fbpx

عن فائض القوة : “علوشي” الذي لا يهزم

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

صاغ علوشي خطاباً مستمدّاً من إرث المجتمع القبائلي، “لولا تدخّل الحزب في سوريا لاغتصب داعش نساءنا”. في هذه البيئة، حيث الحقيقة دينية فقط يذكرنا علوشي بأفضاله علينا وعلى أحوالنا الممتازة في بلاد تغرق بالديون والنفايات لكنها تتنفس كرامة وعنفواناً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لا تخلو سرديات جمهور الممانعة في محاججتها خصومها وفي تسويقها نظريات معسكر حلف “الأقليات والحداثة والتنوير”، من أساليب لغوية تستند بشكل أساسي إلى مفاعيل خطاب غير مرئي. في انعدام رؤيتنا لهذا الخطاب الملموس تكمن بصيرة هذا الجمهور كاملة وتتمظهر في أشكال ومسارات كثيرة، تبدأ بالحيّز الأهلي كالعائلة ولا تنتهي في المجال العام في الساحات والشوارع وبنيان “الدولة”. لكنّ تلك البصيرة التي تنسحب على مكونات بيئة محلّية من لحم ودم، تستحيل صوراً ومقاطع كاريكاتورية يعبّر عنها “علوشي” اليوم أحسن تعبير. 

فائض القوة الذي يصرفه علوشي لحظة دنوّ الهزيمة كتعويض معنوي وتذكير بما لا يمكن نسيانه: منطق ولغة الدويلة لا الدولة في قاموس تلك الفئة التي تخاف على عناصر الجيش اللبناني من غضب الجائعين في طرابلس، ولا ترى ضيراً في إطلاق الرصاص المادي والمعنوي عليه في مناسبات كثيرة.

لمحة تاريخية 

حصل لبنان على استقلاله عن فرنسا عام 1943 وانبثق الميثاق الوطني من صيغة وحدة مسيحية- إسلامية، جعلت الموارنة يقتنعون بهوية لبنان العربية ودفعت بالمسلمين السنّة إلى التخلي عن طموح الوحدة مع سوريا. بين بشارة الخوري ورياض الصلح، غاب الشيعة فعلياً عن هذا النص غير المكتوب وبقي دورهم السياسي ملحقاً بالطائفة الإسلامية السنية حتى بروز اسم الإمام موسى الصدر الآتي من إيران وتأسيسه حركة المحرومين “أمل” وعمله على استقلال الطائفة الشيعية، عبر تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ليصبح هيئة موازية لدار الفتوى التي كانت حتى وقت قريب دار المسلمين جميعاً سنّة وشيعة. 

وعلى رغم الدور العسكري الكبير الذي لعبته حركة “أمل” مدعومة من دمشق منذ اندلاع الاقتتال الأهلي عام 1975، مروراً بالاجتياح الإسرائيلي وحرب المخيمات (85 -88) وصولاً إلى انتهاء دورها العسكري في معارك الضاحية والإقليم ضد تنظيم “حزب الله” المدعوم إيرانيا، لم يصل الشيعة في لبنان إلى قمة قوتهم إلا بعد أن انحسرت العسكريتاريا في البيئة الشيعية – التي انخرطت تاريخياً في تنظيمات وحركات يسارية وشيوعية وقومية عدا عن تجربتها في صفوف الثورة الفلسطينية – بجسم واحد: الحزب الذي حمل شعار الثورة الإسلامية في لبنان قبل أن يتحوّل إلى المقاومة الإسلامية في لبنان أي “حزب الله”. 

مع انتهاء الحرب واستلام “حركة أمل” الجناح السياسي الشيعي وانفراد “حزب الله” بالدور العسكري الذي تصاعد في التسعينات وأدى إلى تحرير قرى الشريط الحدودي في أيار/ مايو 2000، لم تبلغ “الأنا الشيعية” ذروتها إلا بعد حرب تموز/ يوليو 2006، عندما خاطب أمين عام “حزب الله” جمهوره بـ”أشرف الناس”. تلك الصيغة البنيوية لتفوّق هذا الجمهور جعلته يبادر إلى تصنيف الآخرين: صهاينة، شرفاء، عملاء، أغبياء، حلفاء.. اعتقد علوشي في تلك اللحظة أنه يمتلك الحقيقة كاملةً، وأيقنّا جميعاً في وقت لاحق أنّ منظومة أخلاقية بأكملها تم نسفها عندما أصبح السوري والفلسطيني واللبناني المختلفون في صفّ واحد. إنه صفّ الخطائين الذين لا يمتلكون الوعي الذي يستمدّه هو من خطاب “أشرف الناس”. يدافع علوشي عن سوريا وعن فلسطين ولا يكترث للسوريين والفلسطينيين، إذ لا قيمة لرأسمال بشري في معادلة التفوّق الدائمة التي منحه إياها القائد الأعلى وكرّسها فائض الانتصارات.

هجوم منصاري أمل وحزب الله على المحتجين في تشرين الثاني نوفمبر 2019

أصل الظاهرة: إرث العائلة- القبيلة، فلسفة الغيب والحقيقة الدينية

خلافاً لما هو شائع، ليس الدين وحده ما يفرّق اللبنانيين. كل شيء يبدأ في المحيط الأوّل: العائلة وتأطيرها في مجتمع السلطة الأبوية جعل علوشي يكوّن رؤية اختزالية تجاه المرأة، إذ يعتبر أنّ واجبه المنبثق من تقليد اجتماعي وشرعي يحتّم عليه السيطرة على النساء وحماية كرامتهنّ وصولاً إلى التعنيف لترويضهنّ في حال إعلان الثورة على المنظومة السياسية والدينية السائدة. هكذا صاغ علوشي خطاباً جديداً مستمدّاً من قوة السلطة الأبوية وإرث المجتمع القبائلي، “لولا تدخّل الحزب في الحرب السورية لاغتصب داعش نساءنا”. في هذه البيئة، حيث الحقيقة ليست علمية بل دينية ينبغي أن يذكرنا علوشي كل يوم بأفضاله علينا وعلى أحوالنا الممتازة في بلاد تغرق بالديون والنفايات والأدوية الفاسدة لكنها تتنفس كرامة وعنفواناً.

يقول مهدي عامل إنّ “حجر الزاوية في هذا التحديد للطائفية هو تحديد الطائفة. فالطائفة، في مفهومها البرجوازي، هي كيان مستقل قائم بذاته، متماسك بلحمته الداخلية. لذا، كانت العلاقات بين الطوائف، بالضرورة، خارجية، لا وحدة بينها سوى ما تقيمه الدولة من أطر لتعايشها السلمي”

عندما يقول لك علوشي “في شي أكبر مني ومنك”، يعود إلى أوّل الفلسفة الشيعية الباطنية التي تقول بحقيقة موازية، يمتلكها صاحب العصر والزمان الإمام المهدي الذي سيخلّص البشرية ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً. في لحظة الإيديولوجيا القوية، لا ينتظر ممثّل المهدي على الأرض خروج المخلّص بل يبادر إلى الانقضاض على السلطة ويؤسس مشروعيته على خطاب غيبي بحت كفعل تقنين ليوتوبيا الخلاص. هذه القابلية على إيجاد تبريرات لأفعاله ولكيانه متجذرة في الفكر الشيعي الإثني عشري الذي طرح فرضية متناقضة في ماهياتها: وجود الإمام المهدي وغيابه في الوقت نفسه وتبرير غيابه خوفاً عليه من القتل، لكن أليس في هذا قمة التناقض مع أخلاق أهل البيت وحبهم للشهادة في سبيل الله؟ ألسنا نرى هذا التناقض في قلب فكر علوشي الذي يتحدث عن القضايا الإنسانية والأخلاقية وفي يده عصا يحملها بوجه من يهدد حقيقته وكيانه؟

في كتابه “فن أن تكون دائماً على صواب” (dialectique éristique)، يشرح الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاوز استراتيجيات عدة تنطوي على تحوير الخطاب وتقصّد الخطأ وتجهيل الفاعل كنوع من أنواع تحقيق رصيد إيجابي في ميزان الربح والخسارة خلال المحاججة. من بين الأساليب التي يتحدث عنها شوبنهاور، أسلوب “تعميم الحجة” وهو الأكثر شيوعاً في منطق علوشي، كأن تقول له “نبيه بري سرق”، فيردّ عليك “بس ما كلّن سرقوا”، في مسعى منه إلى سحب فعل السرقة على جموع الحكام الفاسدين لتبرير عدم مشاركته في الثورة. لكن علوشي شارك في الانتفاضة وكان عصبها في أيامها الثلاثة الأولى، قبل أن يكتشف أنّ “في شي أكبر مني ومنك عم يصير”، إبان خطاب الأمين العام الذي تخرج جموع العلاليش لتلبيته بالروح والدماء واليدين. 

ليست البطولة فعلاً ماضوياً في قاموس علوشي اليوم، بل إرث لحاضر من الانتصارات ورادف لمستقبل من الحروب الرابحة تحضيراً للجولة الأخيرة في جيش الإمام المنتظر. جولات لن يتمخّض عنها سوى المزيد من القوة التي باتت تفيض عن حاجتنا إلى الشعور بالنصر ومعانيه الوهمية. 

إذاً، ينظر علوشي بشيء من الريية إلى هؤلاء المشاركين في فعاليات الانتفاضة. ريبة مجبولة بالحسرة وبالرغبة في أن يكون هو بطل المشهد الأخير الذي ينتهي بالنصر دائماً، تارة على ظهر ميركافا كما في بنت جبيل أيار 2000، وطوراً في زقاق محليّ كما في بيروت أيار 2008. فالشاب، علوشي نفسه، الآتي غالباً من بيئة فقيرة كانت ضحية سياسات الحكومات المتعاقبة التي أفرزت فروقات طبقية حادة وأسست لمبدأ عزل الفقراء وازدرائهم كشكل من أشكال التهميش الإجتماعي والمكاني (ségrégation sociale et spatiale)، سيجد نفسه خلف الشاشات ينظر إلى فقراء مثله يحطّمون واجهات المصارف ويصبّون جام غضبهم على برامج الدولة النقدية والسياسية، ينتظر إشارة زعيمه المفدّى كي يتحرّك فلا وعيه الطبقي سيستيقظ فجأة ولا مشاهد سعر صرف الدولار الجنوني ستهزّه ولا ارتفاع الأسعار الكارثي سيحمله إلى قلب الانتفاضة. اختار أن يكون على الهامش في معركة هي أصلاً معركته. تخلّف عن الموعد الكبير وبدأ يكيل اتهامات العمالة والخيانة للمنتفضين. 

على أنّ تهم الخيانة والعمالة لشارع منتفض يطالب بأبسط حقوقه وبأدنى مقومات العيش الكريم، لم تعد مشروعة في بلد منهار اقتصادياً وأصبحت شيكات بلا رصيد يستخدمها علوشي في لحظة إعلان الفوز، على رغم الخسارة الفادحة كتوجّه حكومته التي يرأسها حسان دياب إلى صندوق النقد الدولي. خطوة كان يعيبها “علاليش” السياسة على رفيق الحريري وكانوا يستخدمونها حتى وقت قريب شماعةً، لتمكين الهجوم عليه في أي مراجعة للحقبة السابقة. تلك مناورة من دون وسط أو هامش كالحروب الكبرى التي لا ينفكّ يتحدث عنها بصيغة المنتصر حتماً، ضارباً عرض الحائط النظريات والخطط الإستراتيجية وموازين القوى الإقليمية. 

سنكون حيث يجب أن نكون: في معنى فائض القوة ومفاعيله

في نشيد لفرقة الولاية يقال “يا أيها التاريخ سجّل من نكون… من خيبر إلى الحشد، قسماً لن نهون”…

ليست البطولة فعلاً ماضوياً في قاموس علوشي اليوم، بل إرث لحاضر من الانتصارات ورادف لمستقبل من الحروب الرابحة تحضيراً للجولة الأخيرة في جيش الإمام المنتظر. جولات لن يتمخّض عنها سوى المزيد من القوة التي باتت تفيض عن حاجتنا إلى الشعور بالنصر ومعانيه الوهمية. 

فائض القوة الذي يصرفه علوشي لحظة دنوّ الهزيمة كتعويض معنوي وتذكير بما لا يمكن نسيانه: منطق ولغة الدويلة لا الدولة في قاموس تلك الفئة التي تخاف على عناصر الجيش اللبناني من غضب الجائعين في طرابلس، ولا ترى ضيراً في إطلاق الرصاص المادي والمعنوي عليه في مناسبات كثيرة. يتناسى علوشي مجزرة حي السلم والشياح ويقفز على وجع كبير في الذاكرة الأهلية لتلك البيئة، كرمى لعيون الطائفة وزعيم الطائفة الفاسد وسيّدها الذي لا يريد أن ينكأ جراح الماضي والذي يمتلك حزبه – الذي يحارب في شتى أصقاع الأرض ويعلم بتفاصيل دقيقة في فنزويلا والهونولولو ويعرف من يشرب العرق البلدي في البيوتات الجنوبية وفاته إطلاق سراح العميل فاخوري- مستندات “لو تم الكشف عنها لأودت برؤوس كبيرة”. 

وعندما تقتل أميركا قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني ينبري علوشي في شارع بيروتي للردّ على الإمبريالية وأدواتها. في بلد متهالك انفرط عقده الاجتماعي، حيث يحمل لبنانيون ما لا طاقة لهم على حمله، يريد علوشي أن يردّ على الأميركي ويريد أن يسند الرئيس بشار الأسد في معركته الكبرى ضد الإرهاب، فيمضي قدماً في “تحرير البلدات السورية”، مفارقة غريبة واستثنائية تردّ التحرير إلى فعل تهجير و”ترانسفير”، لا عودة ! يسافر آلاف الكيلومترات للقتال في بلاد أخرى ويستشيط غضباً عندما يرى طرابلسياً نزل إلى وسط البلد في بيروت ليكسّر “واجهة السيستيم الأوليغارشية”. يريد علوشي أن يدعم الحوثيين ويضرب مصالح السعودية ولا يوفّر مناسبة للسخرية من أهل الخليج ونظام البداوة، ويريد أن ينتصر للشيعة في العراق ولو تحالفوا مع بول بريمير (ويجد تبريراً لذلك لا تخافوا)، يريد ويريد ويريد. يبيح ما هو محظور ويحظر ما هو مسموح ويدلّل على طريق القدس المعبّدة بالجثث وعلى ظلامة أهل البيت في كربلاء، في كل خطوة يخطوها. تلك عدّته ولوازمه وهنا مكمن الفضيحة.

الطائفية وتناسخ الظاهرة

في كتابه “عن الدولة الطائفية”، يشرح مهدي عامل، الذي قضى اغتيالاً في بيروت عام 1987، في تناوله للمسببات الاقتصادية والاجتماعية للحرب كيف يحسن الساسة والزعماء في لبنان الاختباء وراء جسم الطائفية. في كل مرة يأتي الحديث عن دولة علمانية يعمل هؤلاء على تغذية الخوف. يقول عامل إنّ “حجر الزاوية في هذا التحديد للطائفية هو تحديد الطائفة. فالطائفة، في مفهومها البرجوازي، هي كيان مستقل قائم بذاته، متماسك بلحمته الداخلية. لذا، كانت العلاقات بين الطوائف، بالضرورة، خارجية، لا وحدة بينها سوى ما تقيمه الدولة من أطر لتعايشها السلمي”. يخلص عامل إلى استنتاج مفاده أن “لا وجود لشعب ما دام شعب طوائف وبالتالي لا وجود لوطن قائم على دولة الطوائف”. هذا ما حصل فعلياً في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، عندما قامت كل طائفة بتخويف فقرائها من فقراء الطائفة الأخرى، فرأينا مشهداً سورياليا يدافع فيه علوشي عن سعد الحريري!”.

و لـ”علوشي” إخوة في شارع موازٍ وله أتراب في شوارع كثيرة في بيئات أخرى، فلا تعدو فردانيته استثناء في “العهد القوي”، الذي لطالما حلم فيه أقرانه ذات حقبة استكان فيها “المحرومون” لخطى الإمام موسى الصدر وخطبه، ونظروا بعين الحسد إلى المارونية السياسية وقالوا: ربي لا تحرمنا هذه النعمة. لكنّ تلك الحالة المستجدّة، العارفة بكل عوالم المعمورة، كثيفة الحضور بعد انتفاضة 17 أكتوبر المطلبيّة، تحوّلت إلى ظاهرة شائعة لها مواصفاتها ومفاهيمها وأساليبها التي تجاوزت الساحة الشيعية إلى ساحات الطوائف مجتمعة. أصبحت تلك الأسطوانة التي يردّدها علوشي في البيئة الشيعية تتناسخ عجباً في بيئات مسيحية وسنية ودرزية ما يحيلنا مجدداً إلى مهدي عامل وقراءته وتحليله للواقع المادي والبحث عن طبقاته الاجتماعية لتحديد أشكال الصراع بينها. 

هلا نهاد نصرالدين - صحافية لبنانية | 27.03.2024

“بنك عودة” في قبضة الرقابة السويسرية… فما هو مصدر الـ 20 مليون دولار التي وفّرها في سويسرا؟

في الوقت الذي لم ينكشف فيه اسم السياسي الذي قام بتحويل مالي مشبوه إلى حساب مسؤول لبناني رفيع المستوى، والذي امتنع بنك عودة سويسرا عن ابلاغ "مكتب الإبلاغ عن غسيل الأموال" عنه، وهو ما ذكره بيان هيئة الرقابة على سوق المال في سويسرا "فينما" (FINMA)، تساءل خبراء عن مصدر أكثر من 20 مليون دولار التي…