fbpx

لماذا لا أشتاق إلى سوريا؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“هل تشتاق إلى سوريا؟” سألني أحد الشباب فجأة حين رأى نظري يسرح باتجاه درعا.”لا ليس هنالك اشتياق”.”لماذا أتيت إلى هنا إذاً؟” سألني. أجبته: “لأرى سوريا من الجهة الأخرى”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

خلال 22 سنة من الغياب القسري عن سوريا، لم تشدني الرغبة لزيارة البلاد المحطمة. استطعت العيش من دونها في بلادي الثانية التي أصبحت بلادي الأولى، بينما ذهبت بلادي الأخرى إلى الذاكرة الخفية، التي تأتيني أحياناً في منامات عابرة، وأحياناً أخرى في منشورات “فايسبوك” والأخبار الحزينة الآتية من خلف ذلك الستار الحديدي. 

لكنني وجدت نفسي غارقاً في رغبة قوية في زيارة البلدان التي تحيط بسوريا، بل والذهاب حتى إلى نقاط الحدود التي تفصلها عن سوريا لالتقاط بعض الصور للأسلاك الشائكة أو ربما استشعار الحزن الآتي من الجهة الأخرى عبر الهواء.

تأشيرة عبور

بعد غياب 9 سنوات عن سوريا، وبعد الانسحاب القسري لجيش النظام من لبنان، قمت بزيارة لبنان في آب/ أغسطس 2005 وأمضيت بعض الوقت مع عائلتي للمرة الأولى في منطقة البترون التي تبعد من بيتنا في طرطوس أقل من ساعة. الشيء الرئيس الذي شعرت به فور وصولي إلى مطار بيروت الدولي كان الخوف… والخوف فقط. لم تسعفني فكرة الاطمئنان لأن قوات الأسد انسحبت من لبنان، فقد استيقظت قصة الرعب الذي ذقته من مخابرات النظام في رأسي، ولم تستطع المحاولات الجادة أن تبعدها من ذاكرتي. وفي اللحظة التي أنهى موظف الهجرة أسئلته المزعجة وقام بوضع ختمه على جواز السفر (لا أحمل جوازاً سورياً)، قلت له “خلصنا”؟ فتمنى لي تمضية وقت جميل في البلد، وما إن نظرت “إلى تأشيرة الدخول التي طبعها على جواز السفر الخاص بي، حتى فهمت قصده بأنه تمنى لي وقتاً جميلاً في سوريا لأنه طبع على الجواز “فيزا عبور لـ15 يوماً”. أمضيت وقتاً جميلاً في لبنان ولم تشدني الرغبة أبداً للعبور إلى “هناك”. 

حاولت جاهداً منع الذكريات الأولى التي باغتتني عن حياتي في سوريا من النوم بقربي، على الأقل في الليلة الأولى لي في بيروت. كيف كنت أعبر شارع الحمراء وأتلفت في كل الجهات لأرى إن كان هناك شخص ما يتبعني أو دورية أمن عسكري تقف على طريق الجامعة لتنزلني من “السرفيس” وتهينني أمام زملائي وزميلاتي، كيف لا، وقد دامت تلك الحالة سنوات طويلة حتى مغادرتي إلى سوريا. 

الشيء الرئيس الذي شعرت به فور وصولي إلى مطار بيروت الدولي كان الخوف… والخوف فقط. لم تسعفني فكرة الاطمئنان لأن قوات الأسد انسحبت من لبنان، فقد استيقظت قصة الرعب الذي ذقته من مخابرات النظام في رأسي، ولم تستطع المحاولات الجادة أن تبعدها من ذاكرتي.

الجولان

في أول زيارة إلى فلسطين المحتلة في شباط/ فبراير 2017، طلبت من صديقي الفلسطيني مراد أن يتوجه بي فوراً إلى الجولان. وبالفعل في اليوم التالي ذهبنا أنا وصديقة وصديق فلسطينيان، وما إن اقتربنا من حدود الجولان حتى ملأتني مشاعر غريبة لم أكن أعرف إن كانت مشاعر فرح أم حزن أم غضب. تلك المنطقة الساحرة الجميلة التي ما زالت بيوتها البازلتية المهجورة على طرفي الطريق، تحكي قصة حزينة عن منطقة كانت يوماً ما قصة جمال وأصبحت ذكريات من الماضي والشوق المتبادل على طرفي الأسلاك الشائكة. دبابات صدئة، بيوت مدمرة لم تعد كما كانت ويبدو أنها لن تعود. كان الوصول إلى مجدل شمس بمثابة الوصول إلى القمر في ستينات القرن الماضي. شيء غريب بدا لي هناك. صفان من الأسلاك الشائكة المكهربة وسيارات جيب قبيحة للغاية. من على بيت صديقنا ياسر بدت لي التلة التي كنت أزورها من الجهة الأخرى أيام ذكرى ما يسمى “الاستقلال” أو “عيد الجلاء”. 

“تلك هي تلة الصيحات؟” سألت ياسر.

“نعم، إنها هي”. 

تلك التلة المشهورة التي كنا نأتي إليها مع سميح شقير ومئات الأشخاص لنحتفل بـ”عيد الجلاء” ونغني للجولان ولمجدل شمس ونصيح للسوريين والسوريات في الجهة الأخرى المحتلة من الجولان. بقيت لبعض الوقت مسمراً في مكاني، صامتاً على غير عادتي، وأنا أنظر إلى تلك الجهة البائسة من السياج. كل ما كنت أسمعه هو صوت القذائف والصواريخ جراء القتال بين النظام والمسلحين. كنت كلما أغمضت عينيّ قليلاً أتخيل حجم الدمار الهائل والبيوت التي تسقط الآن فوق رؤوس ساكنيها وساكناتها. بعد صمت، حملنا بعض الأحجار ورميناها باتجاه سوريا وقلت للصديقين: صار الجولان محتلاً من الجهتين! 

لم يتغير شيء في مدى رغبتي، لم تعتمل في داخلي أي نوستالجيا، أو توقظ في الرغبة بالعبور إلى مكان كنت زرته مراراً بعد عذابات الحصول على موافقات أمنية للاقتراب من الجولان، لأن أصحاب النظام “المقاوم” لا يسمحون للسوريين والسوريات بالاقتراب من منطقة الجولان المحتل وفاء لعهود قدموها لإسرائيل. الحالة الغريبة أو الطبيعية على الأغلب، أنني عندما عدت إلى لندن، اجتاحتني مشاعر غامرة بالاشتياق لمجدل شمس وليس لخان أرنبة على الجهة المقابلة. 

في الزيارات اللاحقة، زرت بحيرة طبرية ومياه الحمة ومسعدة والقرى التي كان يحدثني عنها والدي أو أصدقائي في الجزء الأول من حياتي التي عشتها في الداخل السوري. استمعت للفلسطينيين عن الخيانات والألم، وعما حصل من أجل “تسليم الجولان” و”كذب الدبابات الأخرى” وغيرها من القصص، وصارت تطاردني الرغبة أكثر في العودة إلى هنالك لأستمع إلى المزيد من القصص. 

الطريق إلى درعا

في زيارتي الأخيرة إلى الأردن في الخريف الماضي تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، خصصت يوماً كاملاً لأرى مناطق حدود الأردن مع سوريا. انطلق السائق الأردني الودود الذي تعرفت عليه في الليلة السابقة في الصباح الباكر باتجاه الحدود، وبعد قليل من الوقت رأينا لوحة كتب عليها: “الطريق إلى درعا”! 

لم أزر درعا من قبل، إذ لم يكن هنالك سبب لزيارتها خلال الفترة التي عشتها في سوريا، لكن بعد هذا الغياب وبعد هذه الأحداث، كانت رؤية الطريق إلى درعا كافية لاجترار بحور من الذكريات. أول شيء قفز إلى مخيلتي كان صورة حمزة الخطيب، الطفل الدرعاوي الذي فقد حياته بشكل عنيف على يد “إخوته في الوطن” لجرأته على المشاركة في الحلم السوري.

 “هل سمعت بحمزة الخطيب؟” سألت السائق. 

“لا لم أسمع به”، أجاب باستغراب. 

وحين أخبرته قصته، قال لي بلطف شديد: “لا أتوقع أنك تشتهي زيارة هذا البلد الذي يقتل مثل هذا الطفل”، ثم فتش عن محطة إذاعية تبث من السويداء السورية “ليذكرني بسوريا أكثر”. بعد الاستماع إليها لدقائق، انطلقت عبارات التطبيل والتبجيل لـ”قائد الوطن”. شعر السائق بي فأسكت المحطة على الفور. 

وأخيراً وصلنا إلى منطقة تسمى عقربا، مقابل منطقة أو قرية تابعة لدرعا اسمها الشجرة. القريتان تطلان على وادي اليرموك الجميل، بترابه الأبيض ومائه القليل وبساتين الليمون والبرتقال في الأسفل، وإلى اليسار نقطة التقاء سوريا والأردن بفلسطين. كان الشعور غريباً، وكأنه شيء أكبر من الوصف… شعور مختلط عابر لتلك المناظر الجميلة. ذهبنا مع ثلاثة شباب أردنيين يعيشون في القرية إلى أقرب نقطة يسمح بالذهاب إليها. كنت أراقب السائق وهو يتكلم مع الشباب المحليين، وشعرت بأنهم أيضاً يراقبون سلوكي بلطف لمعرفة ما كنت أشعر به. 

جلسنا جميعاً على شرفة مقابلة تماماً لبيوت قرية الشجرة، وبالعين المجردة رأينا البيوت المهدمة والمئذنة المدمرة. أما الشباب الثلاثة فقصوا لنا مع الصور والفيديوات كيف كانوا يجلسون ليراقبوا طيارات النظام والطيارات الروسية وهي تقصف القرية والقرى المجاورة. جميع الشباب لهم أقرباء في الجانب السوري، ولهم أيضاً كروم زيتون، حيث أقام النظام بوابة يسمح لهم الدخول عبرها لأوقات محددة وقصيرة، لجني محصولهم. 

“هل تشتاق إلى سوريا؟” سألني أحد الشباب فجأة حين رأى نظري يسرح باتجاه درعا.

“لا ليس هنالك اشتياق”، أجبته باختصار. 

“لماذا أتيت إلى هنا إذاً؟” سألني شاب آخر. 

“لأرى سوريا من الجهة الأخرى”. أجبت وضحكنا جميعاً بصمت. 

كانت درعا سابقاً تعني الكثير بالنسبة إلي، ففيها عمل والدي في الخمسينات من القرن الماضي مدرساً، في مدن داعل والنعيمة وغيرها. وزارها في ثمانينات القرن الماضي ليستكمل أوراق تقاعده، روى لنا بمرارة كيف غير النظام درعا، وكيف بنى بنايات لضباط الجيش. بقيت الصورة معلقة في خيالي إلى أن رأيت درعا من الجهة الأخرى للشريط الحدودي. 

عدنا بعد ساعات من التنقل في المناطق الحدودية، وفي طريق العودة رأينا لافتة كتب عليها “الحدود السورية الأردنية العراقية”، وعلى الفور قال السائق لي “سنزورها في المرة المقبلة”. 

ذهبنا في طريق العودة لنرى درعا الصغيرة كما سماها السائق. كان مخيم الزعتري غير بعيد من الحدود. وصلنا إليه، ورأينا ما رأيناه هناك… أطفال يطلبون المساعدة أمام المخيم، فوضى على المدخل، شباب ورجال ونساء يجلسون على أحجار صغيرة أمام المخيم بصمت مؤلم. بضع كلمات كانت كافية لحمل أكوام من الألم والقهر الذي لا ينتهي. 

في المساء، عدنا إلى عمان. نظر إلي السائق وقال: “الآن أتفهم أنك لا تشتاق إلى سوريا وأتفهم فضولك لرؤيتها من الجانب الآخر”!