fbpx

لبنان: متاريس إعلامية للدفاع عن السلطة وتأديب المنتفضين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

توصّل جزء من الإعلام اللبناني أخيراً إلى خلاصة مفادها أن قضايا الناس غير مربحة، وأن مصلحة استمراريتها مرتبطة بتبنّي خطاب السلطة والدفاع عنه.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هي “أحداث” و”مواجهات” و”ساحات حرب”… 

وهؤلاء الغاضبون في الشوارع تسلل بينهم “مندسون” و”مثيرو شغب”. 

هكذا يردد مراسلون لبنانيون على مسامع المشاهدين، فيما كاميرات البث المباشر حددت مواقع التغطية بلا لبس، إنها في الجهة التي ينتشر فيها الجيش وعناصره.

في المقابل، هناك من أعلن تمترسه صراحةً خلف المصارف وحاكم مصرف لبنان.

هذه المعادلة حكمت المقاربة الإعلامية وقوضت مفاعيل شعار “كلن يعني كلن” الذي رفعته الانتفاضة اللبنانية منذ 17 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.

بعض التغطيات الإعلامية اختزل الكثير من الواقع المنفجر في لبنان خلال الأيام الأخيرة، إذ كادت التغطيات تتشابه لتبدو وكأنها مشهد واحد على شاشات عدة وعبر مواقع إعلامية مختلفة. هذا الأمر كان سابقاً على عهد الحكومة الحالية، لكن ومنذ تكليف حكومة الرئيس حسان دياب برز جهد إعلامي لافت لتقديم العهد الحالي والحكومة الحالية التي يرعاها قطبا “حزب الله” والتيار العوني بشكل إيجابي، يتولى تضخيم أي إنجاز ولو زوراً وتقويض حقائق الفساد والمحاصصة والارتكابات.

هذا ما أثبتته المقاربات الإعلامية للاشتعال الحاصل في شوارع طرابلس ومناطق لبنانية عدة، والتي امتلأت بعشرات المحتجين الغاضبين على وقع انهيار الوضع المعيشي وبلوغ سعر صرف الدولار سقف الـ4300 ليرة ما دفع بشرائح واسعة تعاني أصلاً من وضع اجتماعي اقتصادي ضاغط، للنزول إلى الشارع والاحتجاج. 

لكن المقاربة الإعلامية لحقيقة ما يحصل في الشارع اللبناني بدت مضبوطة بسقف واضح، فمنذ أسابيعَ قليلة، كان المنتفضون اللبنانيون، بعيون البعض، “جيلاً يبشّر بمستقبلٍ جديد” ويطوي صفحة سنوات من الحرب الطائفية والسياسية. لكن اليوم وفي طرابلس تحديداً، بات المحتجون جياعاً تحكمهم انفعالاتهم العنفيّة، ومشاغبين اندسّوا في الساحات ليلاً للتخريب، كما وصفهم بعض الإعلاميين.    

هذا التغيّر في النظرة الإعلامية للانتفاضة اللبنانية ليس مستغرباً، فقنوات التلفزة اللبنانية هي نتاج نظام المحاصصة والفساد الطائفي في لبنان وهي كانت منحت تراخيص عملها في مطلع التسعينات، عقب انتهاء الحرب بناء على هذه المحاصصة وتوزعت الحصص الإعلانية بناء عليها أيضاً.

كيف قاربت الشاشات الاحتجاجات؟

ليلة اندلاع الاحتجاجات في طرابلس والتي شهدت تكسير مصارف ومواجهات مع عناصر الأمن وتخللتها اعتقالات، استهلت قناة “الجديد”، التي قدمت نفسها خلال الأشهر الماضية بأنها قناة “الثورة” وسمّت أحد برامجها “يوميات ثورة”، لتقول: “طرابلس عروس ثورتكم فلماذا أدخلتم زناة الليل إلى حجرتها” بكل ما في هذه العبارة من ذكورية مقيتة. بينما ذهبت قناة المنار إلى اعتبار أن المنتفضين تهجّموا على الجيش. فقالت في مقدمتها، “خُلط الوجع بالغضب، وتسلل الشغب من بينهما بفعل فاعلٍ ليصيب الجيش والقوى الأمنية ويُحرق آلياتٍ عسكريةً ومصارف ومحال تجارية، والحصيلة عشراتُ الجرحى من العسكريين، وضحيةٌ من الطرابلسيين متأثراً بجراحِ الأمس. ما جرى في طرابلس عاوده آخرون على طريق الناعمة حيث قطعوا الطريق الساحلية وتهجموا على الجيش…”. 

على الضفة المقابلة، أي ضفة المصارف والفريق المتحالف معها ذهبت قناة “أم تي في” أبعد من ذلك، فنشرت خبراً عقب مؤتمر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الصحافي الأخير، قائلةً، “رياض سلامة يقلب الطاولة ويهاجم صنّاع اليأس”… هذا عدا عن التغطيات المباشرة المجتزأة التي تُظهر انحيازاً إعلامياً للقوى الأمنية، وتستخدم عبارات كـ”المندسين” و”المشاغبين”، بخاصة في طرابلس، التي شهدت أمس ليلة طويلة من العنف، أُصيب فيها أكثر من 42 شخصاً.

الجيش والدعاية

كان لافتاً في سياق الحملة الهائلة لترويج الحكومة والجيش وعهد التيار والحزب، فيديو دعائي نشرته صفحة الجيش اللبناني على “تويتر” بعنوان “هيك ردّ الجميل”، ينتقد التظاهرات ويعتبرها استهدفت الجيش الذي وزّع مساعدات على المحتاجين. الفيديو أثار ردود فعل شاجبة، وطرح أسئلة حول هدفه، إلا إنه سُحب بعد أقل من ساعة من نشره. علماً أن الجيش منع وسائل الإعلام من تصوير الاحتجاجات ليلاً في اليومين الأخيرين.

لا شك في أن الاستقطاب السياسي والمالي انعكس بشكل بنيوي في الشرايين الداخلية لهذه المحطات ولوسائل الإعلام، بحيث فقدت الكثير من الحساسيات المهنية والأخلاقية الضرورية، فنجد مراسلين ومراسلات يعلنون انحيازاتهم السياسية علناً في الشارع ونراهم يقرعون المواطنين ويعلنون مواقفهم بشكل لا مهني ولا أخلاقي على حساب التغطية وعلى حساب الحقيقة.  

اكتسب إعلاميون قدرةً هائلة على مخاطبة الجمهور بتعالٍ وسلطوية بعد أزمة “كورونا”، إذ شكّل الوباء ذريعة متينة لممارسة “الأستذة” في اللغة والمقاربة تجاه الناس وتراجعاً لافتاً في تقصي حقيقة ما يحصل أو بالحد الأدنى الاقتراب من مشهد الناس وواقعهم. 

هذا التغيّر في النظرة الإعلامية للانتفاضة اللبنانية ليس مستغرباً، فقنوات التلفزة اللبنانية هي نتاج نظام المحاصصة والفساد الطائفي في لبنان.

خلال الأيام الأخيرة وخلال تغطية احتجاجات طرابلس التي كانت مركزاً أساسياً للحراك الشعبي، لم نجد على الشاشات سوى زاوية واحدة للتغطية هي تلك التي تقف إلى جانب القوى الأمنية والجيش. لم يبرز جهد في الدخول إلى عمق بيوت المحتجين الغاضبين وأحيائهم، وتم الاكتفاء بعبارات سريعة مقتضبة غاضبة لا تروي قصة ولا تعكس حقيقة كاملة.

هذه الممارسات تثبت من جديد أن حرية التعبير النسبية في لبنان، يمكن بسهول أن تنزلق وتصبح ستاراً لدعاية وأهداف سياسية تحت وطأة الانحياز السياسي تارة وتحت ضغط الحاجة الاقتصادية تارة أخرى.

في هذا السياق، تقول دُجى داوود، إحدى الصحافيات المؤسسات لنقابة الصحافة البديلة، “العاملون في المجال الإعلامي هم أول المتضررين من سيطرة سلطة رأس المال على غرف التحرير، وفرض خط تحريري معيّن عليها. فهؤلاء الصحافيين، على رغم اقتطاع 50 في المئة من مرتبات معظمهم أو حتى عدم تقاضيهم رواتب، مجبورون على العمل في ظلّ ملاحقات واستدعاءات وضغوط أمنية. وبذلك، فإن تسيير الحقيقة بحسب أهواء الأوليغارشية في الإعلام، ما هي سوى مسمار أخير في نعش حرية الرأي والتعبير في لبنان. وذلك على رغم أن تجربة الدول المجاورة تخبرنا أن أبواق السلطة وصحافيي التطبيل هم أول من دخلوا السجون أو أُقصوا عن الشاشات…”.

في تقريرٍ لمنظمة “مراسلون بلا حدود” ورد، أن حرية التعبير في وسائل الإعلام اللبنانية حقيقية، إلا أنها مسيَّسة للغاية ومستقطبة إلى حدٍ بعيد. إذ قالت المنظمة إن الصحف والمحطات الإذاعية والتلفزيونية أدوات دعاية لبعض الأحزاب السياسية أو رجال الأعمال. 

ولعلّ هذا الخطاب الفوقي الواضح لدى بعض الإعلاميين اللبنانيين، هو نتيجة تراكم سنوات من احتكار الخطاب العام، وبناء شبكة علاقات مع الطاقم السياسي والأمني.

نرى يومياً وجوهاً تتصدّر الشاشات، لتلقي مواعظ على المواطنين والتنظير عليهم والقول إن انتفاضتهم تُخطئ، وتعتدي على الجيش والقوى الأمنية.

إذاً، توصّل جزء من الإعلام اللبناني أخيراً إلى خلاصة مفادها أن قضايا الناس غير مربحة، وأن مصلحة استمراريتها مرتبطة بتبنّي خطاب السلطة والدفاع عنه، هذا عدا عن ضغوط أخرى، كالقروض التي تربط المؤسسات الإعلامية بالمصارف، وملفات الفساد وغيرها… علماً أن إدانة تصّرف ضد المدنيين، لا يعني إدانة الجيش، إنما هدفه وقف هذا التصرّف.

وعليه، عاد الإعلام إلى مناصرة القوى الأمنية، ومنها الجيش، “ظالمةً أو مظلومةً”. هذه الصورة لم تغب يوماً عن الساحة الإعلامية، كما مشهد المذيعات بالبدلات العسكرية، إلا أنها تجلّت بوضوح أخيراً.  

المشكلة أن هذه الممارسات تشكّل خطراً كبيراً، بخاصة أن لبنان على حافة انفجار اجتماعي من المرجّح أن تترتّب عليه خضّات أمنية واقتصادية. فإخفاء الحقيقة، لن يكون سوى غطاء للقمع والقتل ومحفّز لاشتداد الممارسات الفاسدة بطشاً.