّز الأمر على الانعكاس الأيديولوجيّ لها، في معظم الأحيان بين قوى السلطة ذاتها التي تتبنّى الخطاب النيوليبيرالي ذاته، مع بعض الفروق في القشور. ثمّ بانَ مع انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر خطاب إيديولوجي جديد، يجنح بطبيعة الحال نحو اليسار. أما في الشق الاقتصادي، فقد تبيّنّا أنّ ما حذّر منه عدد لا بأس به من الاقتصاديّين سابقاً، وتجاهله البعض بحجّة أنّه مجرّد “نَقّ”، بات اليوم صحيحاً، وكان الأجدر بنا أن نقنَع به، قبل أن يفوت الأوان. اليوم، لا البكاء على الأطلال يجدي نفعاً، ولا التطبيل لحكومة هي امتداد لما سبق ينفع، اللّهُمَ إلّا إذا فاجَأتنا ومسَّت ببنيّة هذا النظام، ولا التطبيل لقوى الثورة المضادّة ينفع.

“سيُراقب رياض سلامة الليرة تنهار”، كما عنوَنت إحدى الصحف، و”الناس ستعتاد على ارتفاع الأسعار”، كما صرّح الحاكم نفسه. وقد تبدو المسألة بمثابة تصريحٍ اعتياديّ، إلّا أنّ أحدهم لا يجرؤ على البَوح بتبعات التصريح: سنراقب المجتمع اللبناني ينهار. وهذا أمر ملموس، حقيقيّ، واقعي، يحدث الآن: عائلة تأكل قطّة، اكتظاظ في زمن “كورونا” أمام المصارف، امرأة تستبدل رقم انتظارها بالطابور برقمٍ أقرب مقابل مئة ألف ليرة، مجزرة ضحيّتها 11 مواطناً عُنوِنَت بـ”جريمة شرف”… وهذا أوّل الغيث.

الانهيار الاجتماعي، دخلناه، من بابه العريض هذه المرّة. لا لبس بالمسألة. هنا، 50 في المئة من العائلات تقبع على خط الفقر وما دون. أحمدُ ربّي، إن كان موجوداً (وهذا ما بتُّ أستبعده يوماً بعد يوم)، لأنّني وفق تقديري لوضع العائلة، أجلس على الحافّة تماماً. لا أعني الحافّة الفاصلة بين الطبقة الوسطى والطبقة العاملة، إنّما تلك الفاصلة بين الفقر العادي وما دون خطّ الفقر. لكن ربّما هذه المسألة كانت تصحّ البارحة، أمّا اليوم، فأصبح راتب والدي يساوي 500 دولار تقريباً. والدي الذي تفصله سنة عن التقاعد، قرّرت السلطة أن تسلبه أيضاً صندوق تعويض نهاية الخدمة، حمايةً منها لكبار المودعين.

“كيف تكون الثورة نظيفة، وهي التي تخرج من أحشاء الحاضر مُتّسخةً به، وتهدمه وتغتسل بوعدٍ أنّ الإنسان جميلٌ حرّاً؟”.

الجُرم واضح: السَطو على أموال صِغار الكسبة لحماية كبارهم من ثمن الانهيار الذي تسبّبوا به. المسألة واضحة: هيئة تتدخّل لتسلب من طبقة وتعطي طبقة أخرى. الصراع طبقي. واضح. ووالدي هذا، نفسه، كان  اشترى منذ شهرٍ أو أكثر، قبل بداية الحجر، كمّية من اللحوم وضعها في الثلّاجة. حينها، عاتبته بأنّه يُبَذّر ويشتري أكثر من حاجَتنا. لم يُجب. اليوم، أكسرُ بشكلٍ دوري قطعة من هذا اللحم وأطهوها، من دون أن أضطر إلى شراء شيءٍ من السوق. هذه اللحوم المثلّجة، اشتراها والدي حينها بما يعادل الـ60 ألف ليرة. هذه اللحوم المثلّجة، تساوي اليوم 300 أو 400 ألف ليرة. جدّيّاً، أفكّر أن أبيع ما تبقّى منها في السوق السوداء! هل يُؤَنّبني ماركس على فعلتي هذه؟ لا أعلم. لا يهم.

أصلاً، ما الذي يهم حقّاً؟ أصلاً، “لماذا هناك شيء بدلاً من لا شيء”؟ كان هذا سؤال أرسطو منذ ألفيَّتَين ونصف الألفية، أستعيده يومياً هذه الفترة. قد يبدو العدم في لبنان أرحم من الوجود. عندما يسألني أصدقائي عن الوضع، أُجيب: “انتهى لبنان، خُلِص”. دخَل العدم. رفَسَهُ التاريخ خارجه. أصلاً ليس هذا بجديد. أمضي يومياً 6 ساعات مع مشروعي للتخرّج في الهندسة، أُنجز خلالها ما كان يستغرق منّي ساعة في ما سبق. في الوقت المتبقّي أشرد كي أفكّر، لمَ التخرّج من الأساس؟ البطالة “على قفا مين يشيل”. ثم أُتابع صفوف الفلسفة أونلاين – وحرفيّاً، لم تعلق حتى اليوم ولا كلمة في ذهني، ما همّي الآن إن كان أرسطو أدهى من معلّمه؟ تباً لهما، “واحد يقول للتاني”.

منذ يومَين، أخبَرني صديقي، تزامناً مع الجلسات التشريعيّة الأخيرة، “السلطة تخترع فنّاً للانهيار”. ضحكنا. لكن كان يجدر بنا أن نبكي. في اليوم ذاته، لامس الدولار 4000 ليرة. عادت الحركة إلى الشارع، بعيداً من الرَكمَجة. الجيش أطلق الرصاص الحَي في تعلبايا، والمكافحة ضربت رؤوس المتظاهرين بالهراوات في صيدا واعتقلت 15 منهم. في بيروت، حُسِبنا على “حزب الله” لأنّنا هتفنا ضد رياض سلامة. هكذا أصبحت المعادلة، السلطة في لبنان “بندوقة”، قوَّضَت الانتفاضة بلعبةٍ أيديولوجية عمَّمَتها على أدمغة المطبّلين لها: من يتظاهر ضد الحكومة هو مع بقايا 14 آذار، ومن يتظاهر ضد رياض سلامة محسوب على محور الممانعة. ونحن نعلم علم اليقين أنّ الاقتصاد ينعَقد على السياسة، وأنّ المصرف مُدان بقدر ما تُدان الحكومة والعكس بالعكس، وأنَّ 8 و14 جُزءان من كلٍّ ولا ينفصلان. ولكن، كأنّ برياض سلامة يقف اليوم على سطح المصرف المركزي ويحرق الليرة ويصرخ لنا: “14 من أمامكم و8 من ورائكم، فأين المفرُّ؟”، يجيبه رَفيقي خضر، من الشارع، تحت: “الي بلّش بِتشرين، ما بينطفي بِنيسان”، يرفعون له الوسطى، ثمّ يجيبه رَفيقي بْزيع أنّ “طبقية طبقيّة، معركتنا طبقية”، يَشرَئبّ سلامة قليلاً لأنّ هناك من أدرك لبّ المسألة. الآن، “وَسَّخت اللعبة”، أصلاً هناك من قالها منذ أربعين عاماً: “كيف تكون الثورة نظيفة، وهي التي تخرج من أحشاء الحاضر مُتّسخةً به، وتهدمه وتغتسل بوعدٍ أنّ الإنسان جميلٌ حرّاً؟”.