fbpx

جريحات الثورة التونسية… تشوّهات عميقة يتجاهلها القضاء والدولة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“سيبقى لكنّ شرف الحرية لأنكنّ وقفتنّ بشجاعة في وجه النظام البائد وهتفتن بملء حناجركن ضد الظلم والاستبداد”

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“انقلبت حياتي رأساً على عقب منذ 16 كانون الثاني/ يناير 2011 عندما اخترقت جسدي أربع رصاصات توزعت بين ساقي اليسرى ويدي اليمنى وصدري ومؤخرتي. عدت إلى الحياة بتشوهات كبيرة في جسدي وروحي بعد صراع مرير دام سنوات مع العمليات الجراحية، ولكن ما آلمني أكثر هو خذلان القضاء العسكري الذي لم يكن حكمه عادلاً بشأن قضيتي”.

بهذه الكلمات تحدثت نورة المرنيصي إحدى جريحات الثورة التونسية لـ”درج” عن المخلفات الصحية والنفسية للطلقات النارية التي استهدفتها بعد يومين من هروب الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي. 

والمرنيصي ككثيرات من جريحات الثورة التونسية اللاتي كن في الصفوف الأمامية إبان أحداث الثورة التي اندلعت ضد النظام، بعضهن واجهن رصاص قوات الأمن وحتى الجيش وأخريات تم اعتقالهن وتعذيبهن وسحلهن. لكن وعلى رغم مرور 9 سنوات على هذه الذكرى وجدن أن آثار الرصاص والاعتقال المحفورة على أجسادهن لن تكون لها قيمة لدى الطبقة السياسية التي لم تصل إلى سدة الحكم لولا تضحياتهن والجرحى والضحايا، وأدركن أنهن سيواجهن التلاعب القضائي بقضاياهن تارة والتهميش والتنكر طوراً.   

ويزيد امتناع رئاسة الحكومة عن نشر “القائمة الرسمية لجريحات الثورة وجرحاها وشهدائها”، في الجريدة الرسمية المصاعب، علماً أن القيام بهذه الخطوة، يكسب القائمة الصبغة القانونية وضمان حقوق أصحابها. لكن وعلى رغم نشر هيئة حقوق الإنسان والحريات الأساسية التي تتبع الرئاسة التونسية القائمة منذ أشهر، إلا أن رئاسة الحكومة تصر كغيرها من الحكومات السابقة على تجميد هذا الملف والتراخي في حسمه وتجنيب المعنيين به مشقة الأعباء التي يتحملونها منذ عام 2011 بسبب هذا التعاطي السلبي مع قضاياهم. 

وكانت هيئة حقوق الإنسان والحريات الأساسية التي تتبع الرئاسة التونسية، قد أصدرت في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر 2019، قائمة تقول إنها نهائية، لضحايا الثورة وجرحاها تضمنت 129 قضوا قتلاً و634 جريحاً فقط. 

وعلى رغم أهمية هذه الخطوة إلا أنها لن تكون فاعلة بالنسبة إلى عائلات الضحايا وجريحات الثورة وجرحاها، في ظل التزام رئاسة الحكومة الصمت وترك تلك الوثائق حبيسة الرفوف وعدم نشرها في الرائد الرسمي، على رغم مراسلات الهيئة العليا للحقوق والحريات الأساسية.

ولهذا استأنفت عائلات ضحايا الثورة وجرحاها مسيراتها الاحتجاجية واعتصاماتها أمام البرلمان ورئاسة الحكومة والهيئات الحقوقية، للضغط على رئاسة الحكومة للإفراج عن القائمة النهائية، ومنحهم الفرصة لإنهاء ملفاتهم العالقة منذ سنوات.

10 عمليات جراحية

عندما تم إسعافها بعد ساعتين من إصابتها بالطلقات النارية أخبر الأطباء نورة بأنها قد تفقد ساقها بسبب خطورة مكان الرصاصة، أصابها الخبر بالهلع وتمسكت بألا يفعلوا ذلك. وبعد تنقلات مرهقة بين مستشفيات عدة طمأنها الأطباء إلى أن ساقها لن تُبتر، لكنها في المقابل خضعت لأكثر من 10 عمليات جراحية متتالية.

وعلى مدار سنوات متلاحقة واجهت نورة صنوفاً مختلفة من التعب والألم للتخلص من آثار الرصاصات التي توزعت في أماكن مخالفة من جسدها من دون جدوى، وأصرت على ملاحقة الجاني الذي كاد يفقدها حياتها، إنما من دون فائدة.

يزيد امتناع رئاسة الحكومة عن نشر “القائمة الرسمية لجريحات الثورة وجرحاها وشهدائها

تقول: “بعد عمليات جراحية عدة لم تبتر ساقي نعم لكنها شفيت مع اعوجاج شديد يعقد حياتي، وبعد علاج طويل لم يستطع الأطباء إعادة يدي كما كانت وأخبرني أحدهم أنني سأعيش بألم دائم في صدري. أما جلادي الذي اعترف بجرمه وأملت أن يقتص لي القضاء منه بعدل، فقد حكم عليه بخطية مالية بقيمة 200 دينار (أقل من 100 دولار) وشهرَي سجن سرسي (في حالة سراح)”. 

كان الحكم القضائي صدمة بالنسبة إلى نورة المرهقة، وعلمت حينها أن لا فائدة من مواصلة التتبع، لا سيما بعدما أسرت إليها محاميتها بأنه تم تغيير الجاني الحقيقي بآخر. وأيقنت أن جهات نافذة باتت تتلاعب بملف جرحى الثورة وضحاياها، كما يحلو لها، ما يعني، برأيها، أن أناساً بلا سلطة على غرارها سيعجزون عن مواجهة جلاديهم والنيل منهم بسلطة القانون.  

ولا يزال ملف شهداء الثورة وجرحاها يراوح مكانه منذ سنوات، في ظل تعمد الحكومات المتعاقبة غض الطرف عنه وتأجيل حسمه. وأوكل الملف اليوم للدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية، على أن تتولى تحديد المسؤوليات ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات. لكن الأحكام الصادرة ظلت دون انتظارات الجرحى وعائلات الضحايا.

وصدر في تشرين الأول 2011 المرسوم عدد 97 المتعلق بالتعويض لضحايا ثورة الحرية والكرامة، يعتبر في فصله السادس أنه “يقصد بشهداء الثورة ومصابيها على معنى هذا المرسوم، الأشخاص الذين خاطروا وضحوا بحياتهم من أجل تحقيق الثورة ونجاحها واستشهدوا أو أصيبوا بسقوط بدني من جراء ذلك ابتداء من 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 إلى 28 شباط/ فبراير 2011”.

والمرسوم ضبط المنافع المخولة لفائدة ضحايا الثورة التي شملت التمتع بجراية شهرية يضبط مقدارها بأمر تصرف لفائدة القرين، ما لم يتزوج من جديد، ومنح أبناء الضحية في حال وفاة القرين أو حرمانهم منه، الحق في الجراية إلى حين بلوغهم 18 سنة أو انتهاء مزاولتهم تعليمهم أو التكفّل بأم الشهيد وأبيه إذا كان الذي سقط غير متزوج. إلى جانب الحق في مجانية العلاج في الهياكل العمومية للصحة وفي المستشفى العسكري ومجانية التنقل في وسائل النقل العمومي بالنسبة إلى القرين والأبناء إلى حين بلوغهم 18 سنة أو انتهاء مزاولتهم تعليمهم.

كما أنشأ المرسوم “لجنة شهداء الثورة وجرحاها” التابعة للهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، لتتولى إعداد القائمة النهائية لضحايا وجرحاها الثورة.

وبناء على هذا المرسوم، نال جرحى الثورة وعائلات الضحايا، بعض المنافع إلا أنها ظلت غير نافعة، بسبب تأخر إصدار القائمة النهائية من قبل الهيئة العليا لحقوق الإنسان وتراخي الحكومات في التعاطي مع هذا الملف.

جروحٌ لا تُشفى

تم اعتقالها في الـ12 من كانون الثاني 2011، لدى خروجها مع المحتجين المطالبين برحيل بن علي، إذ تم نقلها جراً إلى مركز الشرطة في مدينتها (تالة القصرين وسط غربي). هناك تعرضت عواطف زمالي للضرب والتعنيف، فأصيبت بكسر خطير في يدها، إضافة إلى إصابات أخرى ولم تغادر مكان الاعتقال إلا مساء الـ14 من الشهر ذاته، عندما هاجم المحتجون مركز الأمن وأطلقوا سراح المعتقلين.

الحادثة كان لها بالغ الأثر الصحي والنفسي بالنسبة إلى عواطف، فذكريات الجر والتعنيف والاعتقال أرهقتها طويلاً، وهي التي لم تتوقع أن تعايش هذا المقدار من العنف والخوف والترهيب، فضلاً عن آلام يدها المستمرة حتى اليوم نظراً إلى خطورة الكسر الذي تعرضت له وتأخر الإسعاف. لكن الموجع حقاً هو إفلات جلاديها من العقاب وسحبها مع جريحات الثورة التابعات لمدينتها من القائمة الأخيرة لضحايا الثورة التونسية وجرحاها.  

وتصف عواطف ما حدث قائلة: “ما يحز في نفسي اليوم أنني أرى من قامت بجري وتسببت في كسري وإهانتي وتعنيفي من دون عقاب بل وترتقي في سلم مهنتها كما لو أنها لم ترتكب أي جرم يذكر، بينما أُجازى وبنات مدينتي بإخراجنا من قائمة شهداء الثورة وجرحاها، على رغم حيازتنا ما يثبت أننا أصبنا بأساليب مختلفة لدى خروجنا للاحتجاج ضد نظام بن علي”.

وعواطف ليست الوحيدة التي سُحِب اسمها من “قائمة شهداء وجرحى الثورة”، بل فوجئ كثيرون بشطب أسمائهم، ولهذا يواصلون تحركاتهم الاحتجاجية، للمطالبة بنشر القائمة في الرائد الرسمي، حتى يتسنى لهم اللجوء إلى القضاء الإداري عسى أن ينصفهم. كما تعلو الأصوات المطالبة بإجراء تحقيقات شفافة حول العدد الحقيقي للجريحات والجرحى الذين أصيبوا في أحداث الثورة بخاصة في مدينة وتالة (تابعة لمحافظة القصرين).

عندما تم إسعافها بعد ساعتين من إصابتها بالطلقات النارية أخبر الأطباء نورة بأنها قد تفقد ساقها بسبب خطورة مكان الرصاصة، أصابها الخبر بالهلع وتمسكت بألا يفعلوا ذلك.

رئيس “لن ننساكم” المعنية بقضية ضحايا الثورة وجرحاها، علي المكي يقول لـ”درج” إن “الدولة تعاملت مع جريحات الثورة كما تعاملت مع معظم ضحايا الثورة، حاولت أن تختزل الأمر ببعض التعويضات المادية ولولا الضغط الذي مارسناه طيلة سنوات لما حصل بعض المرضى على علاج. الدولة التونسية تريد التملص من جريمتها التاريخية بحق شهداء الثورة وجرحاها، وأرادت أن تقبر الملف وما زالت تحاول، ولعل خير دليل على ذلك، امتناعها عن تفعيل المرسوم عدد 97 لسنة 2011 والذي ينص في أول فصوله على نشر القائمة الرسمية لشهداء الثورة ومصابيها بالرائد الرسمي دليل على ذلك”.

ويعتبر المكي أنه على رغم حساسية المسألة بالنسبة إلى جريحات الثورة، بخاصة اللاتي تعرضن لانتهاكات جسدية كبيرة على غرار عواطف الزمالي، إلا أنهن كن جريئات ووقفن أمام المجتمع وتحدثن عن تفاصيل التعذيب الجسدي والنفسي اللذين تعرضن لهما وتعرفن إلى جلاديهن وواجهنهم أمام المحاكم العسكرية. لكن أجهزة الدولة سعت الى إخفاء هذه الحقائق بما في ذلك “هيئة الحقيقة والكرامة” التي تعمدت تجاهل هذه الحالات. 

“سيبقى لكنّ شرف الحرية لأنكنّ وقفتنّ بشجاعة في وجه النظام البائد وهتفتن بملء حناجركن ضد الظلم والاستبداد”، يقول مكي لبطلات الثورة المظلومات.