fbpx

رحيل هنري فيبر: دونكيشوت اليسار الفرنسي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

غادرنا هنري فيبر عن عمر 76 سنة أمضى معظمها في الشوارع وقاعات الجامعة والمكاتب السياسية، تنقّل من تنظيم إلى آخر وترك الشيوعية حالماً بتجربة اشتراكية ديموقراطية، صارع طواحين الهواء في مرات كثيرة، كسب معارك وخسر أخرى

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

فشل هنري فيبر في تحقيق انتصار أخير في معركته مع “كورونا”. مات الرجل الذي تعوّد على النكسات السياسية وتعايش معها ببراغماتية قلّ نظيرها حتى قيل ذات مراجعة إنّه مدمن على الهزيمة لكنّه لا يخسر.

لهنري فيبر صفات استثنائية لا تلبس صورة المناضل الشيوعي، الجامد، الدوغما، في حياته المهنية والشخصية على السواء. حسّ النكتة الذي يتمتّع به والسخرية التي لطالما تحدّث عنها زملاؤه في مجلس الشيوخ وفي مكتب الحزب الاشتراكي، تلك التي لا توفّر شيئاً ولا أحد ولا حتى ذاته، جعلت منه شخصية محبّبة من خصومه قبل رفاقه. إقباله على المناظرة والاشتباك، تنظيم الندوات السياسية، عقد الجدالات الفكرية، رغبته في التشكيك الدائم وفي البحث المستمرّ عن ممكنات الخروج من صورة “الحزب-الشركة” كما كتب في مقاله الأخير قبل شهر، إيمانه المطلق بالتنظيم الذي انتسب إليه، عائلته الحزبية التي ترقد وتنهض بعد سنوات. كل ذلك جعل من هنري فيبر مناضلاً ذات شباب متجدّد، لا ينضب، أفقه السماء الواسعة حيث كل شيء مفتوح على احتمال النظرية والممارسة.

هنري فيبر

ولد هنري فيبر عام 1944 في مدينة لينيناباد في طاجكستان لأبوين مهاجرين يهوديين، كانا هربا من كرزنو البولونية في امبراطورية غاليسيا (قبل تفكك الإمبراطورية النمساوية والمجرية) التي تبعد كيلومترات قليلة من معسكر أوشفيتز بيركينو النازي. في قلب معسكر عمالي على متن سفينة-مستشفى عند ضفاف نهر سير- داريا الذي يخترق ثلاث جمهوريات سوفياتية قيرغيزيا، أوزبكستان وقازاقستان، ولد الطفل الذي سيجد نفسه يتنقّل بين صربيا ولينيناباد بسبب رفض والديه للجنسية السوفياتية. كان والده يعمل حطّاباً في ذلك الوقت وأمه تشتغل في الخياطة واستمرّ الوضع على حاله حتى نهاية الحرب وعودة العائلة إلى بولونيا. هناك، حيث معاداة السامية الصاعدة، أجبرت العائلة على الهجرة إلى باريس. 

في ضاحية بيلفيل الباريسية، وقبل أن ينتقل إلى الدائرة التاسعة، استعاد والد هنري عمله الحقيقي كساعاتي ودخل الطفل الذي كان يعرّف عن نفسه لدى أترابه كـ”طاجيكي” أولى مراحل الجدارة الجمهورية (méritrocratie républicaine)، حين سنحت له الفرصة بالدخول إلى ليسيه جاك دوكور. في الثانوية، بدأ هنري يتسيّس وبدأ طابع العائلة المعادي للكنيسة والستالينية في آن يترك أثره على المراهق الذي سرعان ما انتسب مع أخيه إلى هاشومير يتسعير، الحركة الكشفية الصهيونية العلمانية ذات التوجهات الإشتراكية. في السادسة عشرة، قاد هنري تظاهرة مناهضة للحرب على الجزائر وأسّس في الثانوية أوّل خلية للشبيبة الشيوعية (jeunesses communistes) على مرأى والدين فخورين بالولد الذي لم يحد عن نهج العائلة.

لهنري فيبر صفات استثنائية لا تلبس صورة المناضل الشيوعي، الجامد، الدوغما، في حياته المهنية والشخصية على السواء. حسّ النكتة الذي يتمتّع به والسخرية التي لطالما تحدّث عنها زملاؤه في مجلس الشيوخ وفي مكتب الحزب الاشتراكي، تلك التي لا توفّر شيئاً ولا أحد ولا حتى ذاته، جعلت منه شخصية محبّبة

حتى عام 1962 كان هنري فيبر ما زال ناشطاً في “حزب موريس توريز” لكنّ دخوله إلى السوربون واحتكاكه بالخلية الطلابية التي نشطت تحت جناح واسع عرف بـ”تجمّع الطلاب الشيوعيين” ومداخلاته الشجاعة، جعلته محط أنظار ورصد الناشطين الذين يكبرونه سنّاً. هناك بدأت علاقة ستدوم لسنوات وستتصدّر ذات يوم الصفحات الأولى للصحف الفرنسية والعالمية. مع آلان كريفين وجد فيبر نفسه مطروداً كما سائر التروتسكيين من الحزب الشيوعي الفرنسي (PCF) وتجمع الطلاب الشيوعيين (UEC) فحصل الانشقاق الأول الذي نتج عنه تنظيم الشبيبة الشيوعية الثورية (JCR). كان هنري فيبر كتلة نشاط في تلك الفترة التي سبقت أيار/ مايو 1968، وكانت البلاد تغلي اجتماعياً وكان الحديث عن “ضرورة الثورة الثقافية” يزداد يوماً بعد يوم.

مع آلان كريفين، المهاجر الآتي من عائلة يهودية أوكرانية، ودانيال بنسعيد، المهاجر المولود في عائلة يهودية جزائرية، شكّل هنري تريو الانتفاضة الطلابية التي سرعان ما التحقت بالحركة الإحتجاجية التي نفذها دانيال كون بنديت باحتلالها جامعة نانتير الباريسية. راجت نكتة في تلك الفترة تقول إنّ كريفين وفيبر، كانا يتعمّدان الحديث بالإيديشية (لغة يهود أوروبا الاشكناز) في المكتب السياسي للحزب كي لا يفهم بنسعيد كلّ ما يحدث (فيبر في مذكراته في كتابه “شباب ثوري” Jeunesse rebelle).

 عندما سئل هنري فيبر في مقابلة صحافية عام 1968 عن الجدوى من حمل السلاح في الانتفاضة التي استمرّت 6 أسابيع وتركت مفاعيل ثقافية واقتصادية واجتماعية في فرنسا والعالم، قال “في فرنسا الديغولية علينا أن نسلّح البروليتاريا أولاً برغبتها في تسليح نفسها للمواجهة”. لقد أحدثت ثورة أيار 68 تغيرات جذرية في بنى المجتمع الفرنسي من حيّز العائلة إلى مجال العمل وصولاً إلى الثقافة الجنسية والمساواة بين الجنسين. بعد الانتفاضة تفرّغ فيبر مع بنسعيد لكتابة مراجعة نقدية لتلك الفترة ودخل هنري جامعة فانسان، التي أسسها ميشال فوكو، كمدرّس للفلسفة بعدما ناقش أطروحته حول “الماركسية ووعي الطبقات”.

تعرّض فيبر في محاضراته لمضايقات كثيرة، لا سيما أثناء إعطائه مادة الشيوعية والصين وكانت معظم تلك المضايقات المحببة من الطلاب الماويين مدفوعة بحركية آلان باديو.

بعد 15 عاماً أمضاها في معسكر أقصى اليسار والتروتسكية، رأى هنري فيبر أن لا حياة ولا ممكنات لتلك الحركة الثورية التي خمدت في لحظة “إنتاج أكثر ومركنتلية أقل” في سنوات السبعينات، وتحدّث عن مستقبل وحيد: الإصلاح. فانتقل إلى الاشتراكية الديموقراطية كبوابة وحيدة نافذة لتحقيق خرق في الحياة السياسية التي سيطر عليها الديغوليون لأكثر من ربع قرن.

انتسب هنري فيبر إلى الحزب الاشتراكي الصاعد إلى الحكم مع فرانسوا ميتيران عام 1981 ومنذ ذلك الحين نشأت علاقة صداقة مع لوران فابيوس، وريث الميتيرانية الأبقى الذي استلم رئاسة الحكومة عام 1984، ستستمرّ حتى وفاة فيبر.

في الحزب أصبح فيبر شيئا فشيء وجهاً فكرياً، التفّت حوله أسماء عدة لكنها لم تستطع أن تشكّل حالة استثنائية كتيار الروكاردية الذي التفّ حول شخص ميشال روكار، ليتعرّض لإقصاء بحنكة ميتيران ودهائه، شأنه شأن التيارات التي نمت داخل الحزب. ربما هذا ما جعل من فيبر شخصية إجماع في بنى المؤسسة الحزبية، فالرجل دأب على تجنّب المناكفات والمشكلات الهرمية والفكرية التي قد تؤثر في مسيرة الحزب الذي خسر ولايتين رئاسيتين بعد عودة الديغوليين بشخص جاك شيراك. 

في السين-ماريتيم معقل “الفابيوسية”، أصبح فيبر سيناتوراً منذ عام 1995 وحتى عام 2004، واستطاع بعدها الدخول إلى الندوة البرلمانية الأوروبية بين عامي 2004 و2014، في زمن تحوّلات عاصفة تعرّض فيها الحزب الاشتراكي لصاعقة خسارة ليونيل جوسبان انتخابات عام 2002، وتجرّع فيها محازبوه مرارة خسارة سيغولين رويال عام 2007، ليشكّل نجاح فرانسوا هولاند بارقة أمل سرعان ما تبدّد بانهيار الحزب وخروج مرشّحه بونوا هامون من الدور الأول وسط انقسامات عميقة بين أجنحة الحزب في أكبر كارثة هزّت عمارة سولفيرينو منذ عام 1969. 

لم يحب هنري فيبر إلا امرأة في حياته، عاش مع فابيان سرفان-شرايبر منذ عام 1973، وأنجب منها ستّة أولاد وتوجّ تلك العلاقة بحفل ضخم في المسرح الشتوي في باريس عام 2007، حضره صقور الحزب. كان ليونيل جوسبان ومارتين أوبري ودومينيك ستراوس-كان، وحضرت كارلا بروني التي تربطها علاقة صداقة قوية بعائلة سرفان-شرايبر المعروفة بتاريخها الكبير في عالم الصحافة وتأسيسيها لصحيفة echos. وجّه بعض “رفاق” فيبر السابقين انتقادات كبيرة لحفل زفافه واستعاد بعضهم نغمة “الشخص الذي تخلّى عن ماضيه العمالي ورضخ لتحولات العالم الجديد”. 

في مستشفى أفينيون الحكومي غادرنا هنري فيبر عن عمر 76 سنة أمضى معظمها في الشوارع وقاعات الجامعة والمكاتب السياسية، تنقّل من تنظيم إلى آخر وترك الشيوعية حالماً بتجربة اشتراكية ديموقراطية، صارع طواحين الهواء في مرات كثيرة، كسب معارك وخسر أخرى. راهن على نجاحات ولقي هزائم، لكنّه بقي مؤمناً حتى آخر لحظة من حياته بتلك القيمة التي اسمها الديموقراطية والحوار وبناء الأفكار ولم يحد يوماً عن عدائه للأبقار المقدسة في مختلف البنى الأهلية والحزبية والفكرية، ودأب وهو على مشارف الثمانين على تقديم صورة بهية عن الشخص الذي لا يشيخ ليستحقّ عن جدارة لقب دونكيشوت اليسار الفرنسي. رحل وهو في عزّ عطائه، فيا للخسارة!

مجتمع التحقق العربي | 25.04.2024

الضربات الإيرانيّة والإسرائيليّة بين حملات تهويل وتهوين ممنهجة

بينما تصاعدت حدّة التوترات الإقليمية بعدما قصفت إيران إسرائيل للمرة الأولى منتصف نيسان/ أبريل، كان الفضاء الافتراضي مشتعلاً مع تباين المواقف تجاه أطراف التصعيد غير المسبوق.