fbpx

لبنان: “علم الجهل” طريقاً للمقاومة وكشف الفساد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يُمكن تعريف “علم الجهل” بأنه دراسة الأفعال المتعمدة، التي يضطلع بها عادةً صانعو القرار، بهدف إثارة الارتباك وإشاعة الحيرة والشك والخداع، أو إخفاء المعلومات.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أتذكر عندما سمعت للمرة الأولى خلال إحدى ندوات الدراسات العليا مصطلح “علم الجهل” (Agnotology) الذي طرحه بمهارة أستاذ الشؤون الدولية العبقري. في تلك اللحظة شيء ما بدا جلياً في ذهني وفجأة باتت أساليب ومخططات القوة القمعية الاستبدادية التي لطالما شاهدتها تزدهر في المنطقة العربية، تحمل اسماً وسياقاً.

صاغ ذلك المصطلح للمرة الأولى مؤرخ العلوم والأستاذ بجامعة ستانفورد روبرت بروكتور، بمساعدة عالم اللغة إيان بوال، ويُمكن تعريف “علم الجهل” بأنه دراسة الأفعال المتعمدة، التي يضطلع بها عادةً صانعو القرار، بهدف إثارة الارتباك وإشاعة الحيرة والشك والخداع، أو إخفاء المعلومات. بعبارة أخرى، فإن “علم الجهل” هو دراسة صناعة ونشر الجهل بطرق متعمدة. يتسم علم الجهل بالقوة والفعّالية إلى حد كبير: فمن الممكن استخدام ممارساته لإبقاء الأمور على ما هي عليه، والتشهير بالأعداء، والتسويق للمنتجات، وتبرير القرارات التي لا يمكن تبريرها بأي حال من الأحوال سواء بالمنطق أو بباعث الحاجة. فبلا شك، هو أداة قوية للغاية للحفاظ على السلطة، بل إن تأثيره دائم إلى الحد الذي يجعل آثاره تستمر لقرون، وتتغلغل في الأجيال، وتغسل أدمغة الأجداد والأحفاد، وتتعقد وتتحول إلى درب من دروب الهيمنة والسلطة بمرور الوقت.

“علم الجهل” هو دراسة صناعة ونشر الجهل بطرق متعمدة.

يتناسب هذا المصطلح تماماً مع السياق الإقليمي في عالمنا العربي. فقد كانت المعلومات مجرد سلاح في ترسانة النخبة، وكثيراً ما كانت تُحجب عن عامة الناس. فعندما يخوض الساسة الحروب لا يقتصر تسلحهم على الدبابات والقنابل فحسب، بل يستعينون بما هو أخطر من ذلك، وهو علم الجهل. إذ يتميز علم الجهل بالقدرة على حشد المؤيدين، وتمهيد المسارات الأيديولوجية وبناء التحالفات. فضلاً عن أنه يستغل الدّعاية والبدع الدّينيّة. ويُفسد الأنظمة التعليمية. كما أنه يشكل الآلية الكامنة وراء الشعور الدفين بالسخط والاستياء الذي يحمله عرب المهجر في قلوبهم إزاء الأمية الفكرية التي تعاني منها بلادهم، وهي حالة يُساء فهمها تماماً.

البوصلة مثال على النجاح الإقليمي

لطالما كانت مهمة المجتمع المدني هي السعي إلى تقديم “المعرفة الموضوعية الحقيقية” إلى الناس، أياً كان ما قد يعنيه ذلك، باعتبارها وسيلة للتصدي لعلم الجهل، بمعنى إبراز فكرة أن المعركة الحقيقية هي تلك التي يتعين على الصحافيين والأكاديميين خوضها، من خلال الدفاع عن عامة الناس بما يمتلكونه من معرفة، وتقديم المعلومات والأرقام القيمة والمقالات التوضيحية الشارحة. على رغم من أهمية هذه الأساليب، لا سيما في المناطق التي تكون فيها المعلومات إما مخفية أو يستحيل الوصول إليها أو حل ألغازها، فإن معدل نجاح هذه العمليات يتطلب قدراً أعظم من الاهتمام وتمحيصاً أعمق.

 لعل أحد الأمثلة النموذجية لقصة نجاح إقليمية مرموقة هي منظمة “البوصلة” التونسية غير الحكومية؛ فهي منظمة تراقب وترصد ممثلي البرلمان المنتخبين وسلوكياتهم خلال جلسات مجلس نواب الشعب. أطلقت منظمة “البوصلة” مبادرتها في أعقاب الثورة التونسية أو “ثورة الياسمين” التي كانت شرارة ثورات الربيع العربي عام 2011، ونجحت في الإطاحة بالحكم الاستبدادي في ظل زين العابدين بن علي. وبعد فترة وجيزة، أُعلن عن إجراء انتخاب المجلس التأسيسيّ، وهي أول انتخابات حرة شهدتها تونس منذ استقلال البلاد عام 1956، فضلاً عن أنها أول انتخابات تشهدها المنطقة بأسرها بعد بداية الربيع العربي.

يقول سليم الخرّاط، رئيس منظمة البوصلة لموقع “درج”، “في ظل السياق السياسي الجديد وتشكيل المجلس التأسيسيّ الجديد الذي يلعب دوراً رئيسياً للغاية خلال المرحلة الانتقالية التي تمر فيها تونس، لم يعد مقبولاً أن تستمر الممارسات التي تتسم بالسرية وانعدام الشفافية بين النخبة السياسية… لطالما طالب الناس بمعرفة المزيد عما كان يحدث في هذا البرلمان. لا سيما أن التونسيين لا يتمتعون بالثقافة الدستورية، ولم يعتادوا على الطريقة التي قد يعمل من خلالها برلمان منتخب ديمقراطياً. لذا فقد وجدنا أنفسنا في موقف يسمح لنا بتقديم معلومات دقيقة للغاية وخدمات تلبي احتياجات الناس”.

بصرف النظر عن أوجه القصور الحالية التي تعاني منها تونس، فهي دولة يُمكنها التفاخر بنجاح ثورتها والإطاحة بنظام الدكتاتورية، كما يتمتع 80 في المئة من سكانها بالقدرة على الوصول إلى الإنترنت، فضلاً عن أنها دولة تمكنت فيها منظمة على غرار منظمة البوصلة من النجاح والنمو. إذ تُقدم المنظمة غير الحكومية تقارير تكشف بالتفصيل الكامل عن سلوكيات النواب، وتحظى بتقدير واحترام وسائل الإعلام والجمهور على حد سواء لما تتسم به من حيادية شديدة. فقد كانت تصريحاتهم مؤثرة إلى الحد الذي دفع النواب أنفسهم في النهاية إلى تغيير سلوكياتهم حتى لا يُعتبروا غير مؤهلين في التقارير التي تصدرها البوصلة ويفقدون تأييد الرأي العام، وهو أمر يبدو كالحلم في بحر الفساد الحالي الذي تغرق فيه لبنان.

بصرف النظر عن أوجه القصور الحالية التي تعاني منها تونس، فهي دولة يُمكنها التفاخر بنجاح ثورتها والإطاحة بنظام الدكتاتورية

يقول الخرّاط بفخر وحماس، “قد يتصل بنا بعض النواب أو يرسلون لنا بريداً إلكترونياً لتوضيح سبب غيابهم عن الجلسات! ففي حين أنهم قد لا يرسلون ذلك إلى البرلمان، فهم حريصون على توضيح السبب للبوصلة. في بعض الأحيان نتلقى مكالمات من النواب ليقولوا، “والدتي مريضة للغاية، ويجب أن أذهب إلى المستشفى لكي أراها، ولا أستطيع أن أحضر اجتماع اللجنة اليوم”. لقد كنا نضحك! فهم يتصرفون كالتلاميذ. إلا أن ذلك كان مهماً للغاية بالنسبة إلينا. فقد نجحنا في إرغامهم على الحضور بشكل أكبر، وعلى الالتزام أكثر بعملهم في البرلمان”.

 لبنان على النقيض من تونس

يتخذ علم الجهل في لبنان شكلاً مختلفاً تماماً عن تونس. إذ لا تستند الأساليب والمخططات الرامية إلى نشر الجهل في أغلبها إلى إخفاء المعلومات، بل إلى صوغ ثقافة تاريخية متأصلة الجذور من الجهل. وفي حين تستخدم الأنظمة الدكتاتورية في الدول المجاورة أساليب تعمل على إبعاد المثقفين وطرد المفكرين خوفاً من تسريب أو كشف تُهم الفساد، فإن الفضائح في لبنان هي العرف السائد. فمن الصعب أن نتخيل أن أي شخص قد يندهش، أو أن الجماهير قد تتأثر بسبب عملية “اتهام السياسيين وكشف فسادهم”، بل ومن العبث أن نتصور أن السياسيين قد يغيرون من سلوكهم بسبب فضح فسادهم. ونظراً إلى أن لبنان يضم شبكة غنية للغاية من منظمات المجتمع المدني، تركز غالباً على مكافحة القمع من خلال “نشر المعلومات” وعمليات “نشر الوعي” التي تقوم بها المنظمات غير الحكومية، فمن الجدير بالذكر أن نتساءل لماذا لم تنجح هذه الآليات في تغيير النظام وزعزعته، ولماذا لم تتمثل جهودها إلا في بضع حركات لم تُحقق النجاح المرجو للأسف.

في مقابلة مع “درج” قال السياسي والأستاذ الجامعي اللبناني شربل نحاس إن “تأثير ثقافة الجهل يفوق قدرة شبكات المجتمع المدني. مفهوم الثقافة لا يعني أنها تؤثر في ثلاثة أشخاص فحسب، بل تستحوذ على عقلية الجميع. يثير هذا تساؤلات عدة، مثل لماذا نحن؟ وكيف تشكلت تلك الثقافة؟ وكيف نتخلص منها؟”.

يواصل نحاس حديثه قائلاً إن “هذا يتنافى مع إجراءات (الإشهار والفضح) وتوجهات منظمات المجتمع المدني. إذا كانت لدينا ثقافة جهل فهذا يعني أن هناك ترياقاً، وأن المجتمع يمتلك ترياقاً لمثل هذه الأساليب. أتصور أن أيّ شخصٍ يلقي نظرة على هذا المكان حيث تحدث كل يوم 100 فضيحة -وحتى الحراس الشخصيين للسياسيين- يمكنه أن يخبرك قصصاً فظيعة عن فساد السياسيين، ومع ذلك لا يعبأ أي أحد بهذا”.

الجهل باعتباره ظاهرة مؤسسية

يُعد الجهل ظاهرة مؤسسية، وقد غرست أجهزة السلطة جذوره على مدى قرون من اعتماده والإقرار به، وعليه فإن عملية القضاء عليه يجب أن تشمل الجانب المؤسسي أيضاً بالتوازي مع أساليب مكافحته الأخرى. من دون إجراء تغييرات مؤسسية ضخمة في الطريقة التي تُدار بها الدولة، ومن دون إحداث انقلاب جذري في أنظمتها التي تأسست على مدار عقودٍ، فمن غير المرجح أن تتغير الطريقة التي يتلقى بها اللبنانيون المعلومات عادة على نحو مؤثر، مثلما قد تفعل ثورة ناجحة.

قال جميل معوض، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية ببيروت، لـ”درج”، “لطالما كانت لدينا ثقافة الإشهار والفضح، منذ التسعينات. وقد سبق لبنان تونس في تبني ثقافة الإشهار والفضح بكثير. لكن عندما يصبح الفساد جزءاً من النقاشات العامة ومع ذلك لا يتناوله النظام القضائي، فهنا تكمن المشكلة”.

يضيف معوض، “يعلم الجميع أن الساسة في لبنان فاسدون ويعلم الجميع أيضاً أنهم سرقوا أموالاً. إذن هل يكترثون إذا ما سرقوا مليون أو مليونين أو حتى أربعة ملايين؟ في مرحلة ما، قد نساهم في تضليل العامة في الوقت ذاته، وهي المرحلة التي نتحدث فيها عن إصدار السياسات، ونركز كثيراً على البيانات باعتبارها تُجمع بطريقة مستقلة ولا تخضع لأيّ تأثير أو تدخل خارجي”.

لا تستند الأساليب والمخططات الرامية إلى نشر الجهل في أغلبها إلى إخفاء المعلومات في لبنان، بل إلى صوغ ثقافة تاريخية متأصلة الجذور من الجهل.

عادة عندما يكون هناك عجز كبير في هياكل السلطة والحكم، فإننا نجد أن الهياكل غير الرسمية هي التي تُعوض هذا العجز، ويتضح هذا بجلاء في الميدان الاجتماعي الافتراضي في لبنان. إذ يحل المهووسون على موقع “تويتر” محل خبراء الاقتصاد السياسي، وأصبحت الحسابات النسوية على موقع “انستاغرام” تعمل بالنيابة عن الآليات القانونية الفعالة لمواجهة التحرش الجنسي، في حين بات النشاط الإلكتروني عبر التدوينات ومنشورات “فايسبوك” بديلاً من القنوات الإخبارية الحكومية التي تروج للدولة. وتُعد المبادرة التي أطلقها أخيراً الناشط اللبناني أسعد ذبيان عبر موقع “الليرة” (ellira.org) مثالاً على إحدى أدوات الأنشطة غير الرسمية التي تهدف إلى مكافحة التعتيم على البيانات المالية للإدارات العامة اللبنانية.

في هذه الحالة، يأخذ الموقع البيانات الحكومية التي سبق أن نُشرت بالفعل للجمهور، لكنها نُشرت بطرائق معقدة ومبهمة ومُلغزة تجعل من المستحيل تقريباً الوصول إليها، ثم يعرضها بأسلوب مُبسط ومناسب تماماً للباحثين والصحافيين أو المواطنين اللبنانيين العاديين. أطلق موقع “الليرة”، الفريق ذاته الذي أطلق مبادرة “غربال” عام 2018، التي تشبه إلى حدٍ ما منظمة “البوصلة”، والتي كانت تهدف إلى شرح القوانين ومراقبة تطبيق الدولة لها من خلال نشر تقارير دورية لتقييم أداء الإدارات العامة.

يقول أسعد ذبيان، “يعد هذا الموقع نشاطاً في حد ذاته، في دولة كان التيار السائد فيها هو حجب البيانات وعدم نشرها، أو نشر بيانات يتعذر على عامة الناس الوصول إليها أو إصدار بيانات معقدة يصعب إيجادها وتصفحها”. ويضيف، “ما تقوم به ويكيليكس هو شكل من أشكال النشاط لأنهم يظهرون لك بيانات لم تكن متاحة ونعتقد أننا نفعل المثل، من خلال منح الناس الأدوات اللازمة لمحاسبة المسؤولين في السلطة باستخدام الأرقام التي أصدروها لتوهم”.

 إجراءات غير رسمية بالتوازي مع ثورة

المشكلة المطروحة هنا هي مدى إمكان تطبيق إجراءات المساءلة تلك. عندما اندلعت احتجاجات 17 تشرين الأول/ أكتوبر، جعلتنا نعلم بوضوحٍ ما تستطيع الثورة فعله في توعية الجماهير، ذاك النوع من التوعية الذي يمكنه إعادة تشكيل الحياة السياسية بالكامل. ولم تعد إعادة تدوير المعرفة ممكنة -بخاصة تلك المعرفة بالغة الأهمية التي توفرها مبادرة موقع “الليرة” وغيرها من المبادرات- من قبل دوائر محددة لا تملك غالباً الرغبة أو الإرادة أو الوسائل اللازمة لإحداث تغيير حقيقي. لكن بمساعدة الجماهير، وثقتهم في المعلومات التي تتم مشاركتها، تغيرت قواعد اللعبة تماماً.

يوضح ذبيان ذلك قائلاً، “ما أريد قوله هو أن الثورة حققت ما كنا نحلم به لسنوات. أتذكر أنه خلال الستة أشهر الماضية، فعلياً من تشرين الأول وحتى كانون الثاني/ يناير، نظمنا 15 لقاءً لمخاطبة الجمهور، وقد حضر مئات الأشخاص إجمالاً وكانوا متشوقين للغاية لمعرفة المزيد حول كيفية إتاحة المعلومات… سمعنا أشخاصاً في الثورة يتحدثون عن إتاحة المعلومات والشفافية. وقد رأينا أيضاً أن الخطاب السياسي وكذلك القادة السياسيين والأحزاب السياسية يتحدثون أكثر عن إتاحة المعلومات ومكافحة الفساد. وتضاعف عدد الإدارات التي استجابت لنا منذ التقرير الأول الذي نشرناه عام 2018 والثاني عام 2019”.

تضرب ثقافة الجهل السائدة في لبنان بجذورها عميقاً، وتستند إلى موروث تاريخي، ولا يمكن القضاء عليها ببساطة من خلال تلك الوسائل غير الرسمية لإتاحة المعلومات وحسب. لكن تلك المبادرات -التي تعمل جنباً إلى جنبٍ مع ثورة تسعى إلى الإطاحة بمن هم في السلطة حالياً وتهدف إلى إعادة صوغ الضوابط والتوازنات الرقابية المعمول بها في الدولة منذ قرون وسد الفراغات بها- تمنحنا فرصة للمقاومة. وستكون الأشهر المقبلة، بعد أن تأخذ أزمة “كورونا” مجراها الطبيعي، حاسمة في تحديد مستقبلنا.