fbpx

الدولار والاحتكار يُحاصران المنطقة الكوردية في سوريا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“قبل القفزة الجنونية للدولار كان الفقراء يكتفون بشراء ربع كيلو من اللحم وبالدين حتّى نهاية الشهر، الآن لا نبيع في اليوم كله 15 كلغ، وأغلبه بالدين”…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يقف شهرزاد (49 سنة) أمام محلٍ لبيع اللحوم في قامشلو شمال سوريا طالباً 50 غراماً من اللحم، ويحار اللحام كيف يتدبر طلبه، فالكمية المطلوبة يصعب قياسها بسبب ارتفاع سعر كلغ من اللحم إلى 10500 ليرة (ما يوازي 20 دولاراً). 

تتقاطع هموم شهرزاد والآلاف من أبناء المدينة معاً. فهو عامل مياوم وبعد قرابة الـ45 يوماً من دون عمل نتيجة حظر التجوال ما بين التام والجزئي بسبب فايروس “كورونا”، حصل على عمل يومي بـ3 دولارات فقط. طلب من “درج” التحدث على انفراد مخافة الاحراج “أقسم أن ولديّ نسيا لون اللحم وطعمه، عدا عن أنواع الفواكه، نعيش بفقرٍ ذليل، جيراننا يُرسلون لنا بعض الأطعمة التي نعطيها للأولاد، وأكتفي مع أمهم بأيّ شيء آخر”.

عادة ما كان سوق اللحم يعج بالزبائن في فترة الصباح، لكن ملحمة أنس وغيره من اللحامين، تتكدس فيها اللحوم، فيما تراجع عدد الزبائن وقدرتهم الشرائية.

يقول اللحام لقمان الأومري: “قبل القفزة الجنونية للدولار كان الفقراء يكتفون بشراء ربع كيلو من اللحم وبالدين حتّى نهاية الشهر، الآن لا نبيع في اليوم كله 15 كلغ، وأغلبه بالدين. عائلات كثيرة لا تتجاوز كمية اللحم الذي تشتريه شهرياً أكثر من كلغ فقط، وعلى دفعات وبالدين”. يفتح لقمان باب البراد الذي يَحفظُ فيه اللحم، حيث تكدست أرطال اللحم فوق بعضها بعضاً، يتذمر منتقداً قرار تصدير المواشي إلى إقليم كوردستان “لو مُنع التصدير لانخفض سعر اللحم لدينا، التجار هنا يفضلون التصدير لتحصيل المزيد من الأرباح”.

المشهد عينه والصورة ذاتها يتكرران في مختلف الأسواق حيث لا معيل للفقراء سوى رحمة السماء، ولا سند لهم سوى انتظار مصيرهم الأسود في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار، مع انهيار قيمة الليرة السورية أمام الدولار، حيث اقتربت من حاجز الـ2000 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد. 

تقول أم وفاء (35 سنة)، “منذ ساعة وأنا أبحث عن بضع غرامات من الخضار لوجبة الطعام، الأسعار مرتفعة إلى درجة أنني اشتريت ثلاث حبات بندورة فقط وخسّة كي أصنع منها سلطة مع بعض الرز الذي تبرع به الميسورون لنا”. تتنهد قليلاً ققبل أن تطلب منا التأمل في وجوه الموجودين في سوق الخضار، “أنظر إليهم وكأنها وجوه من دون دماء، لا أبشع من الفقر سوى مذلته. كُلهم يكذبون. لا أحد يساعد الفقراء سوى من يشعر بوجع هذا البلد”.

وتشير أم وفاء إلى المسؤولين السياسيين الذين لا يفعلون شيئاً لمساعدة الناس، وتقول: “لو أن الله يحقق لي أمنية واحدة، ستكون أن أجدهم فقراء محتاجين لكسرة خبز حينها قد أصدّق أن العدالة موجودة”.

أبو خالد يبيع شتلاتٍ من النعناع والبقدونس والخسّ والبندورة، يقول: “لماذا يصر التجار على جلبِ الخضار من الداخل السوري، ودفع الضرائب لحواجز النظام والإدارة الذاتية، فنضطر إلى بيع البندورة بـ1000 ليرة سورية، مقابل أن السعر لا يتجاوز الـ600 ليرة سورية للبندورة المستوردة من كوردستان العراق، وقِس على ذلك بقية أنواع الخضار”.

قامشلو تُمول دمشق بالملايين

نشر موقع “نورث بريس” تحقيقاً قال فيه إن ملايين الدولارات تُهرب إلى دمشق من مدينة قامشلو، بما تمثله من ثقل تجاري واقتصادي وسياسي مهم في عموم المنطقة الكوردية. وتحدث التحقيق عن “إقدّام مجموعة أشخاص من أصحاب النفوذ في الأسواق على سحب كميات كبيرة من الدولار وإرسالها إلى العاصمة دمشق، ما يتسبب بارتفاع أسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية في الأسواق المحلية”. كما أشار التحقيق إلى أن “العملة السورية بعد وصولها إلى المطار تدخل أسواق قامشلو بواسطة سيارات شحن متوسطة من نوع أنتر بين الحين والآخر. وتقوم تلك المجموعة بشراء مبالغ كبيرة من الدولار وإرسالها عبر مطار القامشلي إلى دمشق بهدف ضخها لاحقاً في خزينة مصرف سوريا المركزي”. ويُشير التحقيق إلى اتهامات واضحة لارتباط هؤلاء بالنظام السوري ويوضح أن “أصحاب محلات صرافة في المدينة يتهمون تلك المجموعات التي تعمل على سحب الدولار من الأسواق بارتباطها بـ”الخلية الاقتصادية” وأن صاحب محل الصرافة المعروف إبراهيم حفطار، صرح بأن خلية الأزمة الاقتصادية التابعة للحكومة السورية هي أهم أداة لديها للتحكم بجميع الأسواق في سوريا”.

ولمعرفة ملابسات القضية توجه “درج” إلى وليد علي رئيس اتحاد الصرافين في إقليم الجزيرة الذي نفى قطعياً إرسال عملة الدولار إلى دمشق، “لا دليل على ما ذكره التحقيق، وسعر صرف الدولار في دمشق أقل منه في قامشلو، لذلك الناس يرغبون في صرف عملاتهم من دمشق لدينا وليس العكس، والعملة تبقى وتُصرف وتتداول في المنطقة”.

وتحدث وليد عن قانون “قيصر” الذي ينتظر إقراره في واشنطن ضد النظام السوري والمتعاونين معه معتبراً أنه سيضر الاقتصاد، “سيرتفع الدولار إلى 3 آلاف ليرة أو أكثر. الآن وقبل فرض العقوبات الاقتصادية فإن سعر صرف الدولار غير ثابت ويرتفع باستمرار. الجميع يخسر، محل الصرافة والتاجر والمشتري وحتّى من يرغب ببيع مدخراته من العملات لشراء العملة السورية المتهاوية، فعمليات البيع والشراء تخضع لارتفاع سعر الدولار أو انخفاضه”.

“في العالم الماضي احترقت هذه الأرض كلها، ويبدو أننا أمام حرق المواطنين هذا العام”

ملايين الدولارات شهرياً

يستحيل إخراج الدولار من دمشق سواء عبر المطار أو براً، بخاصة بعد المرسوم الجمهوري بمنع التداول بغير العملة السورية، ومحاولة صرفه في قامشلو، نظراً إلى حاجة دمشق للدولار، ما يُرجح إرسال مبالغ ضخمة من العملة إلى دمشق عبر وسطاء مُحددين.

بيد أن أحد تجار العملة الذي اشترط عدم ذكر اسمه، قال لـ”درج”: “معظم الدول الفاعلة في الشأن السوري مثل إيران وروسيا، تطالب بمستحقاتها ومصاريفها التي قدمتها في الحرب الدائرة في سوريا منذ نهايات 2011، وتشكل المنطقة الكوردية أخصب منطقة في سوريا لسد حاجة دمشق من العملة، إذ يبلغ إجمالي المبالغ المرسلة من المقيمين خارج سوريا، إلى عائلاتهم في المنطقة الكوردية قرابة المليوني دولار، ويتراوح حجم العملة المتداولة عبر المنظمات الدولية والإغاثية والتي تدخل إلى المنطقة قرابة 8 ملايين دولار، عدا عن واردات المعابر التجارية والإنسانية وبيع النفط وغيرها”. 

وتعتبر المنطقة الكوردية إضافة إلى محافظتي الرقة ودير الزور مناطق نفوذ أميركي اقتصادياً، ولم تتحول إلى محميات أو مناطق نفوذ سياسي أميركي كامل أسوة بكوردستان العراق. لذا ثمة مشكلة في قضية الرواتب التي تمنحها الحكومة السورية والإدارة الذاتية. وبمقاربة بسيطة فإن رواتب الإدارة الذاتية قبل قرابة الــ3 سنوات بلغت نحو 110 دولارات، بينما اليوم لا يتجاوز راتب الموظف لدى الإدارة الذاتية 60 دولاراً. “بات لا بد من إعادة النظر في سلم الرواتب للموظفين لدى الحكومة السورية والإدارة الذاتية، أو منح مبالغ مالية لجميع الأسر وفق دفتر العائلة للجم الهوّة السحيقة بين المداخيل والمصاريف”.

كوفيد

يقول السياسي الكوردي المستقل أكرم حسو وهو أول رئيس للإدارة الذاتية عام 2014، إن “قرار الإدارة الذاتية بشراء محصول القمح بسعر زهيد، إنما يفوق خطر كورونا”، فلاقت التسمية التي أطلقها صداً كبيراً حيث يقول أن “سعر القمح يُمكن أن يُسمى كوفيد 225، فآثار قرار التسعيرة يفوق مخاطر فايروس كورونا”.

زار “درج” الريف الكوردي في شرق قامشلو والتقى مزارعين متضررين من هذا القرار. يقول المزارع أبو آلان: “هذه الإدارة تتعامل بعقلية الند والصراع مع الشعب، رُبما نجد أحدهم يتعارك مع أي فرد من هذا الشعب إن أبدى اعتراضه على قراراتهم. حين تم تسعير القمح كان الدولار قرابة 1120، اليوم انخفضت الليرة السورية إلى 1800 للدولار الواحد، وهو ما يعني ارتفاعاً مخيفاً وجنونياً في أسعار كل شيء. على الإدارة الذاتية أن تشتري القمح بالدولار ولو بـــ25سنتاً”.

يُخرج أبو آلان دفتراً صغيراً من أحد رفوف غرفته الطينية التي استقبلنا فيها، يُقلب الصفحات ليُخبرنا: “الإدارة الذاتية باعت السماد بالدولار وستشتري القمح بالعملة السورية”. طلب منا زيارة أرضه الزراعية، جلس القرفصاء وقال: “في العالم الماضي احترقت هذه الأرض كلها، ويبدو أننا أمام حرق المواطنين هذا العام”. ينهض وبابتسامة ساخرة يُخفي وراءها مرارة كبيرة يقول، “يا هيك الإدارات والحكومات يا أما بلا”.