fbpx

الدراما السوريّة: سقف الحريات الذي وقع على الرؤوس

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الرقابة التي تتصاعد وتيرتها، المتمثلة بقصّ مشاهد من الأعمال الدرامية أو منعها بشكل كامل، أو حتى إقصاء ممثلين معارضين عن الشاشات، أنتجت موسماً رمضانياً سورياً ضعيفاً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“باتت الكتابة في الشأن السوري شبه مستحيلة في الزمن القريب، إن لم تكن مستحيلة…”. 

بمرارة، تصف الكاتبة الفلسطينية السورية إيمان سعيد واقع العمل في مجال صناعة الدراما الفنية. وإيمان كاتبة معروفة لها مسلسلات ناجحة جماهيرياً، وضمن مجموعة واسعة من الذين وجدوا في اعتزال الكتابة ملاذاً وحيداً مع الضغوط الهائلة التي تمارس على مختلف أنواع الإنتاج الفني. “خلال ظروف التضييق في السابق، كنا نتحايل لتمرير رسائلنا الدرامية بالحد الأدنى، وإلا لرُفضت وبقيت قيد الأدراج ولم يُكتب لها الخروج…”، تقول إيمان.

لطالما برزت في السنوات التي أعقبت الثورة ولاحقاً الحرب السورية معضلة الدراما السورية، التلفزيونية خصوصاً، والتي سجلت رواجاً ونجاحاً كبيراً في العقدين الماضيين، لكن الواقع الميداني والسياسي فرض قيوده القاسية على هذا الإنتاج، بحيث كان اقتراب القنوات العربية من القضية السورية بالحدّ الأدنى من الواقعية. حكم الإنتاج السوري كما الإنتاج العربي عموماً بعامل سيطرة رأس المال المنتج للعمل الفني وخضوعه لشروط تفرضها القنوات، والتي تخضع بدورها لسياسات المعلن أو المموّل وأجنداته، وهو غالباً السلطة. 

“حارس القدس”

من بين الأعمال الدرامية الأكثر مشاهدةً لهذا الموسم، مسلسل “حارس القدس”، (إخراج باسل الخطيب وسيناريو حسن يوسف)، الذي يروي حياة رجل الدين المسيحي هيلاريون كابوجي، مطران القدس للروم الكاثوليك خلال ستينات القرن الماضي وبداية سبعيناته، وهو كان داعماً للمقاومة الفسلطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي.

مشهد من مسلسل “حارس القدس”

لاقى هذا المسلسل نقداً واسعاً، إذ اعتبر كتاب ونقاد أنه يحمل تحريفاً كبيراً لوقائع تاريخية لتقديم شخصية هذا المطران بشكل يمدح الرئيس الراحل حافظ الأسد ونظام البعث السوري عموماً.

نصري حجاج، السينمائي الفلسطيني، وصف المسلسل بأنه “مسلسل أسدي” معتبراً أن النص كتب على قياس خدمة نظام الأسد. ويقول حجاج: “المشكلة في مسلسل “حارس القدس” أننا ونحن ضد موقف المطران كبوتشي في دعمه نظام بشار الأسد القاتل وعدائه لثورات الشعوب العربية، إلاّ أننا كنا نقدر له دعمه الوطني البريء للثورة الفلسطينية ومعاناته لثلاث سنوات ونصف السنة و16 يوماً في سجون الاحتلال، لكن حسن م. يوسف الكاتب البعثي مزور التاريخ وباسل الخطيب المخرج الفلسطيني السوري ربيب النظام البعثي، جعلا من النقطة الوحيدة المضيئة في تاريخ كبوتشي ممسحة عفنة ومقرفة للمصلحة الراهنة لأبشع نظام مجرم عرفه القرن الواحد والعشرون”.

“وجعلا من المطران عميلاً رخيصاً لعقيد تافه في مخابرات حافظ الأسد يلتقيه ويقدم له مغلفاً يحتوي معلومات ربما ليست عن إسرائيل بقدر ما هي عن نشطاء فلسطينيين في الداخل كان النظام يعتقلهم ويزج بهم في سجونه عندما يأتون إلى دمشق سراً للقاء بمنظماتهم الفدائية. لقد حدث هذا كثيراً وفلسطينو الفصائل يعرفون ذلك”.

الناقد الفلسطيني السوري راشد عيسى أيضاً اعتبر أن المسلسل يعبر عن وجهة نظر “الرقابة” نفسها: “هذا العمل يبدو كما لو أنه من إنتاج الرقابة نفسها، فهو خلطة من محاباة الأقليات، واستثمارها، وتوظيف شعارات القضية الفلسطينية والعروبة لمصلحة النظام السوري في حربه ضد شعبه”.

هروب من الواقع

لكن واحدة من أهم أزمات الدراما السورية أنها نأت بنفسها غالباً عن حقيقة أن السوريين خاضوا ثورة وحرباً وقمعاً هائلاً ما أنتج آلاف القصص الواقعية الدرامية، التي لم تجد طريقها إلى الإنتاج الفني التلفزيوني إلا نادراً بسبب الضغوط الرقابية.

تضاف إلى ذلك انقسامات واضحة في المواقف السياسية بين صنّاع العملية الدرامية… كلّها عوامل أرهقت الكاتب الدرامي السوري، وخيّرته بين الخضوع لها، أو الانجراف نحو وجهة واحدة، الاعتزال. 

الرقابة التي تتصاعد وتيرتها، المتمثلة بقصّ مشاهد من الأعمال الدرامية أو منعها بشكل كامل، أو حتى إقصاء ممثلين معارضين عن الشاشات، أنتجت موسماً رمضانياً ضعيفاً. 

لا يزال المطلوب محاكاة دراما بسيطة مستنسخة عن هويّات غير الهوية العربية، بحجة حدود فهم المشاهد العربي.

يقول عيسى لـ”درج”، “إذا أردنا ملاحظة ما تفعله الرقابة بتفكير المبدعين السوريين، ما علينا إلا أن نرى أعمالهم المنتجة خارج إطار الدراما السورية، وخارج سوريا، لنجد أن الأمر يتعلّق بالمجتمعات الأكثر حرية وجرأة في تناول فساد الأجهزة الأمنية والقضائية وسواها.”

فالدراما التلفزيونية في سوريا، تخضع لرقابات متعددة، من كتابة السيناريو، إلى لحظة ظهورها على الشاشة، تضاف إليها أخيراً رقابة الطوائف التي باتت تؤخذ في الحسبان أكثر من أي وقت مضى، في ضوء محاولة النظام استرضاء الأقليات الدينية والعرقية، لمحاولة تصوير الثورة في البلاد على أنها حرب الأكثرية السنية ضد الأقليات.

ويقول عيسى: “اللافت في الدراما السورية هو أنها حظيت ببعض الحرية في السنوات الأخيرة، لناحية الانفتاح على موضوعات اجتماعية كان يصعب تناولها سابقاً، وباتت الخيانة الزوجية وقصص العشق المحرّم من الموضوعات المتداولة بكثافة. كما أنها شهدت حرية أكبر في الإشارة إلى أديان وطوائف، وإن كانت في إطار محاباة الأقليات. وكل ذلك في سبيل الالتفاف على الأسئلة السياسة الراهنة الحارقة، أو تصوير الثورة بأنها سبب المشكلات المستجدة كلها”.

واحدة من أهم أزمات الدراما السورية أنها نأت بنفسها غالباً عن حقيقة أن السوريين خاضوا ثورة وحرباً وقمعاً هائلاً.

الدراما عمل منصب على صناعة الرأي، وهي قصص تتحوّل في عقل المشاهد إلى وعي جمعي للواقع السياسي والاجتماعي والتاريخي ولهذا، لذلك تسعى الأنظمة إلى بسط سيطرتها على القطاع الدرامي بشكل كامل من الكتابة إلى الإنتاج والتوزيع.

ولهذا يمارس النظام السوري الرقابة بحق أعمال فنية، وتحديداً درامية. إذ منعت الرقابة مسلسل “عناية مشددة” من العرض، على رغم موافقة لجنة قراءة النصوص عليه وإتمام تصويره في دمشق، كما حُذفت حلقات كاملة من مسلسل “وطن حاف” في عرضه الثاني. إضافة إلى اعتراضها على مسلسل “الدومري”، الذي يظهر التباين بين الإسلام الشامي المعتدل ووهابية الدين وتطرّفه. هذا عدا عن تغييب الأزمة السياسية السورية، من خلال الاكتفاء بالحديث عن تداعيات الحرب على حياة الناس اليومية، أو الهرب إلى مسلسلات البيئة الشامية، التي لا تمثّل غالبية شرائح المجتمع السوري. 

مسلسل مسافة أمان

من المسلسلات التي لقيت رواجاً واهتماماً مسلسل “مسافة أمان”، الذي عُرض الموسم الرمضاني الفائت، إلا أن كاتبة النص، إيمان السعيد، خرجت عن صمتها أخيراً وكتبت على صفحتها في “فايسبوك” منشوراً شرحت فيه ما سمّته “التحوير” الذي أصاب نصّها، مشيرةً إلى أن تأخير حديثها أكثر من عام جاء بهدف عدم التشويش على عملها الآخر (مسلسل خمسة ونص، بطولة نادين نسيب نجيم وقصي خولي ومعتصم النهار) آنذاك. 

تقول سعيد لـ”درج”، إن جملة تعديلات حدثت بعقلية أمنية على النص، بخاصة في الخط البوليسي المتمثل بملف سرقة الأعضاء البشرية ودور الأطباء فيه، والخط الدرامي لشخصية الدكتورة سلام، التي لعبت شخصيتها الممثلة سلافة معمار. 

وتؤكد أن تعاونها مع مخرج “مسافة أمان”، الليث حجو، كان مبنياً على تاريخه الذي سعى بمعظمه إلى الخروج فيه من عباءة الرقابة أو التحايل عليها. إلا أنها فوجئت بتحوير رسالة النص من دون إعلامها، ولأسباب تجهلها. إذ استعان حجو بالكاتب السوري رامي كوسا لتعديل مشاهد وإضافة أخرى.

“سُداسية المحظورات” التي أبعدت الجمهور العربي

منذ انطلاقة الثورة السورية، عانت الدراما في سوريا من انتكاسة واضحة، لا تعود فقط إلى تشرذم صنّاعها بسبب ظروف الحرب في البلاد وانقسامهم وفق مواقفهم السياسية تجاه النظام، ولا إلى انسحاب رأس المال الخليجي الذي موّل تلك الصناعة لسنوات طويلة، بل بشكل أساسي لإدراك المشاهدين أن تلك الدراما عموماً ليست سوى منتج كان يستخدم لنشر أنماط اجتماعية وأفكار سياسية وثقافية، بطريقة غير مباشرة. إضافة إلى عامل المقارنة مع الإنتاجات العالمية والعربية المتفوّقة من الناحية الجمالية والفنية والتمثيلية أيضاً، بداية بالمسلسلات التركية والمسلسلات العربية المشتركة، وصولاً إلى إنتاجات شبكة “نتفليكس”، التي شكلت لدى البعض مجالاً أوسع للمقارنة. 

الكاتبة إيمان السعيد

وفي هذا السياق، تقول سعيد إن كتّاب الدراما السورية ليسوا مقيّدين بشروط الرقابة التقليدية وحسب، (سُداسية الجيش، العَلم، الرئيس، الدين، الجنس والسياسة)، بل إن الأخطر هو قيود الرقابة الإبداعية. إذ لا يزال المطلوب محاكاة دراما بسيطة مستنسخة عن هويّات غير الهوية العربية، بحجة حدود فهم المشاهد العربي، أو بمعنى آخر، على قاعدة “الجمهور عايز كده”. في حين أن المشاهد العربي غادر الدراما العربية نحو منصات عالمية تحترم ذكاءه وحريته.

وتضيف، “نكتب ونجاهد حتى لا يتحول الرقيب الخارجي إلى رقيبٍ داخلي يعيش في عقولنا ويغتال أي فرصة لفكرة حرة، ولا يسمح بأن تجد طريقها إلى الورق…”.

يبدو أن سقف الحريات في الدراما السورية انخفض نتيجة الرقابة المشدّدة، سواء الأمنية أو الإبداعية، إلى أن تسلّل إلى الرؤوس.