fbpx

تجوالي في أزقة القدس بحثاً عن علي طه

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

المسرحية والممثلة الفلسطينية رائدة طه تكتب عن زيارتها الأولى للقدس وعن بحثها في الأحياء التي عاش فيها والدها علي طه، الفدائي الفلسطيني الذي قاد عملية خطف طائرة العال الاسرائيلية عام 1972وقضى خلالها…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“الحنين انتقائي كبستاني ماهر، وهو تكرار للذكرى، وقد صفّيَت من الشوائب، وللحنين أعراضٌ جانبية، من بينها: إدمان الخيال النظرَ إلى الوراء؛ والحَرج من رفع الكلفة مع الممكن؛ والإفراط في تحويل الحاضر إلى ماضٍ، حتى في الحب” (محمود درويش).

وكأنَّ انتظاري لم يذهب سدى. فقدت مرةً أملاً بالعودة إلى ذاكرةٍ مشتتة، بين شجرة تينٍ يقطف منها أبي، كلَّ صباح، ويقشره بأصابع ناصعة البياض، تغدق على فمينا الصغيرين، أختي وأنا، حناناً رطباً.

وبيت جدي الملاصق للمسجد الأقصى يتوّجه بابٌ خشبيٌّ ضخم. في عينَي طفلةٍ لم تتجاوز الثالثة من عمرها، كأنه باب علاء الدين. يفتح ببطءٍ لثقل خشبه وسماكته، وقد تخطّى عمره 400 عام.

يفتح الباب، ليكشفَ عن عالمٍ ساحر، سبع غرفٍ لسبعة حجاج، من أفغانستان. نذروا حياتَهم للمسجد الأقصى، للقدس، ندى الحياة، لمدى الحياة.

لم يسأل أحدٌ عن اسمي حينَ سألت عن علي. كأنني أنا المَيتَة وهو الحيّ. لم أجد البابَ الذي كان يربطني بذكرياتٍ تاهت، لم أعرف ابنَ عمتي. أهذه هي العودة؟

بيتٌ من طبقتين، يطلّ من جهةٍ على باحة قبة الصخرة، ومن أخرى على آخر شارع طريق الآلام.

أمضيت مرحلة طفولتي الأولى، في الزاوية الأفغانية، عند جدتي، التي وصلت وبعض أبنائها، من يافا حفاةً عراة، عام 1948.

هناك، حيث نسجَ خيالي ولساني، أجملَ الحكايات.

عن الحج والي، الذي لم يتكلم إلا الأفغانية، والحج عطا محمد الذي كان مُنحنيَ الظهر، في المئة من العمر، وكان لا يزال يمارس الطقوس الدينية كلّها.

الحج فتحي، الملثَم، توفاه القدر من دون أن أعرف وجهَه، وما زلت حتى الساعة، أحاول رسم ملامحه في ذهني. أرى خالي متسلقاً شجرةَ التوت، يقطف ويقطف وأنا ألتقف ما يرميه… آكل ما ألتقط بصعوبةٍ وأصفق فرحاً.

لم يكن خالي يكبرني إلا ببضعة أشهر، نحن أخوةٌ في الرضاعة، جدتي وأمي حملتانا في رحمَيهما في سنةٍ واحدة، هكذا كنَّ النساء الفلسطينيات.

الزاوية الأفغانية، كانت مصدرَ خيالي، مرتعَ حنان جدتي وجدي، مكان الدلال واللعب.

هناك، في القدس، إلى جانب الحرم، في قلب الزاوية، بدأت الحكاية.

الجميع يقهقه ويصفق من بهجة العرض الذي كنت أقدمه.

أمشي وراءَ الحج عطا محمد، وبيدي عصا صغيرة، مَحنيّةَ الظهر مثله، أردّد كلمات من سورةٍ في القرآن الكريم، بلهجته العربية الثقيلة. أغني جملاً بالأفغانية، “لا أفهم معناها”، بصوتٍ عالٍ كما كان يصدَح الحج والي. وأطفئ النار تحت شاي الحج فتحي، عندما يدخل إلى غرفته لإحضار السكر، وأفر هاربة.

لطالما بكيت لجدتي، متوسلةً إياها، أن تجعله يزيل لثامَه لأرى وجهه، لكن من دون نوى.

كل هذا وذاك كان قبل عام 1967.

تحت وطأة ظروفٍ قاهرة، عبرنا النهر. فتوجب على أبي حملَ بناته الثلاث: شيرين، سهير وأنا أكبرهنّ. كما توجب عليه التعاملَ بفروسيّةٍ مع فوبيا أمي من الماء.

وصلنا إلى عمان، سكنّا في مكانٍ مظلم.

في القدس كان لنا بيت يطلّ على حديقةٍ غرست في ترابها ثلاث شجرات تين، أحبّ التين، بغفلةٍ عن الخطر الزاحف.

في عمان، أذكر صوت أبي عند الفجر، ودموعَ أمي الصامتة.

في القدس تركت جزءاً مني، لن أستعيده.

“الحنين، استرجاع للفصل الأجمل في الحكاية، الفصل الأول المرتجل بكفاءة البداهة. 

هكذا يولد الحنين من كل حادثة جميلة، ولا يولد الحنين من جرح، فليسَ الحنين ذكرى، بل هو ما ينتقي من متحَف الذاكرة” (محمود درويش).

لم أدرك ألمَ العود لحين زواجي من مقدسي. عدت بقلبٍ فارغٍ من الذكريات والعناقات وسند الأقارب والأعياد والبكاء في أول سنةٍ دراسية، وأغنية الصباح المدرسية، والعطل ومواسم الزيتون والمشمش والصبار، وعنوان بيتٍ ضاعَ وقفص عصفورٍ فارغ.

مكثت خالية الذهن من كلّ الأفراح والآلام، ومن أعراس أبناء عمومتي وعماتي، من صفوف الدبكة والمواويل، ومن قطَطٍ تغوص في صناديق النفايات، ومن سوق العطارين.

علي طه في كنيسة القيامة

ورثت ذكرياتٍ مجتزأة، من أمٍّ وحيدة، لفقدانها زوجاً وهب روحَه للقدس، وقضى في سبيلها.

كان دليلاً سياحياً حفظَ تاريخ محبوبته ونقله بشغفٍ نادر، كان يعشقها، يتكلّم عنها بشوقٍ وتوقٍ ودمعةٍ واحدة، لم يحتَملَ البعدَ عنها حتى وهبَها نفسَه وارتدى ترابَها.

هكذا وجدت نفسي منذ الصغَر، مرتبكةً في أحشائي.

ولدت في القدس، كبرت في الشتات، ورثت الذكريات، وعدت مثقلةً من الغربة، لأنبشَ بأظافري بحثاً عن جذور الانتماء، لكوني حُرمت قسراً منها.
منذ عام 1994، ومذ وصلت البلاد، وأنا أحلم في دار سيدي جميل. لم أمتلك من ذكريات سوى صورة باب علاء الدين، الرباط الوحيد لروحي الهائمة.

في أول ربيعٍ بعدَ العودة، ذهبت إلى باب العمود، نزَلت الأدراج المؤدية إلى البلدة القديمة، وقفت عند أول مخبزٍ في فم الحارة، انتقيت كهلاً أسأله عن علي-طبعاً أعرفه- أجاب، وهو ينظر بعيداً كي يعيد رسم ملامحه: كان أنيقاً مرحاً دائم الابتسامة.

مشيت.

وقفت عند قهوة الباسطي، وكررت سؤالي لعجوزٍ يرتدي بزةً ويعتمر طربوشاً متسلحاً بخرطوم نرجيلة، يأبى إفلاته، ويطير فوق رأسه غيمٌ من الدخان عجميّ الرائحة.

من لا يعرف علي لا يعرف القدس، لو تكلَمت الحجارة، لردّدت اسمَه.

كان أنيقاً دائم الابتسامة ومحظوظاً.

عبرت طريق الآلام المؤدي إلى دار سيدي. أسأل أحدهم عن كنيسة القيامة، لعلني أجده برفقة سياحٍ، اندفَعت ملهوفةً مسرعة، تجاوزت صفاً طويلاً ليستقبلَني مسن يضع يديه خلف ظهره، متمختراً بينَ السياح والحجاج.

“علي؟!

غابَت عيناه في سقف الكنيسة، سقى الله أيام زمان. كنت خياطاً رجاليّاً، قبل أن أمتهنَ حراسةَ الكنيسة، وقبل أن يمرضَ ولدي وأنذرَ عيشتي لهذا المكان. علي، رحمة الله عليه!”، قالها مبتسماً، “كان الأكثرَ أناقةً في أبناء جيله. كنت أخيط له بزاتَه بالتقسيط”. أضاف ضاحكاً، وتابعَ: “كان كريماً ومحظوظاً، دائمَ الابتسامة”. وأردفَ موشوشاً: “مات بعمر المسيح”.

هرولت في الاتجاه المعاكس، إلى طريق الآلام، إلى بيت سيدي جميل. وصلت بلا إرشادات، وقفت أمامَ الباب، وصعقت!

لم يكن بابَ طفولتي، كان باباً حديداً أخضر بَشعاً. كدت أفقد الوعي. طرقت بكلّ قوتي وبشكلٍ هستيريّ.

فتح لي شابٌ وسيمٌ هادئ، كأنه أنهى لتوّه صلاتَه.
أين الباب؟! صرخت في وجهه.

“أنا ابنة علي وفتحية، هذا بيت سيدي. أين الباب؟!”.

“أهلاً وسهلاً، تفضلي… الله يرحمهم”.

قالها بطمأنينة الصوفيّ.

“لا أريد أي استضافات… هذا بيتي… أين الباب؟!”.

“اهدئي يا سيدتي! الباب موجود، تفضلي”.

دخلت على مضضٍ والشَّرَر يقدَح في عينَي.

تفضلي بالجلوس، قالها وغابَ بينَ غرَف الطبقة السفليّة.

استفزّتني ابتسامته الهادئة، وصرت أتجول بين الغرف السبع، والحاكورة والمصطبة العريضة، وتأملت شجرةَ التوت. كم كبرت!

انفتح باب السماء وسقط منه أصحاب البيت، بضجيجهم ومقتنياتهم وصراخهم. عادوا جميعهم، مثلي، فَرحت.

“تفضلي الشاي بالمريمية”. اختفوا فجاةً حينَ سمعوا صوتَ الصوفيّ.

“من أنت؟! وماذا تفعل هنا؟!”، سألت.

“أهتمّ بالمكان وأصلي، اسمي عوني، وأنا ابن عمَّتك سهيلة… نورتِ القدس”.

انهرت بكاءً.

لم يسأل أحدٌ عن اسمي حينَ سألت عن علي. كأنني أنا المَيتَة وهو الحيّ. لم أجد البابَ الذي كان يربطني بذكرياتٍ تاهت، لم أعرف ابنَ عمتي. أهذه هي العودة؟

بكيت وبكى عوني الطيب الوسيم معي.

رجعت بيتي منهكةً يائسة.

يرد زوجي على هاتف المنزل، بعد يومين من زيارتي بيت سيدي.

“نعم، أهلين! تفضل! ابن عمتك عوني”، أعطاني السماعة.

“سوف نأتيك بالباب صباحَ الغد، استعدي”، قال مبشراً.

لم أنم تلك اللية لشدة ضربات قلبي التي مزقت سكونَ الليل. وعندما طَلَعَ الصبح، شرعت أبحث عن مكانٍ أضعه فيه. أردته مكشوفاً لكلّ ناظرٍ وزائر.

مسمرته على حائط المدخل المزجج قبالة الباب الرئيسيّ.

وحين استعدته استعدتني.

امتلأ صبحي بالبهجة، أحتسي قهوتي قبالةَ الباب كلَّ يوم، يفتح ببطئه المعهود. يصرصر بخفةٍ. ويخرج على أنغامه، أحياناً جدي وجدتي، وأخرى أبي. وكلّ من طرق بابَ الزاوية.

أفتحه أحياناً وأدخل لأزور عالمي، أجلس مع قهوتي في ظلال شجرة التوت. أراقب الحياة ونبضها مع أصدقاء الطفولة.

لن أتمكن من العيش من دونهم، فعزمت أن أحققَ حلمي الأول معهم. المسرح، كنت أستمتع بأدائي أمامهم وأمتّعهم.

“سأحمل إلى الخشبة، كلَّ من دق باب الزاوية”، قلت في صدري.

وها الحلم يستحيل حقيقة!

يبدو أن الإثمَ الكنعانيَّ سيظلّ فاعلاً فينا إلى الأبد…

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!